يميّز عبد الفتاح كليطو بين الخطاب الإغريقي والعربي، حيث يقول في كتابه، الأدب والغرابة: “لم يكن همّ البلاغيين العرب -بعد أن استقرّ الإسلام- إبراز قوانين إنتاج الخطاب، وإنّما قوانين تفسير الخطاب”. كانت الخطابة/ الريطوريقا الإغريقية تتغيّا كيفية خلق الخطاب الذي يُقنع المستمعين، بما يتضمّنه من أفكار، وذلك يعود إلى أنّ مجالها كان الساحة العامة. ولقد أنتجت هذه الثيمة في البلاغة الإغريقية؛ الصراع الذي دار بين أفلاطون والسفسطائيين. في حين جاءت البلاغة العربية تبعًا للنصّ القرآني الكريم، وتحت سلطته وكان هدفها التأكيد على علوّه المطلق تجاه بقية أنواع الخطابات من شعر وسجع كهّان ونثر، لذلك ذهبت إلى تفسير الخطاب القرآني وتأويله، ولم يعد يعنيها ما تهدف إليه البلاغة الإغريقية. فالخطاب القرآني، قد أنهى هذا الجانب من الصراع البلاغي، سواء أكان الأمر عبر نصوصه أم من خلال ما قدّمه التراث الإسلامي من قصص ونوادر تخلّد تلك المعركة الخطابية بين القرآن، وغيره من النصوص التي سبقته.
المعركة التي سبقت بدر:
يقدّم التراث العديد من القصص، عن الصدمة الثقافية والصراع البلاغي حول بنية الخطاب، الذي حدث إبّان نزول القرآن الكريم، في مواجهة ما ساد لدى الجاهليين من أساليب بلاغية كان على رأسها الشعر وقول الكهّان.
ولقد جاء عتبة بن ربيعة وكان سيد قومه كما يذكر ابن كثير، مفاوضًا الرسول – صلى الله عليه وسلم- كي يترك دعوته، فأسمعه الرسول بعضًا من آيات القرآن، ثمّ عاد إلى قومه قائلًا: “إنّي سمعت قولًا، والله ما سمعت مثله قطّ. والله ما هو بالسحر ولا بالشعر ولا بالكهانة”.
وهذا الوليد بن المغيرة ينحو المنحى ذاته: “وروى الحاكم (3872) عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أَنَّ الْوَلِيدَ بْنَ الْمُغِيرَةِ قال لقريش: ” وَاللَّهِ مَا فِيكُمْ رَجُلٌ أَعْلَمَ بِالْأَشْعَارِ مِنِّي ، وَلَا أَعْلَمَ بِرَجَزٍ وَلَا بِقَصِيدَةٍ مِنِّي ، وَلَا بِأَشْعَارِ الْجِنِّ، وَاللَّهِ مَا يُشْبِهُ الَّذِي يَقُولُ شَيْئًا مِنْ هَذَا، وَوَاللَّهِ إِنَّ لِقَوْلِهِ الَّذِي يَقُولُ حَلَاوَةً ، وَإِنَّ عَلَيْهِ لَطَلَاوَةً، وَإِنَّهُ لَمُثْمِرٌ أَعْلَاهُ مُغْدِقٌ أَسْفَلُهُ ، وَإِنَّهُ لَيَعْلُو وَمَا يُعْلَى، وَإِنَّهُ لَيَحْطِمُ مَا تَحْتَهُ”.
وقد دخل القرآن الكريم بقوة في هذه المعركة الخطابية البلاغية، إذ جاءت العديد من الآيات لتؤكد مخالفته لما اعتاده العرب من أساليب كلامية وبنيويّة: “وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ” – “بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ”.
حسم الأمر، وانتهى هذا الجدل البلاغي، إلّا أنّ الجمر تحت الرماد. قدّم أبو الخطاب القرشي في كتابه، جمهرة أشعار العرب في الجاهلية والإسلام، فصلًا بعنوان (في القرآن مثل ما في كلام العرب) وجاء هذا الفصل بعد التأكيد على أنّ القرآن قد نزل بلغة العرب، حيث ذكر ما جرى مع ابن العباس عندما جاءه نافع بن الأزرق والحَرُوري يسألانه في القرآن، فقال: “القرآن كلام الله عزّ وجل، خاطب به العرب، على لسان أفصحها؛ فمن زعم أنّ في القرآن غير العربية، فقد افترى؛ قال الله تعالى: “قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ”. نستطيع أن نستنتج مما ذكر أنّ أمر الصراع بين الأنماط الخطابية البلاغيّة لم ينته! ولذلك يقدّم أبو الخطاب العديد من الأمثلة على أن لغة القرآن تنسج على منوال بلاغة العرب، لكنّها أفصح، فالله لا يخاطب قومًا إلّا بلغتهم. يعرض أبو الخطاب مثالًا على ذلك كقول امرئ القيس: “قِفا فاسألا الأطـلالَ عـن أُمّ مـالـكِ/ وهل تُخبِرُ الأطلالُ غيرَ التّهالُكِ”، فقد علم امرؤ القيس أنّ الأطلال لا تجيب وإنّما قصد أن يقول: قفا، فاسألا أهل الأطلال، ثمّ يورد أبو الخطاب الآية الكريمة: “وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيهَا” والمعنى؛ اسأل أهل القرية. يضع أبو الخطاب الكثير من الأمثلة عن التوارد والتشاكل والتعالق بين الأساليب البلاغية والكلامية بين القرآن وما قاله العرب، فهذا لا يطعن في بلاغة القرآن العليا لأنّ الفرض كان في الأساس قد نزل بلغة العرب وعلى أفصح وجه.
