توماس كُون ومنفضة سجائره

كتب بواسطة محمد حاذور

كتابة: جون هورغَن
ترجمة: محمد حاذور

لا يتم الحديث والنقاش عن متعة علوم الفلسفة وأعلامها أو الأبستمولوجيا: درة العلوم الحديثة، دون المرور بتوماس كُون (1922- 1996) فيلسوف العلم الشهير، إذ مع مجيئه لدائرة العلوم الفلسفية، أحدث ثورة، نفضت الغبار عن المنهج في التفكير والأهم: سيرورة تطور العلم، أو سكة العلوم التي يمشي ويتماشى عليها المجتمع العلمي وما يجاوره، فكُون، هزّ المنطق المتعارف عليه فيما يخص “البردايم” وأنزله من عليائه نحو العادي، آنذاك، حينما صدر كتابه الشهير “بنية الثورات العلمية” ففيه، ناقش تقليدية سير العلم، الاستقامة التي يسير بها وغير المعرضة للكشف والتصويب. هنا في هذه المادة السلسة والممتعة، عن واحدة من الأحداث التي جرت في قاعة كُون في الدراسات العليا، مع أحد طلابه، والمشاكسة والصراع، بين الأستاذ والطالب. يقدم جون هورغن، الحادثة وما أحاط بها مع بعض التحليل، ورؤيته والتقاطاته، اتفاقه واختلافه، مع كُون وموريس، والحديث عنهما بوضوح تام.

في عام 1972، ألقى توماس كون منفضة سجائر بوجه إيرول موريس. اشتهر كون بالفعل في كتابه “بنية الثورات العلمية” الذي نُشر قبل عقد من الزمن، وكان في معهد الدراسات المتقدمة في برنستون، وكان موريس طالباً للدراسات العليا في التاريخ وفلسفة العلوم. خلال اجتماع في مكتب كون، شكك موريس في آراء كون حول النماذج، وشبكات الافتراضات الواعية وغير الواعية التي تعزز فيزياء أرسطو، نيوتن أو إينشتاين مثلاً: لا يمكنك القول إن نموذجاً واحداً أكثر صواباً من الآخر، طبقاً لكون، لأنه لا يوجد معيار موضوعي للحكم فيما بينها. إن النماذج لا تقارن أو غير قابلة للقياس. سأل موريس، إذا كان ذلك صحيحاً، ألن يكون تاريخ العلم مستحيلاً؟ وأضاف أيضاً، ألا يمكن الوصول للماضي-باستثناء، شخص يتصور أنه إله؟ أدرك كون أن تلميذه قد أهانه للتو، تمتم، “إنه يحاول قتلي، إنه يريد قتلي”. ثم ألقى منفضة السجائر على موريس، وطرده من البرنامج، حسب ما يذكر موريس.

اتجه موريس ليصبح صانع أفلام وثائقية. نال الأوسكار عن فيلمه “ضباب الحرب-the fog of war”، وصورته عن “مجرم الحرب”-مصطلح موريس- روبرت ماكنمار. ساعد فيلمه الوثائقي “الخط الأزرق الشفيف -the thin blue line” في إلغاء إدانة رجل ينتظر حكم الإعدام بتهمة القتل.
لم يغفر موريس لكون أبداً، والذي كان في نظره، شخصًا سيئًا وفيلسوفًا سيئًا. في كتابه “المنفضة، أو الرجل الذي أنكر الواقع”، يهاجم موريس عقيدة “فترتي، زمني”، لكني أشك في أن موريس يؤيد ذلك، لأنه وصف مجموعة مرتبطة بولاء غير عقلاني لزعيم مستبد- كون.

كتب موريس: قد يرى الكثيرون أن هذا الكتاب هو ثأر، بالتأكيد هو كذلك.

موريس يلوم كون على تقويض فكرة وجود عالم حقيقي هناك، والذي يمكننا مع بعض المحاولات أن نتعرف عليه. يريد موريس تفنيد هذا التأكيد المريب، والذي يعتقد أن له تأثيرات غير سوية. إن إنكار الحقيقة الموضوعية، يُمكّن من الشمولية والإبادة الجماعية، وفي نهاية المطاف وربما بشكل لا رجعة فيه، يُقوض الحضارة.

أنا أحب أفلام موريس وأحب “منفضة السجائر”، إنه كتاب غريب الأطوار وخطير، وهو مزيج من الصحافة والمذكرات والجدل. ويضم مقابلات مع نعوم تشومسكي وستيفن واينبيرغ وهيلاري بوتنام.

