إن قصص الأشباح في اليابان ليست مدعى للسخرية، بل هي فرصةٌ للتفكر أكثر في الحدود الغامضة بين الحياة والموت.
كانت ليلة مقمرة في بدايات الصيف، وذلك بعد مضي عام على التسونامي العظيم، ومع تكسر الأمواج بهدوء على شاطئ يغطيه بعض الضباب، رمق فوكوجي شخصين يمشيان معا، رجلٌ وامرأة.
توضَّحَ فوكوجي المشهد أمامه فإذا بالمرأة وبلا شكٍّ هي زوجته.
صاح مناديا باسمها، فالتفتت والابتسامةُ تعلو محياها، وهناك علم فوكوجي من هو ذاك الرجل أيضا، فقد أحب ذاك الرجل زوجة فوكوجي قبل زواجها من فوكوجي نفسه، كلاهما مات في التسونامي.
نادت زوجة فوكوجي زوجها قائلة: أنا متزوجة الآن، من هذا الرجل؟”
فصاح فوكوجي قائلا: ولكن ألا تحبين أطفالك؟. فتسمرت زوجته عقب ذلك وبدأت بالنحيب.
نظر فوكوجي بحزن نحو قدميه لبرهة لا يدري ما يقول بعدها، وحين رفع رأسه كان الرجل والمرأة قد اختفيا.
(من كتاب تونو مونوغاتاري أو “أساطير تونو” 1910 لـكونيو ياناغيتا)
إنها قصة حقيقية أو كما أراد كاتبها أن يقنع قرّاءهُ بذلك. يعد كونيو ياناغيتا من أوائل الفلكلوريين اليابانيين، فقد جمع حكايا -كتلك- من مدينة تونو الواقعة شمال شرق مقاطعة توهوكو اليابانية، ونشرها تحت مسمى “أساطير تونو” عام 1910، وكان يأمل بذلك في أن يوقد الحس بسحر الطبيعة وغموضها (خبايا الدنيا وأسرارها) في نفوس قاطني المدن الكبيرة كطوكيو وأوساكا، الأمر الذي أرّق بال ياناغيتا خشية أنهم قد بدأوا مؤخرا يفقدونها ويتوهون وسط صخب وأدخنة الحياة الحضرية وملهياتها المخدّرة.
بعد مائة عام وعام على ذلك، بقيت قصص كقصة فوكوجي تُتداول في شتى أنحاء اليابان، ففي الحادي عشر من مارس 2011 تسبب زلزال كبير بإرسال موجة شاهقة الارتفاع من المياه المحملة بالأوساخ من ساحل توهوكو نحو اليابسة، وكشفت صور التلفاز نقلاً عن المروحيات أن مناطق مألوفة قد استبدلت فجأة ببرك طينية هائلة؛ فنسيج الحياة المعتاد من منازل ومكاتب وجسور ومركبات انحلّ وجُرف نحو البحر، أو تناثر عبر مناطق جديدة بالكاد يمكن تمييزها. كافح الناس للوصول لأحبّائهم بدايةً بالهاتف ولاحقا بالبحث في الأنقاض التي خلفتها المياه بعد تراجعها، ظل البعض يبحث لأسابيع وأشهر وحتى لسنوات، حيث بلغت حصيلة الوفيات والمفقودين قرابة 20 ألفا.
بدأ الناجون من تلك الكارثة لاحقا برؤية هيئات شبحية والإحساس بها، رجال ونساء بملابس دافئة في عز الصيف ويطلبون سيارات أجرة ويختفون من المقعد الخلفي، ولعبة شاحنة صغيرة لطفل مات في التسونامي أخذت تتحرك بنفسها على نحو متقطع حول الغرفة. وامرأة أجابت قرع باب بيتها لغريبٍ مبلل بالماء طلب تبديل ملابسه، فما عادت من إيجاد شيء إلا وجمعٌ من الناس واقفون هناك وكلهم مبللون تماما.
