فيلم الارتقاء “Onward”ورحلة الساحر

كتب بواسطة اسماعيل المقبالي

قراءة أنثروبولوجية

لا يهدف هذا المقال إلى التقييم الفني لفيلم الكرتون “Onward” (التقدم أو التصاعد أو الارتقاء)، بل يحاول فتح المجال للتعرف على أحد الأنماط المعرفية القديمة ألا وهو السحر، الذي انحسر  مجاله، وتوارت سلطته في المجال العام بفعل الضربات المتتالية للدين (خصوصًا التوحيدية)، ثم بروز التفكير الفلسفي، الذي مهد السبيل نحو صعود التفكير العلمي، والذي باتت له السطوة المطلقة والكلمة العليا في تسيير عقل الإنسان الحديث، فأجهز على ما تبقى من حضور الوعي السحري في تشكيل المعرفة، حتى أصبح مجرد تراث من ذكريات القرون الغابرة التي نزعم بأننا خلفناها وراء ظهورنا، في حين لو تأملنا قليلاً صفحة التاريخ البشري سنجد بأن نمط المعرفة من خلال السحر كان له الهيمنة المطلقة على معظم فترات التاريخ البشري، أكثر بكثير حتى من حضور الدين والعلم مجتمعين، اللذان يُعدّان نمطان للمعرفة حديثا عهد إذا ما قورنا بالمدة الزمنية التي كان السحر يتحكم فيها بالسلطة المطلقة على الوعي البشري، لذلك حاول العلماء قديماً وحديثاً بما فيهم علماء الحضارة الإسلامية من أمثال المسعودي وابن خلدون وابن سينا وأبو حامد الغزالي وابن رشد وابن ميمون أن يحددوا ماهية السحر وآليات اشتغاله.

منذ عصور سحيقة لا يعرف مداها كان السحر هو الأداة الفاعلة التي صاغت وتحكمت في تشكيل تصورات الإنسان عن نفسه وعن الكون، يذكر رائد علم الأنثروبولوجيا جيمس فريزر في كتابه “الغصن الذهبي”  ص٨٩٩ (فربما خلصنا إلى القول إن حركة الفكر السامية، بحدود قدرتنا على متابعتها، قد انتقلت من السحر عبر الدين إلى العلم)، كما يوضح توفيق فهد في دارسته عن الكهانة العربية قبل الإسلام، بأن السحر والكهانة (مارسا دوراً أساساً في تاريخ الحضارة. وأن يكون السحر أسبق من الكهانة فإن ذلك يندرج ضمن النزاع على الأسبقية بين السحر والدين … ولكن التداخل بين السحر والكهانة لم يحدث إلا في مراحل انحطاط الديانات القديمة) ص٤٥، وهو ما يؤكد عليه أيضاً فريزر في ص٨١ (كانت وظائف الكاهن والساحر مقترنه ببعضها بعضاً أو لنقل لم تكن منفصلة أو مختلفة عن بعضها بعضاً)، وفي دراسته عن الطلاسم السحرية عند المسلمين يذكر هانس فينكلر للدلالة على نمط المعالجة السحرية التي تختلف عن نمط الدين والعلم، فيورد