من بين اللقطات الكبيرة الأخرى، إنه مكتظ بالرسوم التوضيحية والتهميش على جميع أنواع

“الأركانا – arcana

وفرضية “sapir-whorf”

ومكتبة بابل البورخيسية،

و “the man who shot liberty valance”  

و “unicorns” و “humpty dumpty” والجنية الوردية – armadillo

هذه الإنعراجات الظاهرة، رغم أنها مسلية بحد ذاتها، إلا أنها تخدم الموضوع الرئيسي. أرمديلّو-armadillo  على سبيل المثال، يساعد موريس على توضيح نقطة حول تطور التعريفات العلمية. الجنية الوردية أرمديلو هي أرمديلو الجنية الوردية، سواء تم تعريفها بالحمض النووي أو بِنيويًا.
ولكن بالنسبة لنسخة موريس من كون، لا توجد حقيقة موضوعية تشير إليها اللغة. كل ما لدينا هو كلمات ومعانيها المتغيرة باستمرار. “نحن عالقون في ضباب اللغة دون مَخرج”، كما يقول موريس.

هذه هي راديكالية ما بعد الحداثة، التي تنص على أننا لا نكتشف أرمديلوس أو الإلكترونات أو حتى الأرض، إنما نتخيلها، نبتكرها ونبنيها. لا يمكن لما بعد الحداثيين أن يقولوا الحقيقة والمعرفة والواقع دون ابتسامة متكلفة أو يلفّوا العبارات باقتباسات مفزعة. يسمّي موريس البنيوية: “الكتاب المقدس لما بعد الحداثة”.

كخيار آخر لمنظور كون، يقدم لنا موريس وجهة نظر الفيلسوف سول كريبك. لقد استمعت لفلاسفة انتحبوا حتى الغثيان من كتاب “التسمية والضرورة-naming and Necessity”  وجلست في ندوة معه عام 2016. كان واهنًا،  يجلس على كرسي متحرك وتمتم إلى الحد الذي فهمته فيه. فوجئت قليلًا، عندما بدا أن كريبك يضع الضجة الفلسفية حول التعريفات، إلى عبث غير محدود.

بمعية “منفضة السجائر -the ashtary” أنا الآن أقدّر إنجاز كريبك، الذي سعى لإثبات أن الأشياء التي تشير إليها كلماتنا موجودة بشكل مستقل عن مفاهيمنا لها، لغير الفيلسوف الذي قد تبدو وكأنها حقيقة بديهية. لكنه يتعارض مع ادعاء ما بعد الحداثة أن الكلمات والمفاهيم هي كل ما نعرفه. يصر موريس عبْر كريبك، أننا نبتكر الكلمات ومعانيها فقط، ولا يعني أن نبتكر العالم.

أنا أتفق إلى حد ما مع مؤاخذات موريس على كون.


لقد قضيت ساعات في التحدث مع كون عندما كان في معهد ماساتشوستس (MIT)، ما جعلني مندهشًا، هو كوميدي متناقض تقريباً. فقد ربط نفسه ببرهان وهو يحاول أن يوضح بدقة ما قصده عندما تحدث عن استحالة الاتصال الواقعي. لقد بدا بالفعل أنه يشك فيما إذا كان الواقع موجوداً بشكل مستقل عن مفاهيمنا المليئة بالعيوب.

في الوقت نفسه قال موريس قولاً قاهراً عن كون الى درجة أنني أشعر بالتعاطف معه. موريس يصف كون بأنه مصاب بجنون العظمة ودكتاتور فاسد وإله مؤذٍ، يطبق شكوكه على الجميع باستثناء نفسه. يبدو كون بوصفه أستاذاً للدراسات العليا، مثل الشاب في رواية 1984، والذي كان مهدداً بتآكل وجهه من الفئران، يقول الحقيقة مثلما يقولها الأخ الأكبر (2+2=5). من سخرية القدر أن كون قارن العلماء بتبعية الأخ الأكبر في غسل أدمغتهم.

أود أن أقدم بضع نقاط في دفاع كون.

ما بعد الحداثة، تقدمية.

يوضح موريس أن ما بعد الحداثة هي أيديولوجيا جذابة للسلطويين اليمينيين. ولتعزيز هذا الادعاء، موريس ينتبه لازدراء الحقيقة الذي أظهره هتلر والرئيس الأمريكي الحالي، والذي تتفوق فيه السلطة على الحقيقة. يقترح موريس “أن الإيمان بعالم واقعي، بالحقيقة والمرجعية، يبدو أنه يتحدث إلى اليسار عن إنكار العالم الواقعي، الحقيقة والمرجعية، بالنسبة لليمين”. ذلك خطأ ببساطة. غالباً ما اقترنت ما بعد الحداثة بالانتقادات التقدمية المعادية للسلطوية وللإمبريالية والرأسمالية والعنصرية والتعصب الجنسي-الجنسانية. ما بعد الحداثيين أمثال دريدا وفوكو وبتلر وبول فييربند، تصدوا للنماذج السياسية والأخلاقية والعلمية التي تمكّن الأشخاص في السلطة في إبقاء الوضع الراهن على ما هو عليه.

استجواب العلم، صحي.