بعد ما تقدّم، لماذا يظلّ الجمر تحت الرماد لا ينطفئ، بل يتقد بين زمن وزمن آخر؟ قبل الإجابة على هذا السؤال! لا بد من عرض عدّة قصص.
النبي الذي ضيّعه قومه:
خالد بن سنان العبسي، هو من أنبياء أهل الفترة. وأهل الفترة مفهوم إسلامي يعني المدّة الفاصلة بين رسالة النبي محمد ونبوّة المسيح. وقال عنهم المسعودي: “جماعة من أهل التوحيد، وممن يقرون بالبعث، وقد اختلف الناس فيهم: فمن الناس من رأى أنّهم أنبياء، ومنهم من رأى غير ذلك”. والذي يهمنّا من ذلك ما جاء في كتب التراث عن اللقاء بين الرسول وابنة خالد بن سنان.
التقت المُحيّاة ابنة خالد بن سنان الرسول، فقال لها: “مرحبًا ببنت أخي، أبوك نبيّ ضيّعه قومه”. ويذكر التراث بأن المُحيّاة سمعت الرسول يقرأ سورة الإخلاص، فقالت: كان أبي يقرأ هذا.
تطاير بعض الرماد، واتقدت الجمرات! سورة الإخلاص تمثّل بيضة الميزان في المفهوم الذي يطرحه القرآن الكريم عن الله. وهنا لابدّ من السؤال: هل ذكرها في التراث الإسلامي من باب أساليب الطعن بالقرآن التي انتصر عليها، أم أنّ الأمر يتعلّق بصراع مخفي مع الديانات السماوية السابقة على الإسلام، التي أنهت التفكير بقدوم رسالة أخرى؟ فتأتي هذه القصة للتأكيد على الامتداد التاريخي للمفهوم الذي طرحته سورة الإخلاص في تاريخ المنطقة! ومن ثم لم يكن الطرح القرآني بدعًا عمّا سبق، ولم يرد به جبّ المفاهيم الأخرى، ولكن بالوقت نفسه تأصيل التأصيل. هذه هي ابنة خالد بن سنان تؤكّد على أقدمية مفهوم سورة الإخلاص كلمة ومعنى. وإذا كان لنا أن نحلّل الاستراتجية، التي تهدف إليها هذه القصة، فهي تنقسم إلى شقين: الردّ على الجاهلين، بأنّ ما جاء به الرسول ليس أضغاث أحلام. والشقّ الثاني: ربط الرسالة المحمدية بالخطّ السماوي، وخاصة إبراهيم عبر إسماعيل.
يوم انشق القمر:
طلب أهل مكة معجزة من الرسول ضمن منهج المجادلة الذي اتبعوه معه: “بَلْ قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلَامٍ بَلِ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ شَاعِرٌ فَلْيَأْتِنَا بِآيَةٍ كَمَا أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ”. ارتفعت الأصوات في مكة، التي ترى بالقرآن الكريم خطابًا مغايرًا، كما ذكرنا في البداية. ومن ثمّ انتقل المعارضون لمرحلة حاسمة في الصراع، بأن طلبوا آية كما حدث في الأولين، فكانت معجزة القمر:”اقتربت الساعة وانشق القمر”. فهل حسمت المسألة هنا؟
على ما يبدو أنّ الأمر على العكس من ذلك، لذلك عرضت الكتب التراثية لقاء ابنة امرئ القيس بابنة الرسول فاطمة، متهمة الرسول (ص) بأنّه قد سرق مطلع قصيدة لأبيها:” اقتربت الساعة وانشق القمر/ من غزال صاد قلبي ونفر”. بعيدًا عن التشكيك بأنّ القصيدة لامرئ القيس، فالأمر من ذكرها يكاد أن ينفي المعجزة، فالشاعر الجاهلي ابن بيئته ولن يتَصوّر أن يستلهم امرؤ القيس هذه الصورة من دون مرتكز سيسيولوجي ثقافي. وهنا إن ثبت أنّ امرأ القيس قد قال ذلك، لأصبح من اليسر التشكيك بمعجزة انشقاق القمر، لكن لماذا جاء ذلك وفق الطرح اللغوي، لأنّ المعركة كانت في الأساس لغوية؛ وعندما تهدم البنية اللغوية، فذلك يستتبع سقوط الحسّي، ومعجزة إنشقاق القمر معجزة بصرية. جاء عن ابن مسعود: “انشق القمر على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فرقتين، فرقة فوق الجبل وفرقة دونه”.
