للمغربي عبد الواحد كفيح،مكانة متميزة داخل مدونة السرد المغربي المعاصر،فهو يُعدّ أحد الأصوات القصصية والروائية المتميزة،التي طفت على السطح بقوّة،منذ ثمانينيات القرن المنصرم إلى جانب كوكبة من الأسماء القصصية،التي ظلّت تحفر اسمها في بؤس المنافي البعيدة مُتربعاً بذلك على عرش الهامش،بأسلوبه الساخر وبلغته البدوية الجميلة الغارقة في جحيم الواقع.استطاع أن يحفر اسمه في صمت مدينة الفقيه بن صالح(المغرب)الرهيب،عاملاً على تجميل واقعها ومُتخيّلها الجماعي، بلغة سردية دافئة تغوص في ذاتية الإنسان المغربي المقهور وتعري من مكبوتاته السيكولوجية.فجاءت روايته الأخيرة “روائح مقاهي المكسيك”، كصرخة عارية تجاه جحيم العالم السفلي، الذي نعيش فيه ويعيش فينا. إذْ يتكون معمار الرواية من عدة مشاهد مُترابطة فيما بينها، الخط الفاصل بينهما هو تقنية “الفلاش باك” التي عمل السارد ببراعة إلى اللجوء إليها للتكسير من حدّة السرد ومن مفهوم الزمن العادي الرتيب الذي طبع الرواية المغربيّة الواقعية منذ سبعينيات القرن الماضي. كما تضم هذه المشاهد شخصيات كثيرة وأحداث مُتنوّعة وأزمنة مُتباينة بين الماضي والحاضر ومتداخلة في آحايين كثيرة عبر مستويات لغوية مختلفة (لغة مباشرة، تصويرية، عامية..إلخ .). هذا إضافة إلى استناد طرائق تشكلها على مبادئ جمالية جديدة في توطيد العلاقة بين مفهومي الأدب والواقع. فالقارئ للرواية يحس أن عبد الواحد كفيح، يفند الفكرة الرائجة في الكتب النقدية العربية المعاصرة في كون الرواية الجديدة، جاءت كرد فعلٍ على الرواية الواقعية، بل إنّ الكاتب يعمد إلى تعامل فني مع الواقع بطريقة جديدة تجعله يعبّر عن الجوهري والمكبوت فيه، انطلاقا من شخصياته الغريبة، وأيضاً بطريقة تمكّنه من التحام مادته المتخيّلة بمسام الواقع وانفصالها عنه في آن واحد.
لكن في عمله الجديد“تناغمات نصية: قراءات في أعمال إبداعية مغربية” الصادر حديثاً ضمن منشورات الموجة الثقافية بالمغرب، يُطالعنا عبد الواحد كفيح هذه المرة بقبعة النّاقد، إذْ يُسلّط الضوء على تجارب هامشية داخل الإبداع المغربي (زهرة رميج، عبد العزيز جدير،ر بيعة ريحان، عبد السلام الجعفري، مصطفى الغتيري، عبد الله المتقي، نادية الأزمي، محمد زفزاف، مسعود جاحظ الصغير، جبران أبو مروان الكرناوي، محمد فاهي، مبارك حسني، محمد مقصيدي، سميرة المنصوري العزوزي، عبد الرحيم بنبيكة) مُنتصراً للهامش وعوالمه التخييلية، نكاية في المركز ورموزه. لكنّ الهامش هنا لا يتبلور إلاّ بمفهومه الثقافي وليس الفكري، بحيث تغدو المؤسسات الثقافية هي المساهم الأكبر في تهميش هذه الأسماء دون غيرها من خلال عدم الاحتفاء بها وبمنجزاتها القصصية والروائية والشعرية وباقي الأجناس الأدبية والفنية الأخرى بحكم أنّها استطاعت أن تُبرهن عن جدارتها واستحقاقها في أن تتنزل منزلة كبيرة داخل جغرافيات الأدب المغربي على اختلاف أجياله وحساسياته. ورغم انتماء عبد الواحد كفيح ثقافياً إلى الهامش كحيّز جغرافيّ، يُقابله شساعة مفهوم المركز، فهو ظلّ مُؤثراً منذ ثمانينيات القرن الماضي بنتاجاته القصصية وكتاباته النقدية العاشقة داخل حقل الأدب المغربي. والتي كانت سبباً رئيساً في ابتداع كتابه النقدي الجديد “تناغمات نصيّة” من خلال مساءلة جملة من التجارب الأدبية انطلاقاً من راهن الثقافة المغربيّة،وما شهدته في السنوات القليلة الماضية من إبدالات مفاهيمية أثرت على كارطوغرافية الأدب المغربي وجعلته يخرج من سراديبه المُظلمة داخل فضاء الجامعة، ليُعانق فضاء أرحب داخل الجرائد العربيّة وملاحقها الثقافية والسياسية. وازداد هذا الوعي أكثر بقوّة وزخم هذه التجارب الإبداعية لحظة ترجمة بعضٍ منها صوب لغات أجنبية، ما أتاح لهذا السفر المعرفي إمكانية تلاقح فنيّ وأدبيّ مع تاريخ الآخر وثقافته وتراثه الذي أضحى يعيش فينا ونعيش فيه.