في ص١٥-١٦ ( تواجه المعالجة العلمية للنصوص السحرية أو لعناصر السحر المنفردة صعوبات خاصة لأن المجال الذي تتحرك فيه أفكار الساحر مختلف جوهرياً عن مجال أفكارنا، ولأن الغاية مما يبذله من جهد تقع خارج النطاق العلمي المحسوس …لقد أثبتت الأبحاث الأتنولوجية والاجتماعية في السنين الأخيرة أن الشعوب البدائية تعالج المؤثرات الحسية بطريقة مختلفة جوهرياً عن الطريقة التي نعالجها بها)، مع أن فريزر حاول أن يربط بين السحر والعلم كنظامين متداخلين إلا أن كلود ليفي شتراوس في دراسته عن “الفكر البّري” عند الشعوب البدائية شدد على استقلالية السحر و (إنه نظام شديد التماسك، … من الأفضل بدل أن يقام نوعاً من التقابل بين النظامين أن يوضعا كمتوازيين أي بوضعهما نسقين معرفيين غير متساويين من حيث النتائج النظرية والعلمية… لكنهما يتساويان من حيث نوع العمليات الذهنية التي يقومان عليها وهي لا تختلف في طبيعتها بل انطلاقاً من الظواهر التي تنطبق عليها… إلا أن تاريخ هذه الأخيرة حديث العهد بحيث أن المعلومات عن العلم لا تزال ناقصةً، وكون نشوء العلم لا يرجع إلا بضع قرون فقط يطرح بحد ذاته مسألة، قلما تفكر علماء الأتنولوجيا بها، وهي مسألة تصح تسميتها بالمفارقة النيوليتية) ص٣٣-٣٤، وباختصار يوضح خزعل الماجدي في كتابه “بخور الآلهة” الفارق الجوهري بين السحر والدين في ص٣٢ ( يقوم السحر على فكرة جوهرية أساسية، هي الاعتقاد بوجود قوة خفية في الأنسان “الساحر بشكل خاص”  ، اعتقاداً يجعله، باكتشافها والسيطرة عليها، متمكنا من التحكم بكل ما حوله من كائنات وطبيعة والسيطرة عليها، …أي أن السحر يختلف عن الدين في نوعية المعتقد، فالقوة الخفية في الدين خارجية وتجسدها كائنات إلهية أو كائن إلهي، وهي التي تسيطر على الإنسان وترسم له مصيره، في حين أن القوة الخفية في السحر تكمن داخل الإنسان وأن وجدت خارجه فإنها تظل مرتبطة به بطريقة ما، ويمكن السيطرة عليها وتحريك الكون كله بها، …)، لن يحاول المقال التعمق أكثر في مناقشة ماهية السحر وطريقة اشتغاله على الرغم أنها شكلت مباحث مهمة عند أكبر العقول قديماً وحديثاً، لكن من المهم التمهيد بهذه المقدمة حتى نتكمن من الولوج إلى بعض الأفكار والرموز التي عرضها الفيلم، والتي تتطلب قراءة أنثروبولوجية متأنيه حتى نستوعب الأفكار المضمرة، وكيف وُظِّفت في سياق الأحداث.

