أظن اليوم الإثنين، ثم يتبين لي أنه الأربعاء، أيام الأسبوع السبعة لها نفس الملامح والتقاطيع، لماذا يختلف اليوم في وجداني عن اليوم الآخر؟ أليست أسماء الأيام مجرد اصطلاحات تأريخية من أجل التقويم والحساب، لماذا لا يكون اليوم الجديد هو في الأصل تكرار لليوم نفسه، كل الأيام يوم واحد.
لا شيء في الطبيعة يدل أن هذا هو العام ٢٠٢٠، التقويم الغريغوري المعمول به اليوم لا يتجاوز ٥٠٠ عام، اسم السنة مجرد اصطلاح كذلك اسم اليوم، والزمن نهر سيّال شفاف متشابه الملامح.
هذه الأيام أقرأ كتاب لحظة الأبدية، أتأمل الالتماعات الخلابة لقراءة الكاتب سمير الحاج شاهين، وهو يدرس الزمان في أدب القرن العشرين، الأوربي منه تحديدًا، وتراودني أفكار من هذا النوع، أتذكر في الأدب العربي أبا حيان التوحيدي في كتابه الإمتاع يتحدث عن الإعجاب والشغف بالجديد والتجديد، وينبهنا إلى أن الشغف بما يستجدّ شغف سطحي، فما من جديد إلا وهو في اللحظة نفسها غير جديد.
جدّة الشيء في اللغة حافته، وجدة النهر والوادي حافتهما، والجُدة الخطوط، هذه خطوط الأيام، قال ابن دريد في جمهرة اللغة: “وكل خط جُدة، وفي التنزيل: “ومن الجبال جُدَدٌ بيض”، أي طرائق تخالف لون الجبل”. كأنما هي تحدده، وقال الزبيدي في تاج العروس (أجدَّ الثوب وجَدّدَه واستجدّه صيّرهُ أو لبسهُ جديدًا، فتجدّد، وأصل ذلك كله القطع، وأما ما جاء منه على غير ما يقبل القطع فعلى المثل بذلك) أتأمل ذلك وأتذكر قولنا جداد النخل أي قطع عذوق الثمر في موسم الحصاد، ألذلك يقال في المثل: (الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك).
نبحث عن الجديد، وكأنما نبحث عن ذلك القطع المزدوج، نقطع الزمن ويقطعنا، نقطع الطريق ويقطعنا الطريق، الجديد القاطع على حافة نهر الزمن، وكي يبقى الجديد قاطعًا فعليه أن يتشبث بالزمن وينزرع في الماضي، وفي ذلك الماضي تكون جذوره، لأن الماضي هو الرحم الذي يولد منه كل جديد.
يمضي الماضي، ورغم مضيه لا يختفي، هناك دروب سحرية، السفر عبر الزمان ممكن، نزور الماضي، ماضينا، من هنا إلى الطفولة التي صارت ما وراء السنين، في غمضة عين نسافر هناك، ونرى أنفسنا الطفولية أيام كانت تنعكس فيما حولها، نراها من الداخل، كما نراها الآن، فمن داخلنا يمكن عبور الزمن في لحظة، كل الماضي رهن تذكرنا له، حاضر كله، داخلنا، وحين يتقدم العمر بالناس يتنزهون في ماضيهم، كأنه حديقة، يكتشفون بمرور الأيام أن الماضي هو حديقتهم السّرية المفقودة، يستحضرونها متى ما أرادوا، يستعيدون كل من رحل وما رحل، زمان الصبا والشباب وذكريات الغرام والحوادث، كل ذلك في الماضي الذي لم يمضِ:
أحبتنا الذين ظنناهم رحلوا
إلى الأبد
ما زالوا أحياء
هناك
في الماضي
الذي رحلنا عنه.
يا للشاعرية التي تحيط بنا في خضم الزمن، يشدنا الحاضر بقوته الراهنة، بواقعية اللحظة، وننسى أنه نسيج الماضي، يتقدم بنا أبعد فأبعد عن جذورنا الأولى وينابيعنا وبداياتنا، التي تكمن هناك في الماضي الذي نظنه خلفنا، فيما هو كامن داخلنا.
إذا انهار الماضي ينهار الحاضر، ولا يجد أساس معنى في ذاته، لأن أساس المعنى في ذلك الماضي المتراكم منه، هو الماضي الذي نعود إليه ونستلهم منه ونقتبس، ونعود إليه ونبني عليه، هو مادة حياتنا المستمرة، وعبر عودتنا المستمرة من الحاضر إلى الماضي نبني تصورنا عن الحاضر، الذي يغدو بدوره ماضيًا وكأن الحاضر هو آلة نسيج، تنسج حافة الزمن التي نسميها الحاضر الجديد، وتحوله إلى ماضٍ، وما نكاد نقول الآن حتى تتحول إلى كان.