هنالك بدأت سلسلة جديدة من أساطير تونو. ولكن لماذا اليابان؟ البلد المرتبطة كثيرا بالعلمانية والحداثة التقنية (وهو ما قد كان يخشى ياناغيتا حدوثه) تجد نفسها ملاذًا لكل هذا؟ ما مصدر أشباح اليابان؟ وما الرسالة التي تحملها؟
يعود وعي اليابانيين بالأشباح (اليوري) لقرون عدة وهو متأصل من أفكار العدل والظلم ومن الخوف من العمل غير المكتمل. فإن لاقت روح الشخص الاهتمام والرعاية حين موته بتهيئة عائلته لجنازة لائقة والدعاء له وزيارة قبره، حينها يصبح بمقدوره الانتقال بسلام للعالم التالي، وهكذا فإن الميت يعتني بأقاربه الأحياء ويوفر لهم المساعدة والحماية. يعود الأموات صيف كل عام لهذا العالم فيلقون ترحيبا من أسرهم بالطعام والشراب والألعاب النارية والرقص في احتفال أوبون.
أما الذين يموتون فجأة أو بعنف أو ظُلمًا أو في معزل عن الغير فقصتهم تختلف، فأرواحهم المضطربة قد تعود لعالم الأحياء بحثا عن رضاها، وبالأخص أرواح النساء التي لطالما تمتعن بمكانة متميزة في القصص اليابانية والرسومات والمطبوعات الخشبية ومسرحيات الكابوكي، حيث تُصوَّر بسلوك هزيل وعينين خاويتين وشعر طويل ومتشابك يغطي وجهها ويتدلى حتى زيهّا البوذي الأبيض الشبيه بالكفن.
ولعل أحد أشهر هذه الأشباح هي الأوبيمي، وهن نساء توفين أثناء إنجابهن للطفل، وتذكر إحدى القصص الشعبية أن امرأة كانت تشتري حلويات من متجر ما دون التفوه بأية حديث يذكر، فأسقطت ورقة شجر مجففة في جرة النقود، احتار البائع فأخذ يتبعها نحو منزلها – ليصل لمقبرة حيث اختفت المرأة في بقعة من الأرض. كان صوت البكاء مسموعا في الأسفل، وبعد الحفر في الأرض وُجد جسد المرأة ممسكةً بطفل حيٍّ كانت تسعى لرعايته. بينما يسلط العمل الأدبي الياباني المشهور حكاية جينجي (لعام 1000م) الضوء على نوع آخر من الأشباح يدعى إيكيريو، وهو روحٌ حية أو متجولة مشحونة بغضبٍ وغيرةٍ ممتدين من جسد شخص حيّ يسعى لتعذيب أعدائه والأخذ بثأر دموي منهم.
يأتي الموتى طمأنةً لأرواح الأحياء بإنقاذهم من اضطرابات الحياة
غالبا ما كان المغزى أخلاقيّا في قصص ومشاهد كهذه، وبكل جلاء فإن الروايات القاطعة التي تحكي عن العصيان وعواقبه كان له دور في تعميم أساسيات التعاليم البوذية لمن تنقصه معرفة فلسفية نظامية، وذلك دون غيرهم ممن يقدّرون بصدق الضعف الإنساني ويتوقون إلى المتعة والترفيه. ولكن بدأ الأمر بالتغير مع الوقت الذي أعاد فيه ياناغيتا سرد قصة فوكوجي في بدايات القرن العشرين وفترة التحضر، فقد أخذت قصص الأشباح اليابانية تعكس الاضطراب الذي يصاحب التطور المسابق للزمن.
كان ياناغيتا بدوره يناضل في مقدمة كتابه ليشير إلى أنه قد سجل قصصاً شبيهة بقصة فوكوجي تماما كما لو أنه قد أحسّ بها، وكان يأمل من هذا أن يكون وسيلة للإبقاء على بعض خبرات حياة أهل مدينة تونو وإشاعتها في أرجاء اليابان قبل أن تلامسها أو تلوثها “جاكوشا كوساي كوتو” أو لوثة العلماء (الحديثين)، وبهذا فقد عنى الانبهار الأخير والمتزايد بالذخيرة التكنوقراطية الموضوعية لحل المشكلات -لاسيما في العلوم والهندسة- وذلك إزاء خطر ضمور وسائل المعرفة والتفاعل البشري الأخرى مع العالم كالحدس والتخيل والتساؤل.