الصراع بين السحر والعلم يظهر منذ بداية الفيلم، حيث كانت افتتاحية الفيلم عبارة عن مقدمة سريعة تسرد كيف كان العالم القديم مليء بالعجائب والمخلوقات المدهشة عندما كان يسوده الفكر السحري، لكن بمجرد ما ظهرت الطريقة العلمية في التفكير، وقدمت معالجات أكثر فعالية في مواجهة مشكلات الطبيعة، حتى سدد هذا القادم الجديد ضربة قاصمة للفكر السحري،  وجعلته ينحسر ويفقد حضوره في تسيير شؤون الحياة، وحتى نتوسع أكثر في هذه الفكرة ونعرف سبب فقدان السحر لسلطته أمام الدين أولاً ثم العلم تالياً، فعلينا أن ندرك أولاً بأن مشكلة السحر الأساسية تكمن في بنيته المعرفية الخاصة، التي تعتمد بالأساس على قوة الساحر الذاتية وتطورها في اكتساب هذه النوع من المعرفة وتسخيرها، وهذا الشكل الذاتي للكسب السحري من خلال الرياضة النفسية ورحلة ارتقاء “Onward” شاقة، هو ما أثّر على محدودية انتشاره وحصره في نخبة ضيقة جداً، كما عرقل قدرته على التداول والتعميم على شريحة واسعة من الناس، وربما كان هذا الشكل المعرفي المحدود مناسب عندما كانت الإنسانية في طور التنقل والارتحال ولم تستقر في مجتمعات ثابتة، لكن مع بروز مجتمعات الزراعة المستقرة وازدياد الكثافة السكانية، أخذ الإنسان يبحث عن بديل معرفي أسهل وعملي وأكثر قدرة على التعميم وأقل ذاتية، فابتدع السّردية الدينية التي تمكن من خلالها من الاحتفاظ  بتراكمه المعرفي الضروري لتماسك مجتمعه الزراعي وتوريثها بسهولة للأجيال اللاحقة، من خلال استحضار قوة أو قوى ماورائية تتحكم في الكون، هي التي خلقت الإنسان ووضعت له أسلوب حياة يتماشى مع نمط حياته المستقر ،مع أن الأديان القديمة التي نشأت على ضفاف الأنهار كديانات ما بين النهرين والفرعونية والهندوسية والمجوسية والصينية كانت ما تزال غنية بالطقوس السحرية والتعاويذ التي ورثتها من حقبة السحر البدائي السحيقة، لكن مع تطورها وبروز الأديان التوحيدية ، ودخول الفلسفة للميدان، نشهد تصاعد الهجمة الشرسة التي مارسها هذا الفكر المضاد (خصوصاً اليهودية والمسيحية والإسلام) ضد السحر، ويمكن ملاحظة ذلك من خلال قصة موسى وسحرة فرعون التي وردت في سفر الخروج من الإصحاح السابع، وقصة خضوع المجوس “Magi” الذين جاؤوا من الشرق لبيت لحم يتبعون النجم الذي ظهر في السماء، إلى حيث ولد السيد المسيح ليسجدوا له ويقدموا له الهدايا كما أشار لها إنجيل متّى في لإصحاح الثاني،  حيث يشير علماء اللغويات بأن مصطلح مجوس “Magi” تطورت في الحضارة الغربية لاحقاً واشتق منها كلمة “Magic” في اللغة الإنجليزية والتي تعني السحر، وهو ما يعطي دلالة واضحة على ارتباط المعتقدات الشرقية القديمة بالسحر في العقل الغربي المسيحي، ثم جاء الإسلام ليشكل حداً فاصلاً ضد الممارسة السحرية وبأشد العبارات في القرآن والحديث ليعلن القطيعة التامة وليكون حد الساحر هو ضربة بالسيف ولا يفلح الساحر حيث أتى، ثم  تمايزت الفلسفة بمناهجها لتشق لها طريقاً بعيد عن الدين وتفتح المجال لبروز عصر التنوير والعلم بما حمله من قوانين واضحة فككت كثير من ألغاز الكون وسخرت الطبيعة، وقدمت نماذج تفسيرية يمكن تعميمها بشكل أوسع وبمجهود أقل وفعالية أكثر حتى من التصورات الدينية ذاتها، ولذلك طغى العلم على الدين والسحر حينما استطاع تقليل مساحة المجهول، وأوجد أليات أكثر عمومية وتجريد وغير ذاتية لتفسير قوانين الطبيعة، وهو ما بينه جيمس فريزر بقوله ص٨٩٩ -٩٠٠ (يعتمد الإنسان السحري على قوته الخاصة ليواجه الصعوبات والأخطار التي تحيط به من كل جانب، ويؤمن بنظام راسخ ومحدد للطبيعة يمكنه الاعتماد عليه، وبمقدوره التحكم به لبلوغ أغراضه. وعندما اكتشف أنه مخطىء، لاحظ بحزن أن نظام الطبيعة الذي افترضه والطريقة التي اتبعها للتحكم به هما خيال واهم، فكفَّ عن الاعتماد على ذكائه الخاص وجهوده الذاتية، ووضع نفسه ذليلاً تحت رحمة كائنات عظيمة غير مرئية خلف حجاب الطبيعة … وهكذا بدأ السحر يتلاشى في العقول الذكية ليحل محله الدين… لكن مع مرور الزمن أثبت هذا التفسير عدم كفايته، لأنه افترض أن تتابع الأحداث الطبيعية لا يقوم على قوانين ثابتة، بل متغيرة إلى حد ما وغير منتظمة، وأنه افتراض مخالف للملاحظة… بالمختصر حلّ العلم محل الدين في تفسير الطبيعة).