شرح الفيلسوف والكاتب العربي الكبير عبد الرحمن بدوي نظريته عن الزمان الوجودي في كتاب بنفس العنوان واستعرض النظريات الفلسفية والعلمية حول الموضوع، ذلك أن الزمن يشغل الجميع فلاسفة وفنانين وأدباء، وهذا ما التقطه المتنبي مرة:
صحبَ الناسُ قبلنا ذا الزمانا وعناهم من أمرهِ ما عنانا
يغدو للآية القرآنية في فهمي الآن إيحاء مختلف، “وإن يومًا عند ربك كألف سنةٍ مما تعدون”. الزمن أحد أركان الوجود الأساسية، والزمن والعمر في جوهره ليس غير الزمن الذي نقضيه على هذه الأرض، عمرنا في مجموع عمر الأرض، ما نعيشه من اللحظة المتحول إلى ماضٍ، مدة بقائنا حتى نتحول إلى ماض، ومن هذا الحاضر نحن لا نملك غير هذه اللحظة المرتعشة الذاهبة.
نظن الأرض ذاهبة إلى المستقبل، إلى الغد، فيما يتجه الزمن إلى الماضي، كلما تقدمت الأرض يتسع الماضي، وكأنما هو الذي يحصد كل هذا الحصاد الزمني، الماضي خلفنا كأنه ملك على عرش الزمن.
قال التوحيدي في الامتاع: كذلك أن للعتيق وجهين أحدهما “يشار به إلى الكرم والحسن والعظمة، وهو موجود في قول العرب: البيت العتيق، ووجه آخر يشار به إلى قدم من الزمان مجهول”، ويقول قبلها: “التعجب منوط بالحادث، وأما التعظيم والإجلال فهما لكل ما قدم إما بالزمان وإما بالدهر، ومثال ما يقدم بالزمان الذهب والياقوت وما شابههما من الجواهر التي بعُد العهد بمبادئها وسيمتد العهد جدًا إلى نهاياتها، وأما ما قدم بالدهر فكالعقل والنفس والطبيعة، فأما الفلك واجرامه المزدهرة في المعانقة العجيبة ومناطقه الخفية فقد أخذت من الدهر صورة إلهية وأحدثت فيما سلف منها صورة زمانية”.
كل نص هو ماضٍ مهما يعيش في المستقبل ويستعاد، بما أنه كنص مكتوب في الماضي، هكذا نتقاسم هذه اللحظة مع حشود من الماضي، منذ حوادث جيولوجيا الأرض القديمة كل ما مسَّ الجبال والتراب والبحر والشمس، حتى الشمس والقمر، والنصوص حفظت لنا حتى مشاعر الماضي وأفكاره، قصيدة جاهلية قالها شاعر مجهول مشى بقدميه، ترانيم الشمس المشرقة التي كتبها اخناتون في مصر منذ أكثر من ثلاثة آلاف عامه، هكذا حتى أصبح الماضي أكبر من قدرة استيعابنا، هائل هو الماضي، إنه عمر الأرض كله.
يقول ابن دريد الذي سكن قبل ألف ومائة عام من هذه اللحظة في مقصورته:
أراجعٌ لي الدهرُ حولًا كاملًا إلى الذي عوّد أم لا يُرتجى
إن الجديدين إذا ما استوليا على جديدٍ أدنياه للبلى
الجديدان عند العرب هما الليل والنهار، يقطعان الآن ويحولانه إلى حواف محددة من الليالي والنهارات الماضية، بين شروق الشمس وغيابها، يأتي الوليد من جسد الأم والأب الماضيين، والثمرة الجديدة من شجرة الماضي، والثوب الجديد من قطن الماضي، وآخر المنتجات والمبتكرات مصنوع من أفكار الماضي، والقصيدة واللوحة الجديدة، من فن الماضي، هكذا نعيش في مملكة الماضي أكثر مما ندرك، ونحن غرقى اللحظة الجديدة منه، تقطعنا بحدتها.
ما زلت أقرأ كتاب لحظة الأبدية، أليس الزمن مجرد حركة أرضية، والحركة تقاس بالمسافة، بالمكان، لذلك يتحد الزمان والمكان في النظرية الفيزيائية، ليلدا الزمكان، في الفيزياء الزمان والمكان واحد، فهل فهمنا الزمن حقًا؟
أنا في الصفحة ١٨٤ التي لا أعرف إن كانت مكانًا أم زمانًا في كتاب، يدعى اللحظة الأبدية، أقرأ:
تختلط كل المواقيت تنصهر وتذوب معًا في كل مبهم يحاكي الأبدية، لكن من أين لهذا الحاضر الثابت معنى الدوام، إنه يستمر أيضًا وهذا ما يمنحنا الإحساس بالماضي، إنه يستأنف ذاته من جديد وهذا ما يهبنا الشعور بالمستقبل، اليوم يلغي الأمس والغد ويؤكد وجوده معهما وانطلاقه منهما، إنه صدى قديم، يبرز مرة تلو أخرى وهكذا دواليك إلى ما لا نهاية.