إفتتاحية
أدعي أن قلة منا نجت من محرقة الربيع العربي أواخر العام 2010، حيث كان هناك عدد قليل من الذين تطور فهمهم ورؤيتهم داخل المادية الديالكتيكية للماركسية. والكثير من الزملاء الثوريين من تيار الإسلام السياسي، كان من المفترض أن نصنع عصر جديد، وأن ننقل شعلة الخبرة والرؤى الثورية المُكتسبة إلى جيل جديد لم يكونوا موجودين آنذاك. وقتها عندما نظرنا إلى المجتمع من حولنا، كان كل شيء يبدو مُفسرًا وسهلًا ويمكن صياغته في كلمات بسيطة: حرية، ديمقراطية، برجوازية، رأسمالية، شيوعية…إلخ. لكن وبالرغم مِن هذا أننا فشلنا.
عندما أنظر للخلف في ذاكرتي، أتذكر تلك اللحظة التي بدا فيها الثوريون كالمسيحيين المثاليين الأوائل، كنا نعشق صراخ “اسقطوا النظام”، بالطبع لم يكن لدينا هو فساد النظام، لكن أظن الآن أنه كان لدينا الكثير من الأوهام حول طريقة تغيير النظام.
هذه الكلمات مكتوبة باليأس، ويرجع ذلك جزئياً إلى أن ما قد يفعله جيل الألفية سيعطي معنى لما فعلته أنا وبقية جيلي بحياتنا.
نص الرسالة
إن للفكر الثوري هدفان، أخلاقي ومادي، وأبطالها شباب، هم الطليعة، الذين يظنون دائمًا أن عليهم البدء من الصفر تقريبًا. لذا يحاول هذا الجيل اليوم يائساً أن يكون له معنى ما لحياته ولوجوده في العالم. معظمنا ومعظم جيل الألفية الآن من أبناء الطبقة الوسطى التي تعرضت لضربات عنيفة أفقدتها العديد من قدرتها الشرائية والحياتية عمومًا. كما يرفضوا ونرفض خلفياتنا المادية، ويهدف كما كنا نهدف للحصول على وظيفة بأجر جيد، وبيت، وسيارة، وعضوية في نادي إن أمكن، وفرصة سفر للسياحة، بالإضافة إلى الحاجة للشعور بالأمان.
وشاهدوا ذلك يقود الجيل السابق لهم مباشرة إلى المهدئات، والكحول، وارتفاع ضغط الدم، والقرحة، والإحباط، وخيبة الأمل من الحياة. ورأوا حماقة قيادتنا السياسية التي لا يمكن تصديقها تقريبًا، في الماضي، كان القادة السياسيون، بدءًا من الملكية وحتى مع بدايات الجمهورية كان يُنظر لحكامنا باحترام تقريبًا، اليوم ينظر إليهم بازدراء. وتمتد هذه السلبية الآن إلى جميع المؤسسات، من الشرطة والمحاكم إلى “النظام” نفسه. نحن نعيش في عالم من وسائل الإعلام يكشف يوميًا عن النفاق الفطري للمجتمع، وتناقضاته والفشل الواضح لكل جانب من جوانب حياتنا الاجتماعية والسياسية. لقد رأى جيلي ثورتهم الديمقراطية التشاركية “الناشطة” تتحول إلى نقيضها – تتحول إلى القصف والقتل العدمي. لم تعد العلاجات السياسية السابقة، مثل الثورات في روسيا والصين، تأدي لنتائج نفسها تحت اسم مختلف، ليبدو أن البحث عن الحرية ليس له أي طريق أو وجهة.
الآن، شباب الألفية مغمورون بسلسلة من المعلومات والحقائق الملفقة بدرجة تشل قدرتهم على التفكير، حيث يبدو لهم نظام أي دولة بما فيها القطب الأكبر في العالم الولايات المتحدة الأمريكية ما هو إلا هرج ومرج، هذا يجعلهم يدورون في جنون، ويبحثون عما كان يبحث عنه الإنسان دائمًا منذ بداية الزمان، أسلوب حياة له معنى أو هدف ما.
تعني طريقة الحياة درجة معينة من النظام حيث تكون للأشياء علاقات متصلة ويمكن تجميعها معًا في نظام يوفر على الأقل بعض القرائن حول ماهية الحياة. كان البشر يتوقون دائمًا إلى الاتجاه ويسعون إليه عن طريق إنشاء الأديان، أو اختراع الفلسفات السياسية، أو إنشاء أنظمة علمية، أو صياغة أيديولوجيات من أنواع مختلفة. هذا هو السبب وراء الكليشيهات المشتركة، “تجميع كل شيء معًا” – على الرغم من إدراك أن جميع القيم والعوامل نسبية ، ومتغيرة ، ومضطربة، يجعل من الممكن “جمعها معًا” نسبيًا فقط. وستنتقل العناصر وتتحرك معًا تمامًا وفق النمط المتغير مكونة نظام بحد ذاتها.