نعم، من الممكن أن تصبح ما بعد الحداثة، مُنحلّة، ويمكنها أن تستجوب حتى النماذج التي تقوم عليها العلوم المثبتة وحركات العدالة الاجتماعية. لكنها بمثابة ثقل موازن قيِّم فيما يتعلق برغبتنا لليقين. كون كان على صواب بأنه حتى أكثر المفكرين ظاهرياً عقلانيين- العلماء- يمكن أن يخدعوا أنفسهم في التفكير بأنهم يعرفون أكثر مما يعرفونه حقاً.

غالباً ما يتمسك العلماء بالنماذج لأسباب غير علمية. (في الواقع، هذا هو أهم ما في كتابي “مشاكل العقل والجسد: العلم، الذاتية، ومن نحن بالفعل؟). كان نموذج كون مناسب تماماً لوصف الطب النفسي الحديث، والذي غالباً ما يكون بمثابة الذراع التسويقية لصناعة الأدوية، أو علم الأحياء التطوري. وقدم بعض مؤيديه أعذاراً على استمرار العنصرية والجنسانية والنزعة/السلطة العسكرية.

كُون، التصوف والأنانية- مذهب الأنا.

إحدى الخصائص الممَيزة للحالات المتصوفة- سواء كانت عفوية أو ناتجة عن تأمل أو “LSD”هي أنه لا يمكن وصفها بلغة أو بمفاهيم عادية. خلال التجربة الصوفية، أنت تشعر، كما تعرف، أنك ترى الأشياء كما هي بالفعل، ومع ذلك من المفارقات أنك تواجه صعوبة في وصف ما تراه. الله والحقيقة والواقع، كل ما تريد تسميته غير قابل للتسمية أو الوصف، كما افترض ذلك وليم جيمس من قبل.
من المؤكد أن كون سينتابه الذعر من هذا القياس المتماثل بعض الشيء، لكن النسيج أو البِنية تعمل بوصفها نوعاً من اللاهوت السلبي، والذي يصر على أن الله يفُوق جميع أوصافنا له. تستشف فلسفة كون أيضاً، حقيقة عميقة عن الوجود البشري، هي أننا جميعاً محاصرون داخل فقاعاتنا الفردانية الصغيرة. يمكن للغة أن تساعدنا في التواصل مع بعضنا البعض، إنما في المجمل لا يمكننا إلا تخمين ما يجري في أذهان الآخرين.

هل كان موريس يُقدِّر كون حقاً؟

في نهاية فيلم “منفضة السجائر” بدوت مستغرباً عما إذا كان موريس ماكراً، أو ربما دون وعي منه يدافع عن كون. ذلك أن دفاع كون عن الحقيقة الموضوعية لا يُظهر الموضوعية. إن عاطفيته السافرة والمغرضة والمملة بشكل واضح، تُعزز وجهة نظر كون بأن البحث عن الحقيقة هو محاولة ذاتية لا مفر منها. يُخمن موريس أن كون في أعماقه كان يعلم أنه على خطأ؛ ولذا دافع عن فلسفته بشراسة. وربما موريس يهاجم كون بشراسة متساوية، ذلك أن موريس يظن أن كون كان على صوابٍ في بعض من فلسفته.

ملحظ أخير.

لطالما شعرت أن الفلسفة عندما تحاول أو تتظاهر بأن تكون عقلانية وموضوعية بشكل صارم، كانت ترتكب خطأ في درجة معينة. الفلسفة أقرب إلى الفن من العلوم أو الرياضيات. تساعدنا الفلسفة على رؤية العالم من خلال عيون شخص آخر، مثلما تفعل رواية جيدة أو أغنية أو فيلم أو لوحة. في “ما وراء الخير والشر” قال نيتشه “أن كل فلسفة عظيمة هي “اعتراف” نوع من السيرة الذاتية اللاإرادية واللاواعية”. البِناء في الفلسفة هو عمل رائع، وكذلك الكتاب الذي بيّنته “منفضة السجائر” مما يساعدنا على رؤية العالم بمعية فضول موريس الذاتي.

موريس الذي يُطلق على فلسفته “الواقعية الاستقصائية”، يكتب موضحاً “أشعر بقوة، أنه على الرغم من جنون العالم الذي لا يوصف، ثمة فكرة -ربما الأمل- التي يمكننا الوصول إليها خارج الجنون، والعثور على الحقيقة وعلى العالم، وعلى أنفسنا”. كون على الرغم من مجمل أخطائه دفع بموريس إلى كتابة عمل رائع من الواقعية الاستقصائية؛ لذا إن لم يكن هناك عمل آخر يجدر القيام به، فينبغي أن نشكر كون.

رابط المقالة الأصلي:

https://blogs.scientificamerican.com/cross-check/was-thomas-kuhn-evil/

أدب الثاني عشر بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

محمد حاذور