بناءُ المعنى وفَاعِلِيةُ القراءة

كتب بواسطة رشيد الخديري

            التحدث عن كلام المبدع أمر في غاية الصعوبة، “لأن الكلام على الأمور المعتمد فيها على صور الأمور وشكولها التي تنقسم بين المعقول وبين ما يكون بالحس ممكن، وفضاء هذا متسع، والمجال فيه مختلف. فأما الكلام على الكلام، فإنه يدور على نفسه، ويلتبس بعضه ببعضه”بتعبيرأبو حيان التوحيدي، غير أن كلام المبدع ها هنا، لا بد وأن يَتَأَسَّسَ عنه كلام آخر مبني على نظريات الأدب، واستراتيجيات قرائية وتأويلية غاية في الدقة والفهم، ولا نعني بذلك تلك القراءة الخطية الأفقية التي لا تتفاعل مع التحققات النصية تفاعلا مثمراً وإيجابياً، وإنما نروم تحقيق قراءة عمودية تنفذ إلى أغوار النصيات وتسبر أعماقها وأسرارها. والواقع، أن قراءة الشعر ليست بالمسألة الهينة، قياساً بباقي الأنماط التعبيرية، والفرق –في نظري- هو زئبقية القصيدة، وانفلاتها الدائم، إذ هي تتغذى من الخيال الأدبي بشكل كبير، ولا تخضع لضوابط إنتاجية معينة، وتبقى دائمة التَّمنع والإشراق حتى ولو نزفت مجازاتها على البياض. إننا بهذا الكلام لا نحيط القصيدة بهالة من القدسية، بل هي كذلك، كثيرة الإشراق والقبض على دوالها التعبيرية صعب التَّحقق وبعيد المنال، والقول بهذا، لا يعني أن الخيال مقتصر على القصيدة فقط، بل يُوَحِّدُ كافةَ الأجناس التعبيرية، إلا أن للخيال الشعري سحر خاص، لا يعرفه إلا من اكتوى بلهيب الحرف واحترف غواية القصيدة.

             من ها هنا، تنبع أهمية وضع استراتيجية قرائية تعتمد على إدراك المعنى عن طريق تفعيل كل الحواس، فالمنهج وحده لا يكفي لقراءة القصيدة، وإنما هناك أشياء أخرى حدسيةً روحيةً، تتعالق وتُسْتَدْمَج مع ما هو بنائي دلالي تركيبي، في أفق كتابة نص منفلت قائم على التعددية والمغايرة. “وفي اعتقادنا أن الشعرية الجديدة اليوم، في حاجة ماسة إلى نقد يعرف بها ويقترب من عوالمها المغايرة، نقد يمد جسور التواصل بين الشاعر وقارئه، ويقلص الهوة بين المنجز الحديث والذائقة الشعرية، بعيدا عن الأحكام الجاهزة والإدعاءات المسبقة”، إنَّنَا نتساءل بدورنا: هل حقّاً انتهى زمن الشِعر؟ سؤال كهذا يبدو متاهة،لأنه لا يمكن اعتبار زمن الشعر قد انتهى وانكمش دوره الوجودي والجمالي، أو أنه لم يعد صالحا ليكون خطاباً في الجمال والمعرفة والتداولية، باعتبار ما نزعمه من انسداد أفق الشعراء، وانحسار متذوقي الشعر، قياسا بمن يذهبون صوب المعمل السردي على سبيل المثال، قلنا، إن السؤال عن جدوى الشعر متاهة ، و الإجابة عنه أيضا  متاهة ، وهذا النوع من الأحكام” المعلبة”، والجاهزة بالمعنى الكوني للشعر ووظيفته في الوجود، يجعلنا في صلب الأسئلة العميقة التي يطرحها الشعر على وجوده ذاته، نحن في حاجة إلى الشعر؟ أليس الشعر رئة ثانية يتنفس بها العربي منذ العصور الغابرة؟ صحيح أن الشعر اليوم يعيش حالة خمول وتكلس، لكن هذا الوضع يقتضي منا نوعا من المساءلة والاستئناف، في ظل ما نعيشه اليوم من صدام يومي مع الحياة وهيمنة التكنولوجيا، وجنوح السواد الأعظم من شعرائنا نحو استسهال الكتابة الشعرية، خاصة مع ظهور ما بات يعرف” بقصيدة النثر”، وانحراف الإنسان عن معنى الشعر الأنطولوجي.