تبدأ الأحداث في الفيلم من خلال رحلة الأخوين أيان وبارلي، اللذان يحاولان استحضار روح أبيهما المتوفى ليوم واحد من خلال عصا سحرية وتعويذة تركها لهم قبل وفاته، وهنا تكمن المفارقة بين نمط العقل العلمي للأخ الأصغر “أيان” الذي نراه يرتب الأشياء بطريقة منطقية من خلال كتابتها في دفتر، أما العقل السحري المعتمد بالأساس على الحدس فتظهر من خلال شخصية الأخ الأكبر بارلي، لتتطور حبكة الفيلم حول هذا الخيط وهو رحلة الصراع بين النمط المنطقي (العلمي) في التفكير المتمثل بأيان، والنمط الحدسي (الذاتي) المتمثل في شخصية الأخ الأكبر بارلي، مع أن أيان الصغير يمتلك القدرات والمهارات السحرية لكنها كانت مستورة عنه بسبب إصراره على التفكير بالشكل المنطقي، مما كبت قدراته السحرية ومنعه من الاستفادة منها، وسنرى في الفيلم بأنه أيان لن يستطيع تحرير هذه القدرات السحرية الكامنة فيه إلا بتطوير مهارات اتباع الحدس الذاتي من خلال رحلة شاقة للإرتقاء نحو روح الساحر، وسنرى حوار في الفلم بين الأخوين بشكل صريح حول هذه الفكرة حين يتجادلان حول أي الطرق الذي عليهما سلوكه نحو الجبل السحري، في حين يصر أيان على اتباع الطريق المعبد والمختصر كما هو موضح في الخريطة، سنرى بارلي يحاول إقناعه باتباع طريق أخر وعر وغير مباشر ولا يسير وفق الخريطة العلمية، وعندما سأله أيان ما الذي يدعوه لهذا أجاب بارلي بأنه يتبع فيها حدسه الخاص حتى لو لم يجد له تفسيرًا منطقيًّا، وهذه المرحلة أساسية  لدى الساحر ليصل للمرحلة التي يسميها هانس فينكلر ص٣٠ (مركب القدرة المعقد للتفكير البدائي) التي يمكن من خلالها استغلال الاسم أو التعويذة أو الطلاسم، وهنا يمكن أن نفهم الحاجة لمرحلة الخلوة لدى الساحر أو الشامان التي هي مرحلة أساسية في بداية مسيرته لتكريس طاقته وقدراته الحسية، يذكر توفيق فهد ص٥٥ (من المؤكد أنه لا يمكن وضع حد فاصل واضح بين السحر والتنجيم والفراسة والكهانة بحصر المعنى، لأنها تعايشت جميعها في محيط واحد، وتحدّرت من تيار الفكر التقي ذاته، وهي إضافة إلى ذلك تنتمي، على صعيد الإدراك، إلى الفئة ذاتها، فئة القوة الحسية)، وهو ما سنراه في الفيلم بشكل واضح حينما يوجه ويدرب الأخ الأكبر بارلي لكي يعمل أيان على تركيز قواة  الحسية الضرورية خلال عمل التعويذات، كما يذكر هانس في هذا الباب بأن (المشاعر هي المصدر الأساسي لتصوراته… عندما يمتلك الساحر شعرة أو قطعة من ظفر أو ثياب، أو أي شي آخر، من الشخص الذي يقوم بعملية السحر من أجله، فأنه يمتلك بذلك الشخص بكامله لأنه يمنح بذلك شعوره دوراً خلاقاً قوياً)، وهو ما فعله أيان حينما فقد عصاه السحرية في البحر لكن مجرد وجود شظية منغرسة في يده من العصا المفقودة جعلته يسترجعها.