حرص كفيح في كتابه هذا أنْ ينزع عنه عباءة الروائي ويمتطي صهوة الناقد المتشبّع بمُخاتلات السرد وخباياه، خاصّة وأنّه عمل على التخلص من المفاهيم الفكرية والخطابات الأدبية والنظريات المعرفية المؤسّسة لجوهر ومفهوم الكتابة، كما تبلورت معالمها داخل التجارب الأدبية التي تناولها بالقراءة والدرس، ما جعل فعل الكتابة لديه يتنصّل من مفهوم “النقد الأكاديمي” المتعارف عليه، ويُتوّجه بقراءة عاشقة وفاحصة للتجربة الأدبية في عملية تماهٍ فنيّ معها من خلال التركيز على معجم أدبي(وليس نقدي) في سبر أغوار تلك التجارب الشعرية والقصصية والروائية، اختارها أن تشكّل معالم كتابه. وهذه الخاصية على مُستوى الكتابة لا ينفرد بها عبد الواحد كفيح وحده وإنّما تنطبق على العديد من الكُتّاب الذين يُمارسون الكتابة الإبداعية،فتراهم من حين لآخر يتجاوزون رقعة الإبداع صوب حدود النقد، بحيث أنّ اللغة التقريرية تطفح بقوّة إلى السطح، ويرتفع معها منسوب التحليل على حساب الوصف الأدبي،إذْ ينتقل الكاتب من النقد بمفاهيمه ونظرياته السجالية داخل تاريخ الأفكار،صوب قراءة عاشقة تؤطرها الذات ويُحدّد مرماها العشق.وفق هذا المنحى، لجأ عبد الواحد كفيح إلى إقامة علاقة حميمة مع هذه التجارب الأدبية،بلغة أدبية خالية من التنظير المفاهيمي،فهو يدخل إلى جسد التجربة ويفتح مسامها على الجُرح والألم، بغية إبراز ما تنضح به هذه التجارب الأدبية من شعرية الصورة واللّغة والحكاية والسرد وغيرها من مُكوّناتٍ فنية مُضمرة داخل جماليّات التعبير الأدبي التي بها تبني تصوّرها ورؤيتها للعالم الذي تنتمي إليه فيزيقياً. هكذا نجد أنّ الروائي حين يعمد إلى كتابة تقريرية فهو يحمّلها هواجسه الإبداعية ويُفجر مكنوناتها على مستوى اللّغة ورحابتها الفنية، فهو يغوص عبر هذه اللّغة بوصفها مسكناً لوجوده، ليمنح التجربة الأدبية حضوراً جديداً داخل مدونة النقد العربي، عاملاً على نقدها وتفكيكها قبل أنْ يُعيد نسجها وحياكتها من جديد داخل سلطانها النقد.
وهذا النمط من الكتابة الذي انصرف إليه كفيح يُعد توجّهاً نقدياً تأسّست ضمنه أكبر الحركات الأدبية والفلسفية تلك التي عملت على إحداث قطيعة إبستمولوجية منذ نهاية الخمسينيات بفرنسا مع كل من جون بول سارتر ورولان بارت وموريس بلانشو ضمن ما سُميّ بسياق مُناهضة اليقينيات السطحية المُميتة وخطاباتها البرجوازية الموروثة، إذْ تُصبح الذات في قلب التحليل النقدي الإيديولوجي الذي تنكشف عبره الذات عن طريق شكل الكتابة بما يجعلها كتابة، تستكنه الجسد والمجتمع والتاريخ في آن واحد. ومع ذلك،فإنّ تتبع مُختلف القراءات داخل الكتاب لم تنفصل ضمنياً على مستوى طرائق تشكّل مفهوم الكتابة إلى مفهومها السارتري،فهي خاضعة لتراتبية طبقية وإيديولوجية،تجعل تحليلاتها ومُنطلقاتها المعرفية الخفيّة تغوص في مفهوم النقد الأيديولوجي كما تبلور لدى سارتر رغم خلوّ هذه الكتابة من شوائب الاستشهادات الفكرية السابقة على وجودها والمطبوعة بمقاييس نقدية جاهزة تحتكم في شروطها ونموّها إلى السياق الذي بزغت فيه.
مصدر الصورة: https://2u.pw/gP15h