وبدا أيضا أن مفهوم اليابان لخوارق الطبيعة في تغيّر، فانتقل من انشغال الأحياء بطمأنة أرواح الموتى إلى استدعاء الموتى بغية طمأنة أرواح الأحياء وإنقاذهم من شكوك الحياة -وأوهامها- في العالم المعاصر وتذكيرهم بما هو أقدم وأقرب للفطرة وأحوَجُ لتقبل العالم والعيش فيه.
وإن قفزنا قرناً من الزمان، وفي ضوء كارثة 2011 – الزلزال والتسونامي المتبوعان بانصهار نووي – فإن تفسير أشباح اليابان بدأ يأخذ منحاً جديداً.
طريقٌ ضيقة تلتفُّ أكثر فأكثر بثبات داخل غابة خصبة، فتأخذ الخضرة بالانحلال تدريجيا فيها إلى أن تؤول الدرب، تحت سماء صافية ممتدة، إلى بركة في أرضٍ تضاريسها قمريّةٌ بها صخور بيضاء متحطمة تندفع أبخرة الماء بقوة من فتحاتها بين الفينة والأخرى، بينما نجد في بقع أخرى حجارة مصفوفة فوق بعضها – بشكل تلال صغيرة ارتفاعها متر وعرضها عدة أمتار. قد تحسب من النظرة الأولى أنها رواسب الحجارة المتراكمة، لكن في الواقع تلك نُصب تذكارية حجرية وُضعت تخليداً لذكرى من قد فارقوا الحياة في عمر الزهور، يطوف الأزواج الشُبان حولها دون التفوه بالكثير، ويضعون في قمة تلك النُصب – إضافة إلى تماثيل جيزو حامي الأطفال والرحّالة – ألعاب مراوح هواء بلاستيكية بألوان مبهجة كالوردي والأزرق والأصفر لمنحهم شيئا يلعبون به في الجانب الآخر.

تمثال جيزو بقبعة دافئة ومريَلة أطفال بمقبرة أوكونوين – كوياسان. تصوير: سكوت فلوكارت
قمة الجبل البركاني المعروف باسم أوسوريزان (جبل الخوف)، وهو مكانٌ بين الأحياء والأموات، يقع على الطرف الشمالي لجزيرة اليابان الرئيسة، وقد اعتبر منذ القدم بوابةً للعالم السفلي. تنبعث الأبخرة الدافئة من أرضه الصلبة الصخرية عبر فناء مفروش بالحصى ومبانٍ خشبية غائرة لمجمع المعبد البوذي (بوداي جي) الذي تديره جماعة (سوتو زِن). تفوح رائحة الكبريت وخليط من البخور في الهواء، كما تسيل ببطء مياه حارة مائلة للصفرة أسفل ممر مرتكز على دعامات خشبية في المعبد.
مكان يدعو النفس أن تسعى جاهدة وراء تقديم تنازل تشوبه المخاطر لأجل ما هو غريب وطاغٍ بالمرة، فقد كان المعبد موجودا هنا بشكل من الأشكال معظم الألف ومائتي عام الماضية، لكنه ما زال يوحي بأنه مؤقت.
لقد أفضى هذا المكان بتأثيره القوي على نائب رئيس الكهنة جيكيساي مينامي، فقد راودته أفكار الموت مذ كان يافعاً وكان يتساءل كيف لشيء كهذا أن يشغل حيز الوجود على هذا الكوكب، وكان مأخوذا بفكرة أنه رغم عدم “خلقه” لنفسه إلا أنه تحتم عليه التعايش معها وتقبلها، وينظرُ جيكيساي للموتى باعتبارهم “موجوداتٍ حقيقية جداً” بحد قوله وأنها “موجودة حقا” وأكمل حديثه: “تماما كمثل هذه الطاولة أو أكثر حتى. فالأمر مختلف تماماً عن وجودهم في الذكريات” وذلك حين كنا نتبادل أطراف الحديث في إحدى مباني المعبد.
في مطلع مارس من العام 2011، أدى الموتى كل دور ممكن لطمأنة الأحياء. وفي بعض المناطق أُخذت مشاهد الأحبة الذين قد فارقوا الحياة من زاوية النظريات السيكولوجية العلمانية للفاجعة والحزن. وتقول ظاهرة “هلوسات ما بعد الفاجعة” أن الشخص يرى أو يسمع أو يحس بوجود هيئة شخص متوفى وهو ما يعد غالبا مسلكاً طبيعيا وصحياً تماما في طريق إصلاح نفسية أي أحد في أي مكان، عدا في أماكن كـتوهكو حيث أن السكّان المسنّين يمكثون في البيت غالبا مع الأرواح أكثر من مكوثهم مع اختصاصيي علم النفس أو الأطباء النفسيين.