في الماضي ، كان العالم عمومًا سواء بمصطلحاته المادية أو الفكرية أصغر بكثير وأبسط وأكثر تنظيمًا مما يجعله أكثر مصداقية. اليوم كل شيء معقد للغاية بحيث يكون غير مفهوم. ودفع ذلك إلى اليأس، ثم المرض، ثم إلى شعور داخل صدور الشباب بأن الموت يخيم على الأمة.
يواجه جيل الألفية اليوم كل هذا ويقول لا أريد أن أقضي حياتي كما فعل الجيل السابق ولا كما فعلت عائلتي، أريد أن أفعل شيئًا، أن أكون أنا، أحقق إنجازًا شخصيًا، أدخل في أتون التجربة كي أوقف هذا العالم المجنون المتداعي. على الجانب الآخر، الجيل المُحترق الأكبر سنًا والشاب أيضًا لا يهدأ الصخب بينهم، هم واعون بتجربة الماضي ويتمسكون بها، حلم الثورة المتمثل في الهروب لذكراها والتمسك بالقيم القديمة على أمل بسيط أن أمر ما قد يحدث بطريقة أو بآخرى مع مرور الوقت، فجيل الربيع العربي الواعي عليه والمشارك به غير قادر على التعامل مع العالم كما هو،وللآسف يتراجعون في أي مواجهة مع الجيل الأصغر مع هذا الكليشيه الغاضب “عندما تكبر ستفهم” متخليين عن مسؤولياتهم الأخلاقية في إنقاذ جيل آخر من الإحتراق.
ببساطة ما يريده جيل الألفية الحالي هو ما أرادته جميع الأجيال دائمًا، معنى وإحساس بما هو عليه العالم والحياة، وفرصة للسعي من أجل نوع من النظام. نتفاعل نحن الشباب مع عالمنا الفوضوي بطرق مختلفة. وأبرزها الذعر والهرب، الذي عم بعض الربيع العربي حيث انسحب الكثير من المشهد، وصار الجميع يحسب معاركه مكتفيًا بخسائره التي لم يجد منها طائل. وأصبحنا أسرى الشعور بالذنب وعدم المعرفة، ولجئ قطاع يمكن الإشارة له بأنه ليس بهين إلى المخدرات والقسم الآخر للعزلة ومنها للإنتحار.
أولًا، تذكر، لا توجد قواعد للثورة مثل قواعد الحب أو قواعد السعادة، ولكن هناك قواعد للراديكاليين الذين يريدون تغيير عالمهم. هناك بعض المفاهيم المركزية للعمل في السياسة وهي صالحة للإستخدام بغض النظر عن المشهد أو الوقت. كما إن معرفة ذلك أمر أساسي للهجوم البراغماتي على النظام. هذه القواعد تجعل الفرق بين كونك راديكاليًا واقعيًا أو مجرد خطابيًا أجوف تستخدم الكلمات والشعارات المستهلكة.
لقد كان عدم التفريق بين الراديكالية والخطابية سبب هام في فشل العديد من النشطاء الأصغر سنًا حيث كان فهمنا لفن الاتصال بالجماهير كارثيًا. حتى أوليات الفهم البدائي للفكرة الأساسية لتغيير الثوري التي كان يمكن أن يتواصل بها المرء ضمن تجربة جمهوره – ويعطي الاحترام الكامل لقيم الآخر – كانت مفقودة حيث كنا نزعج الناس بالهجوم على مفاهيمهم المجردة عن الشرف والكرامة والعمل والوطن! بل أكثر مِن هذا كان الجيل الذي يبدو اليوم حزين ووحيد أحد أكثر الأجيال سخرية من المعتقدات والقيم والركائز الأساسية للدولة.
بصفتي أحد هؤلاء -ليس فخرًا أو ندمًا هي مرحلة عشتها بكاملها- بدت أظن الآن أن علينا أن نبدأ من العالم كما هو وليس كما نريد أن يكون. إن قبولنا للعالم كما هو لا يضعف بأي شكل من الأشكال رغبتنا في تغييره إلى ما نعتقد أنه ملائم لتصوراتنا. من الضروري أن نبدأ من نقطة إرتكاز واقعية في العالم الواقعي إذا أردنا تغييره. هذا يعني أن علينا العمل على فهم ثم تأسيس نظام.