      إن وضعا كهذا، يقتضي مساءلة الشعر باستمرار، حتى يدرك الشاعر حجم الخيبات التي يتكبدها بفعل ازدرائه لقيمه ومعنى أن يكون كائنا منتجا، موجودا بالشعر، لكونه إعادة صياغة الوجود، بما لم يكن واردا في هذا الوجود، بمعنى يصبح للشعر قدرة على الخرق والابتكار، واستئنافا للوجود في سياقات الصيرورة والأنا الخاضعة خضوعا كليا لفن الشعر، بعيدا عن التشظي والتلاشي، والسقوط في المشترك والمستهلك. يمكنُ أن نقول في ضوء هذه المخاضات العسيرة، والتفجرات الهائلة، إن القصيدة العربية المعاصرة توهم ولو بشكل ظاهري عن وعيها الوجودي، وانخراطها الكلي”في أسئلة الحداثة”، التي راهنت عليها منذ إرهاصاتها الأولى، لكن ذلك لا يعدو أن يكون مجرد انعطاف متجاوز، نحو خطاب شعري يشكل عنصر الارتداد الركن الأساس في بنياته الفنية والجمالية، وهذا طبيعي في ظل الالتفاف حول نموذج شعري مازال مسيطرا على الذهنية العربية، لأن القصيدة المعاصرة تأسست على أنقاض الشكل القديم، رغم المحاولات التي أبدتها من أجل تحقيق التوازن الذاتي، وتأسيس سقف مغاير، يستجيب لمعاييرها بعيدا عن سماوات أصول الشعر العربي، من هنا ينبع السؤال: ما مستقبل الخطاب الشعري الجديد؟ لن نقول إنها حالة تجاوز، بقدر ما هي محاولة لإيجاد ملامح خاصة ضمن صيرورة النص الشعري العربي، والواقع الآن الذي يفرض نفسه بإلحاح، هو أن القصيدة تعيش حالة عزلة عن كيانها، نتيجة “أزمة الثقة” التي تولدت بينها وبين القارئ/ المتلقي، وهي مطالبة اليوم قبل أي وقت مضى بضرورة البحث عن آماد أخرى تحتضنها، وتحتضن رؤاها الجديدة، لكن يجب أن نعترف من باب الإنصاف على الأقل، أنها أحدثت خلخلة في الشعرية العربية، بفعل طاقاتها التفجيرية التوليدية، وأظهرت مدى السعي الدائم الذي سعى إليه روادها الحداثيين من أجل خلق دينامية جديدة في روح وجسد القصيدة، دون – أن يعني هذا طبعا- التنكر للثدي الذي رضعنا منه جميعا حليب القصيدة العربية.

     والحداثة  الشعرية –في تصَّوري- لم تكتمل عربياً، ولم تُبْنَ على أساسات متينة، رغم عديد البيانات التي أصدرها ثلة من الشعراء في جغرافيات عربية مختلفة ومن زوايا متعددة، كبيانات محمد بنيس وأدونيس وقاسم حداد، إلا أنها ظلت بيانات معزولة ومنزوعة من سياقاتها التاريخية والمعرفية والإبداعية، رغم ما تَضَمَّنَتْهُ من رؤى جديدة، غير أن ذلك لم يكن في صالح الممارسة الشعرية، لسبب بسيط هو أنها فتحت الباب على مصراعيه لكل من أراد كتابة الشعر تحت مسمى الحداثة، وهو في واقع الأمر، لا يعرف معنى الحداثة ولا هو واعٍ باشتراطاتها المعرفية والإدراكية. إن فهمنا للحداثة لا يتعدى المعطيات التاريخية، التي فُصِّلَتْ على مقاس الغرب، ووقع استلهامها بشكل فاضح وخاطئ، رغم المحاولات العديدة لاستنباتها في التربة العربية، والبحث عن ملاءمتها مع كل المتغيرات التي عرفتها الأمة العربية خلال محطاتها المتعددة، وفي هذا الصدد، لا بد من الإشارة إلى ذاك السجال الحاد الذي تَمَخَّضَ عنها، ويتمثل في ظهور تيارين بارزين بصددها، وهما تيار رافض، يرى في الحداثة نوعاً من الاستيلاب للهوية العربية، بل”بدعة غريبة عن واقعنا العربي”، وآلة هدم لكل شيَّدَهُ الأسلاف، ثم تيار ثانٍ، يعتبرُ الحداثة سمة من سمات التطور الذي يتوافقُ مع روح العصر، ومهما يَكنْ من مواقف ومواقف مضادة، فإن الحداثة العربية مازالت “معطوبة” بتعبير الشاعر والناقد المغربي محمد بنيس، وفي حاجة إلى المزيد من الخلخلة لأنساق التفكير، وكذا الوعي باجتراحاتها المعرفية والإدراكية.

مصدر الصورة:https://2u.pw/ZoghA

أدب الثالث عشر بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

رشيد الخديري