وفي بقعة أخرى من توهوكو يَعرض تقليدٌ شاماني نسائي أصيل منذ أكثر من 1000 عام مساعدةً من نوع آخر؛ حيث يعد مهرجان أوبون احتفالاً بالأعمال المنجزة – يتبادل فيها الأموات والأحياء إنجاز عمل كل من الآخر في علاقة تصالح نسبية – أحدث تسونامي 2011 تصدعات مفاجئة كان يصعب جداً إصلاحها، فبالكاد توفر الوقت لكلمة وداعية. في ظروف كهذه، تمكن الشامان من وضع اللبنة المفقودة لهذه العلاقة باستدعائهم روح أحد أقارب المتوفى وتحدثهم نيابة عنه (المتوفى)؛ محاولين طمأنة القريب أن الميت يرقد بسلام ويعتني بأسرته من الجانب الآخر.
لكن للتأكيد فنظرة مينامي “لحقيقة” الموتى تختلف، فهو يضرب مثلاً بالمرأة المتوفاة في تسونامي 2011 تاركةً خلفها زوجها وابنته القاصر. كان صعبا على مينامي من الوهلة الأولى أن يعرض المساعدة بشأن فاجعتهما لأن الأب والطفلة لم يكونا قادرين على التحدث عن الأم.
ظنّت الفتاة أن أباها سيحزن إن تحدثَت هي عن أمها، لذا فقد كتمت الأمر وظلت صامتة، كما أن الأب سلك المسلك ذاته وبقي صامتا حتى لا يزعج ابنته، لذا امتنع كلا الطرفين عن الحديث عن الشخص الذي عنى كل شيء تقريبا لهما، فلم يُجدِ الأمر نفعا.
ما زالت الأم كما يقول مينامي، حضور حقيقي جداً، ورغم أن هذا قد يبدو ببساطة كأنه ذاكرة حية استثنائية إلا أن مينامي يصرّ أن هذا ليس كل ما في الأمر. كما أنه ليس مهتما باحتمالية استدعاء الأرواح حرفياً أكثر كما تحكي التقاليد الشامانية. ويكمل قوله أن الحديث عن “الروح” أو”النفس” غالباً ما يكون حديثا مبتذلاً وسهلا للغاية، وعوضا عن هذا فإنه يميّز بين ما هو حقيقي وافتراضي: فالافتراضي أمر تتحكمُ بوجوده، فأنت تتذكر أحدهم “باستحضارهم في ذهنك بإرادتك”. بينما الحقيقي مختلف تمام الاختلاف: فالشخص فيه موجود سواء شئتَ أم أبيت و”بغض النظر عن أفعالك ونواياك وأحاسيسك”.
“في كوريا الشمالية، لا يوجد ما هو أكثر واقعية من المتوفين أولاً والدكتاتوريين ثانياً”
يرى مينامي أن تساؤل ما إن كان الشخص “حقيقياً” أم لا سيحلّ محلّ ما إن كانوا يتمتعون بحياة جسدية أم لا، ويقترح مينامي أن الشخص إن كان حيّاً لكنه مجهول تماماً بالنسبة إليك، فهو يعد غير حقيقي على نحو معقول، وفوق هذا فإن الميت قد يسبب تأثيراً هائلاً – ليس على أحبائه فقط. ومثال ذلك كوريا الشمالية التي قد عبرت صواريخها جوّاً على مقربة من أوسوريزان في السنين الأخيرة. يقول مينامي: لا شيء أكثر واقعية من المتوفين أولاً والدكتاتوريين ثانياً في تلك الدولة.