هناك سبب آخر للعمل على النظام. وهي إن اتخاذ خطوة جديدة هو أكثر ما يخشاه الناس. لذا يجب أن يسبق أي تغيير ثوري موقف تفسيري لا يتحدى الجماهير. يجب أن يشعروا ويدركوا أن العجز قد يظهر في المستقبل، وأن النظام السائد قابل للإنهيار في أي لحظة قادمة. هذا القبول هو الإصلاح الضروري لأي ثورة. لتحقيق هذا الإصلاح يتطلب أن يعمل المُنظر الراديكالي داخل النظام الذي يكرهه، بقواعده وعلى أرضه. مرتكز على خلفية الطبقة المتوسطة التي صارت لا يمكن فصلها عن طريق وضع علامة لهم على كونهم ذوي الياقات الزرقاء أو القبعات الصلبة. ولن تستمر في كونها سلبية نسبيًا وصعبة التغيير بعض الشيء. فإذا فشلنا في التواصل معهم، كما في الماضي، وإذا لم نشجعهم على تشكيل تحالفات معنا، فسوف ينتقلون إلى معسكر النظام القائم بكل سهولة. ربما سيفعلون ذلك على أي حال، ولكن دعونا لا ندع ذلك يحدث افتراضيًا.
شبابنا ينفد صبرهم في الخطوات الضرورية للعمل الهادف. إن التنظيم الفعال محبط للرغبة في التغيير الفوري والدرامي، أو كما يمكن صايغته طلب معجزة بدلاً من الثورة. إنه نوع من الأشياء التي نراها في الكتابة المسرحية. يقدم الفصل الأول الشخصيات والمؤامرة، وفي الفصل الثاني يتم تطوير الحبكة والشخصيات بينما تسعى المسرحية لجذب انتباه الجمهور. في العمل النهائي الخير والشر يكون لهما مواجهة درامية ونصل للحل. الجيل الحالي يريد أن يذهب مباشرة إلى الفصل الثالث، متخطيًا الفصليين الأولين، وفي هذه الحالة لا يوجد لعب، لا شيء سوى المواجهة من أجل المواجهة – اشتعال الأحداث ثم العودة إلى الظلام. يتطلب بناء منظمة قوية وقتًا. إنها مسألة مملة، لكن ما البديل؟
البديل، فوضى من القمامة الخطابية حول حرق النظام، قنابل الغاز، القنص، السجن، والقتل، الصمت فالقوة تخرج من فوهة البندقية، هذه صرخة عبثية سخيفة عندما يكون لدى الطرف الآخر كل الأسلحة. كان لينين براغماتيًا. عندما عاد إلى ما كان آنذاك بتروغراد من المنفى، قال إن البلاشفة وقفوا للحصول على السلطة من خلال الاقتراع ولكنهم سيعيدون النظر بعد أن حصلوا على البنادق. ماذا تعلم الجيل الحالي والسابق مِن أقوال ماو وكاسترو وتشي جيفارا ، والتي هي وثيقة الصلة بقدراتنا التكنولوجية العالية، المحوسبة، السيبرانية، والتي تعمل بالطاقة النووية؟ لا شئ.
دعني باسم البراغماتية الراديكالية نبدأ بالنظام لأنه لا يوجد مكان آخر نبدأ منه باستثناء الجنون السياسي. من المهم جداً لمن يريد التغيير الثوري أن يفهم أن الثورة يجب أن يسبقها الإصلاح. إن افتراض أن الثورة السياسية يمكن أن تستمر بدون القاعدة الداعمة للإصلاح الشعبي هو طلب المستحيل في السياسة.
لا تحب الجماهير الخروج فجأة من أمان التجربة المألوفة. إنهم بحاجة إلى جسر للعبور من تجربتهم الخاصة إلى طريقة جديدة. يجب على المنظر الثوري أن يغير الأنماط السائدة في حياته، يوضح خيبة الأمل والاستياء من القيم والأوضاع الحالية وخطورتها، لينتج، إن لم يكن شغفًا بالتغيير ، مناخًا لتقبل مسألة التغيير.