وهنا لا بد من الإشارة بشكل واضح على أهمية الحدس في نمط عمل الساحر التي تطرق لها الفيلم، حيث يدلل شتراوس على منبع القدرات عند السحر فيذكر في ص ٣٦ بأنه “وثيق الصلة بالحدس”، لكن مع الرياضة والاستمرار يمكن حتى أن يتجاوز الساحر هذه المرحلة الحدسية الأساسية نحو مراحل أكثر عمقاً وتشعباً، ينقل توفيق فهد ص٥٦ ( بعد هذه المرحلة التمهيدية، يبدء التمايز الفعلي إذ يغوص السحر والتنجيم، بعد اجتيازهما طور الملاحظة والحدس، في متاهات لا حدود لها).

كما حفل الفيلم بعدد من الرموز التي وجب توضيح خلفيتها الأنثربولوجية  وذلك لنفهم دلالتها في سياق الفلم، كتمثال الغراب وحجر الفينكس (العنقاء) والنافورة، والمركبة الأسطورية جونيفير ( الشاحنة)، والملاك أو الكائن الأسطوري الحامي للبطل “Manticore”، والشيطان الحارس للكنز، والتي إذا ما وضعت بشكل منسق فنحن أمام استعارة فلمية لنموذج البنية الأسطورية النمطية، والتي درسها علماء الميثولوجيا والأنثروبولوجيا، وتعبِّر عن نسقية التفكير البشري الأسطوري في مختلف الحضارات، لكن سنكتفي في هذا المقال برمزين وردا في الفيلم وهما الغراب والنافورة.

تظهر التماثيل الصخرية للغراب الجبلي الأسحم “Raven” في الفلم كعلامة ترشد الأخوين نحو المسار الصحيح للكنز أو حجر الفينكس النادر والضروري لاستكمال التعويذة التي سترجع باقي جسد الأب المتوفى، وحتى نفهم هذه الرمزية علينا إزالة التصور الحديث للغراب كنذير شؤم، وسنرى بأنه قديما كان يحمل رمزية مختلفة تماماً، حيث يشير معجم الرموز الصادر من دار “Penguin” في ص٧٨٩ بأن  رمزية الغراب في التصور القديم سواء في الشرق أو الغرب كان تحمل جوانب إيجابية تختلف تماماً عن التصور الشائع في الثقافة الحديثة، فهو كان يرمز قديماً للقدرة على الرؤية الواضحة وأنه رسول الآلهة ومرشد للإنسان في الأرض، بل حتى يرشد الأرواح في رحلتها الأخيرة في مجاهل العالم الآخر، حيث يخترق ببصره الثاقب الظلام الذي يلف العالم الأخر فلا تضل الروح في رحلتها، ويشير المعجم بأن هذه الرمزية الإيجابية للغراب الأسحم كانت سائدة عند القبائل القديمة المرتحلة والتي كانت تقتات على صيد الحيوانات والأسماك، ولم تنحدر رمزية الغراب إلا بعد بروز مجتمعات الاستقرار والزراعة حيث اكتسب رمزيته السلبية كرمز للشؤم، والذي يدعم هذا التصور ما ورد في القرآن حيث كان الغراب هو المعلم الذي أرشد قابيل ابن آدم كيف يواري سوأة أخيه هابيل بعد أن قتله: (فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ ۚ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَٰذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي ۖ فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ) سورة المائدة. كما ينقل هشام بن محمد الكلبي في كتاب الأصنام ص٧  طريقة تلبية قبيلة عكّ في حج الجاهلية، فيذكر ما نصه: ( وكانت تلبية عَكّ، إذا خرجوا حُجاجاً، قدّموا أمامهم غُلامين أسودين من غلمانهم، فكانا أمام ركبهم. فيقولان: نحن غُرَابَا عَكّ! فتقول عَكُّ من بعدهم: عَكُّ إليك عانِيَه، عِبادُك اليمانيةْ، كَيْما نَحِج الثانيَةْ!)، وينقل ابن منظور في معجم لسان العرب عند تفسير كلمة  غُرابُ (أَغرِبةُ العَرَبِ: سُودانُهم، شبُهّوا بالأَغْربَةِ في لَونِهِم). الجزء ١١-١٢ ص٢٦.