يتحدث مينامي ذاك عمّا هو أعمق من الذاكرة، سواء كانت مرغوبة أم لا، أو تتمحور حول التراث، أو مقيدةً بحدود أسرية أم قومية، يتضح الأمر حين لا يعكس تحليله بالحديث عن الموتى فحسب، بل عن الأحياء كذلك. ويحتج أيضا بأن الأسى أو “شعور الناجي بالذنب” – خصوصاً بعد كارثة بحجم تسونامي 2011 – يتضمن عنصراً لا إراديّا مهمًّا قد يغفل عنه المرء بسهولة، يواجه المتضررون مجدداً أو حتى لأول مرة مشكلةً في وجودهم، فهم لم يحيّرهم سبب موت غيرهم فحسب، حيث أنهم ما زالوا أحياء، بل سبب بقائهم أحياء في بادئ الأمر “يجهلون لِمَ هم في الجوار ويجهلون سبب ولادتهم ويجهلون سبب موتهم لاحقاً. الأمر مرتبط تماماً بالقلق الوجودي المعتاد”.
هذا ما يفسر جزئيا توقنا لقصص الأشباح حسب مينامي، فالقصص السيئة “تقليدية للغاية مما يجعلها تُفقدك حس الواقعية النابض بالحياة”، أما الجيد منها فيقودنا لقلق صحي وسليم حيال استقرار وجودنا، وهو لا يزيد بالضرورة من خشية اقتراب الموت أو اقتراب وجودنا من نهاية مطافه، لكنه على الأرجح يشير بريبةٍ إلى أمر رفيع أو هش أو غير مادي يرمز لشرارة الوجود الأولى، كما الحال وسط صخور جبل أوسوريزان:
إن الأحياء ليسوا بتلك الهيئة الوجودية تماما… وإنه افتراض واهنٌ لأبعد حد أن تقول أنك تمثل ذاتك؛ ما يعني أنه لا يصح القول بأن الأحياء حقيقيون بينما الموتى افتراضيون، بل هم سواء، فلا أسس حقيقيةً لكلا الطرفين، إنهم ليسوا حقيقيين بالضرورة ولا افتراضيين بالضرورة بل وفقاً لي فهما شيء واحد.
ولمحبي الأفلام خارج اليابان، فإن الحديث عن تقاليدها المرتبطة بالأشباح قد يبادر إلى الأذهان مشهداً مفزعا واحدا ألا وهو لـساداكو يامامورا في فيلم Ringu (1998)، حيث تخرج الشخصية من بئر مبللةً يملؤها الحقد ترتدي ملابس بيضاء كالكفن بشعر أسود يغطي وجهها. وهنا مجددا نرى القلق المحيِّر من تقنيات القرن العشرين التي كانت تساعد في تمكين قصص الأشباح، فقبل عقود من هذا الفيلم كان الهاتف هو المشكلة، بينما في Ringu نجد أن هنالك شريط فيديو يجب ألّا يُشاهدَ أبداً.
يُحتَفَل في يومنا هذا بصناعة الرعب اليابانية، المشهورة بالأشباح المرهبة والحاملة للحقد والمستندة بشدة إلى تقاليد الكابوكي الياباني، كما يتناقلها كثرٌ حول العالم. لكن هل هذا يعني أن أشباح اليابان مندفعةٌ بثبات في رحلة بلا عودة خارج أسوار عالم الأحياء اليوم – منفية لا إلى عالم آخر، بل إلى عالم من الاستهلاك والتهكم وعدم الاكتراث في نهاية الأمر؟
إن كان الأمر كذلك، فلعل ياناغيتا قد كان محقاً من جهة ما حين كان يخشى على سكان طوكيو وأوساكا في بدايات القرن العشرين. كلُّ ما بدأت بلاده بتحقيقه ذاك العصر عبر استيرادها تقنيات وأيدولوجيات جديدة وتطويرها في سبيل التفوق البشري في العالم كان يشكل تهديداً بتلاشٍ مستمر من الذاكرة لما لعلّه يكون أكثر الأسئلة الملهمة أهميةً بشأن أشباح اليابان: بدلا من “هل هي حقيقية؟” إلى “إلى أي مدى نحن حقيقيون؟”
لا يزال السؤال متداولاً في قمة أوسوريزان، لكنه يتلاشى بسرعة حالما تعود لتلك الطرقات المعبّدة المريحة وإنارة الشوارع ومراكز التسوق المنتشرة التي لا تتوقف عن العمل في اليابان. عالم صنعته يد الإنسان بمعاييره المحددة ولأغراض في نفسه تخدم تلقائيا خرافة الإتقان التي قضّت مضجع ياناغيتا وأن بلاده ستخنع لها – هي ذاتها أخضعت نسخةً “مني”، وأنا في قمة الجبل حيث كنتُ قد لامستُ خيوطا من الشك. لا عجب أن قمم الجبال النائية مرتبطة بقوة وفي ثقافات كثيرة بالتجليات والنقاء، أما الحياة اليومية في الأسفل بالكاد تكشف عن كونها مختلقة – افتراضية. فهي، وأنا أيضا، نبدو حقيقيين كفاية.