كتب جون آدامز: “اندلعت الثورة قبل أن تبدأ الحرب. قد كانت الثورة في قلوب وعقول الناس. هذا التغيير الجذري في مبادئ وآراء ومشاعر وانطباعات الناس مثلما حدث في الثورة الأمريكية الحقيقية. إن الثورة بدون إصلاح مسبق ستنهار أو تصبح استبدادًا شموليًا”. إن الإصلاح يعني أن جماهير شعبنا وصلت إلى نقطة خيبة الأمل بالطرق والقيم الماضية. إنهم لا يعرفون ما الذي سينجح ولكنهم يعرفون أن النظام السائد مهزوم ذاتيًا ومحبطًا ويائسًا. إنهم لن يتصرفوا من أجل التغيير ولكنهم لن يعارضوا بشدة أولئك الذين يفعلون. هنا، آن الأوان للثورة.
الخاتمة
تذكر: تنبع المثالية الديمقراطية من أفكار الحرية والمساواة وحكم الأغلبية من خلال انتخابات حرة وحماية حقوق الأقليات وحرية الاشتراك في الولاءات المتعددة في مسائل الدين والاقتصاد والسياسة بدلاً من الولاء التام للدولة. إن روح الديمقراطية هي فكرة أهمية وقيمة الفرد ، والإيمان بنمط من العالم حيث يمكن للفرد تحقيق أكبر قدر ممكن من إمكاناته. لكن، دائما ما ترافق الأخطار الكبرى فرصًا عظيمة والعكس. إن إمكانية التدمير ضمنية دائمًا في فعل الخلق. وبالتالي فإن أكبر عدو للحرية الفردية هو الفرد نفسه.
منذ البداية كان ضعف المثالية الديمقراطية وقوتها هو الشعب. لا يمكن أن يكون الناس أحرارًا ما لم يكونوا على استعداد للتضحية ببعض مصالحهم لضمان حرية الآخرين. ثمن الديمقراطية هو السعي المستمر للصالح العام من قبل جميع الناس. في الماضي البعيد نسبيًا حذر توكفيل بشدة من أنه ما لم يشارك المواطنون بشكل منتظم في حكم أنفسهم، فإن الحكم الذاتي سوف يفشل. فمشاركة المواطن هي الروح والقوة المتحركة في مجتمع يقوم على التطوع.
نحن لسنا معنيين بالأشخاص الذين يعتنقون العقيدة الديمقراطية ولكنهم يتوقون إلى الأمن المظلم للتبعية حيث يمكن أن يعفوا من عبء القرارات. مترددون في النمو ، أو غير قادرين على القيام بذلك ، يريدون أن يبقوا أطفالًا وأن يحصلوا على رعاية الآخرين. أولئك الذين يستطيعون ، ينبغي تشجيعهم على النمو ؛ بالنسبة للآخرين ، لا يكمن الخطأ في النظام ولكن في أنفسهم.
نحن هنا معنيون للغاية بالكتلة الهائلة من شعبنا ، الذين أحبطوا بسبب قلة الاهتمام أو الفرص ، أو كليهما ، لا يشاركون في المسؤوليات التي لا تنتهي للمواطنة وهم مستسلمون للحياة التي يحددها الآخرون. إن فقدان “هويتك” كمواطن ديمقراطي ليس سوى خطوة من فقدان هويتك كشخص. يتفاعل الناس مع هذا الإحباط من خلال عدم التصرف على الإطلاق. إن فصل الناس عن الوظائف اليومية الروتينية للمواطنة هو مفجع في الديمقراطية.
إنه وضع خطير عندما يستقيل شعب من جنسيته أو عندما يفتقر أحد سكان بلد كبيرة، على الرغم من أنه قد يرغب في المساعدة ، إلى وسائل المشاركة. يغرق هذا المواطن أكثر في اللامبالاة ، وعدم الكشف عن الهوية ، ونزع الطابع الشخصي. والنتيجة أنه أصبح يعتمد على السلطة العامة وتعم حالة من التصلب المدني.
من وقت لآخر كان هناك أعداء خارجيون على أبوابنا. لكن لطالما كان هناك عدو في الداخل، فالجمود الخبيث والرجعية الدينية تنتظر لتدمير أكثر يقينا لحياتنا ومستقبلنا من أي رأس نووي. لا يمكن أن تكون هناك مأساة أكثر قتامة أو مدمرة من موت إيمان الإنسان بنفسه وبسلطته على توجيه مستقبله.
أحذر الجيل الحالي. تعلق بواحد من أغلى ما لديك من الشباب، عقلك الواعي الحُر – لا تفقده كما يبدو أن العديد منكم قد فعلوه، فأنت بحاجة إليه. قد نجد معًا بعض ما نبحث عنه – الضحك والجمال والحب والحرية وفرصة الإبداع.