وكذلك سنرى بأن جوهرة الفينكس  Phoenix (العنقاء أو الفينيق) التي ظهرت  في الفيلم هي دلالة على الانبعاث من الموت كطائر العنقاء الأسطوري، الذي يحترق ويبعث من الرماد، حيث وجدت هذه الجوهرة في ختام الفيلم مخبأة في النافورة العتيقة. يشير معجم الرموز ص٩١٠ بأن النافورة “Fountain” أو النبع “Spring” رمز أساسي للأمومة التي (التي بدونها لا يمكن ضمان تخصيب ونمو جميع الكائنات الحية.  والماء العذب الذي تنثره مثل المطر هو دم إلهي وبذور سماوية.  نظرًا لأن الماء يتغير باستمرار، فإن النافورة تعزّز التجدد المستمر بدلاً من الخلود)، وعبر عالم النفس كارل غوستاف يونغ عن النموذج البدئي للنافورة كصورة للروح، بقدر ما هي أصل الحياة الداخلية والطاقة الروحية (معجم الرموز، ص٩١٢). وهذا الارتباط بين النافورة أو النبع مع التجدد وإعادة التوليد يمكن ملاحظته أيضاً في قصة الإسكندر الأكبر ورحلته إلى واحة سيوة في غرب مصر ليعاد ولادته كابن للألهة أمون -رع- أو تعميد يوحنا المعمدان للسيد المسيح في نهر الأردن، وطقوس التعميد في الكنيسة المسيحية، أو نهر الكوثر الذي ورد ذكره في القرآن في سورة الكوثر وفسر بأنه نهر ماء يشرب منه المؤمنون يوم القيامة قبل دخولهم الجنة كعلامة للتجدد بعد الموت، وحتى طقوس الوضوء للصلاة عند المسلمين هي رمز للتجديد والطهارة، لذلك كان رمز النافورة في الفيلم رمز أساسي للتجديد حتى تتمكن روح الأب المتوفى من العودة للحياة.

في ختام هذه الرحلة وجدنا بأن فلم الترقي “Onward” الذي يبث على منصة OSN على الرغم أنه عُرِض في قالب كرتوني، لكن يحمل في طياته الكثير من القضايا العميقة والشائكة حول ماهية السحر والمعرفة السحرية، وكيف كان يهيمن على الوعي الإنساني منذ نشأته في العصور السحيقة وكان الأداة المعرفية الوحيدة التي تمكن من خلالها من التحكم في الظواهر الطبيعية، لكن تراخت سلطته المعرفية أمام ضربات الوعي الديني والفلسفي حتى كاد أن يتلاشى أمام طوفان العلم، لكن يثبت هذا الفلم بأن النقاش حول المعرفة السحرية ما زال حاضر حتى وسط الحقل العلمي الصارم الذي لا يؤمن إلا بالمنهج التجريبي والمادي، كما أن الرموز المستخدمة في الفلم كالغراب والنافورة ليست عبثية وإنما تعبر عن أفكار عميقة ووثيقة الصلة بوظيفة السحر الغامضة ورحلة الساحر للترقي المعرفي، وختاماً نورد هذه الفقرة المهمة التي أختتم بها جيمس فريزر موسوعته في دراسة السحر والدين في ص٩٠١ (مع ذلك يحذرنا تاريخ الفكر من اعتبار نظرية العلم كاملة ونهائية بالضرورة، على الرغم أنها أفضل ما صاغة الإنسان حتى الآن. في الحديث العام، ليست قوانين الطبيعة سوى افتراضات استنبطت لإيجاد تفسير لخيالات الظل الفكرية المستمرة التغيير والتي نعضمها بأسماء عالمية كونية فخمة، في التحليل السابق ليس السحر والدين والعلم إلا نظريات فكرية، فمثلما حل العلم محل سلفه، لا بد أنه سيُستأصل يوماً بفرضية أكمل، وربما بنظرة مختلفة كل الاختلاف للظواهر الطبيعية… تقدم المعرفة هو تطور لا محدود باتجاه هدف يتراجع أمامنا باستمرار).

المصادر:

توفيق فهد، الكهانة العربية قبل الإسلام، تقديم د رضوان السيد، شركة قدمس للنشر والتوزيع

جيمس جورج فريزر ، “الغصن الذهبي : دراسة في السحر والدين”، دار الفرقد 

هانس فينكلر، الرموز والطلاسم السحرية عند المسلمين” دار الوراق

كلود ليفي شتراوس، الفكر البّري،  المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع

لسان العرب، ابن منظور، دار صادر

Dictionary of Symbols, Penguin Group , London, England.

أدب الثاني عشر بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

اسماعيل المقبالي