القارعة:
استتباعًا لمعجزة شقّ القمر، نجد أنّ هذه المعجزة من إحدى علامات الساعة التي حدثت، ففي الحديث الصحيح: “خمس – من علائم يوم القيامة- قد مضين الدخان والقمر والروم والبطشة واللزام”.
إذن يرى بانشقاق القمر، علامة عن قرب الساعة. وقد قال الرسول: “بعِثْتُ أَنَا وَالسَّاعَة كَهَاتَيْن”.
لقد كانت المفاهيم السائدة في ذلك الزمن تُنكر البعث ويوم القيامة، وعرض القرآن لمواقف عديدة، تتعلّق بهذه المسألة: “وَضَرَبَ لَنَا مَثَلًا وَنَسِيَ خَلْقَهُ قَالَ مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ * قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَهَا أَوَّلَ مَرَّةٍ”. إذن حادثة إنشقاق القمر ليست مجرّد معجزة خارقة لإقناع القريشيين، بل هي في صلب الجدل الفكري والعقائدي الذي دار بين الإسلام والجاهليين.
يرتبط امرؤ القيس مع الخطاب القرآني بكثرة الاستعارات التي استند فيها القرآن الكريم لامرئ القيس! لربما يعود ذلك لأنّ امرأ القيس هو أول من من قرّب ماء الشعر/ الخطاب البليغ، لمن بعده، فهو صاحب قول كبير، ليس من أحد يضاهيه. في معلقته المذهبة التي يقول فيها: “فَمِثْلِكِ حُبْلَى قَدْ طَرَقْتُ ومُرْضِعٍ/ فَأَلْهَيْتُهَا عَنْ ذِي تَمَائِمَ مُحْوِلِ”. نجد أنّ القرآن يعتمد على هذه الصورة في وصف أهوال يوم القيامة: “يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ”.
إنّ العلاقة بين الآية المذكورة آنفًا وبيت امرئ القيس من أقوى الأدلة من بين ما ذكر عن استعارة القرآن لبعض الجمل التي قالتها العرب. الغريب أنّ أبا الخطاب القرشي في جمهرته لم يتطرّق لهذا الرابط الواضح، على الرغم من أنّه في القسم الذي أورده في كتابه عن (في القرآن مثل ما في كلام العرب) كان الأولى أن يذكرها! هل خشي من ذكرها أم أنّه بعد أن سادت بنية الخطاب القرآني الإقناعي على غيرها من أساليب الإقناع، لم يعد مهمًا الخوض في معركة الخطاب، فالمنتصر له جميع الغنائم.
وتدليلًا على الفرق النوعي الذي يقع بين أنواع الخطاب وعلى حظر التجاوز والتعاور بينها، نذكر بأنّ جميل بثينة قد قال البيت التالي: “تَرَى الناسَ ما سِرْنا يَسيرون خَلْفَنا/ وإن نحن أَوْمَأْنا إلى الناس وَقَّفُوا” فأغار عليه الفرزدق وتملّكه والسبب في ذلك، أن جميل شاعر الغزل والفرزدق شاعر الفخر والهجاء والبيت ينتسب لنمط الفرزدق، لا إلى النمط الشعري لجميل بثينة.
ليس بخاتمة:
إنّ الأنماط الخطابية التي عارضها القرآن الكريم وانتصر عليها، ظلّت تلعب في فنائها الخلفي بعد انتهاء المعركة، وإن كانت بين الفينة والأخرى تشرئب محاولة أن تعاود المجادلة، لكنّ النمط الخطابي ما إن يستقرّ حتى تصعب زحزحته، فبشار بن برد عندما أراد أن يقول غزلًا، كان عليه أن يتبع نمط الشعر الغزلي حذو النعل بالنعل والقذة بالقذة. وها هو يقول مع أنّه ضخم الجثة: ” إنّ في بُرْدي جسماً ناحلاً / لو توكأتِ عليه لانهدم”. في حين نجد أبا النواس كعادته في كسر الأنماط الخطابية يقول بتهكّم خفي: ” تَعجَبينَ مِن سَقَمي/ صِحَّتي هِيَ العَجَبُ”. كان بالإمكان طمس ما ذكر أعلاه من قبل المسلمين، أسواء كان صحيحًا أو منحولًا، لكنّ ذلك سيؤدي إلى اختلال المعادلة. أليس اللون الأبيض يسبب العماء إن ساد، كما في حالة الثلج، لذلك كان لا بدّ أن يوجد المقول الآخر: الضدّ يظهر حسنَه الضدُّ.
إنّ الممارسة اللغوية الديمقراطية، التي نراها في الأيام الأولى للإسلام، شاهد عيان على أنّ أيّ خطاب مهما كان مقدّسًا لن يسود إلّا بالمنطق والإقناع والجدل، فلماذا نخاف من الكلمة – في أيامنا هذه- مع أنّ الخلق ابْتدأ بها!