لا يستجيب سائقو الأجرة للركاب الأشباح بالخوف المستمد من العصور المبكرة بل بأخذهم أينما شاؤوا
لكن ربما قد قلل ياناغيتا من شأن حاجتنا للموازنة بين الإتقان والغموض حيث يتراءى أننا بحاجة لكليهما، ولا يبدو أن صناعة الرعب اليابانية ستمضي بعيدا دون وقود يزوّده فضول الناس الجامح وشكّهم وقلقهم بشأن العالم: بشأن الجوانب المعتمة للحياة البشرية، وبشأن الآلام التي نسببها لغيرنا والتي تخلق ضغائن لا مفر منها على الإطلاق، وحتى بشأن عالم خفي أكثر أهمية من الذي نخوض فيه بحياتنا اليومية، عالمٌ يحوي ظلالاً أكثر من النور.
يتساءل البعض في اليابان ما إن كان هنالك تأثير أخير لصدمات 2011 قد يؤدي لإعادة تقويم طفيف لذاك التوازن؛ أي ذاك النوع من التحول الثقافي العميق الذي بدا واضحاً فقط عند النظر للماضي. يلاحظ هؤلاء توسعا في الرقعة التي بها جيل علمانيّ مسابق لزمنه قد كان يمهد الطريق لجيل قادم أكثر اهتماماً “بالروحانيات” والطقوس، ويشيرون لسائقي سيارات الأجرة في توهوكو الذين يتفاعلون مع الأشباح كما لو أنهم يتفاعلون مع الأحياء عوضا عن استجداء الخوف المستمد من العهود السابقة، فهم يستمعون لما يتوجب عليهم قوله، ويأخذونهم أينما يريدون. تبدو هذه الأشباح أقل شبهاً بكوابيس الكابوكي الطيفية أو أفلام الرعب اليابانية وأكثر شبهاً بالأرواح اللطيفة المعقدة والغامضة التي تظهر في المسرح التقليلي الياباني “نو” (وهو فنّ يزدريه تاريخيا الساموراي الذين قد قَتلوا عدداً كبيراً من الناس لدرجة أنهم لم يعودوا يأبهون لحكايا الأموات الساعين للانتقام).
سواء حدث تحول كهذا أم لا فإن موعد حدوثه والهيئة التي سيؤول إليها إن حدث ذلك، لهو لغز بحد ذاته. لأن الناس توقعوا منذ أمد قريب أن تتبع المجتمعات البشرية مسارات شبيهةً يفضي بها الأمر لموقف شبيه فيما يخص سياساتهم ومعاييرهم واعتقاداتهم، فالسنين الأخيرة تقترح أمرا مغايراً: قصصاً قوميةً لا تقل شأنا عن قصص الأفراد وتتميز بتغيرات وتقلبات وانعكاسات غير متوقعة. هل فعلاً رأى فوكوجي ما حسب أنه قد فعل على الشاطئ؟ وإن حدث ذلك فما الذي تلاه؟ إليكم هنا بعض الحقيقة والقيم فيما يخص قصة شبح فوكوجي: إنها تجربة مليئةٌ بغموض الحياة العميق والافتقار للأجوبة، والتي سنعدُّ خاسرين فيها جميعا بمحاولتنا التعايش من دونها.
عن كاتب النص الأصلي: كريستوفر هاردينغ، مُحاضر في تاريخ آسيا بجامعة إدنبرة متخصص في التاريخ الهندي والياباني الحديث، وكان من بين مفكري الجيل الجديد لإذاعة بي بي سي الثالثة Radio3 لعام 2013.
ترجمة: أحمد الخصيبي.
رابط النص الأصل: https://aeon.co/essays/japanese-ghost-stories-dwell-in-the-spirit-of-their-times