لم يكن ضحكَا فحسب

كتب بواسطة رشيد الخديري

عن سيرة غير مكتملة للجرح

         في مجموعته القصصية “لم يكن ضحكا فحسب” التي صدرت حديثا عن دار فضاءات للنشر والتوزيع في 82 صفحة من الحجم المتوسط [2017]، يجري القاص العماني محمود الرحبي حوارات عديدة مع الذاكرة والجرج والأنين، في بنية سردية تنبني على المفارقة، ولا شك أن العنوان الذي تم اختياره لهذه المجموعة يعكس وعيا متناميا باللعبة السردية وبحثا دائما عن تشكيلات نصية داخل هذا النسيج الهائل من الترميز والسرود والبناءات. والعنوان كعتبة أساسية في التشكلات السردية كما بشر بذلك الناقد جيرار جينيت يستقي أهميته من كونه عنوانا تبئيريا/ بؤريا يحيل إلى السخرية، فهو يعيد كتابة “التاريخ الذاتي” للمجموعة ككل، ويوجه السرود بشكل عام.                  

         إن القاص وهو يشيد عوالمه النصية من خلال استثمار الذاكرة وترسبات الماضي عبر المزج بين التخييلي والواقعي، هو في نفس الوقت يضع القارئ/ المتلقي أمام ذاكرة نصية متعالقة مع غيرها من النصوص الأخرى، أو ما علق بها من نتوءات الماضي، خاصة أن أفق الاشتغال في هذه المجموعة مغاير ومختلف قياسا بالأعمال السابقة، ما نعنيه أن هذه التجربة القصصية الجديدة تقدم نفسها على أنها تجربة مكتملة وناضجة، وتحيل إلى مجموعة الدوال السردية الموغلة في الإدهاش والوعي بقيمة التعبير الفني الضاج بالأسئلة. ولعل ما هو جلي في هذه الأضمومة هو طابعها المهادن المستحث لقيم الإنسان من حرية ورغبة في الحياة رغم أن “الماضي يستمر مادام يتحدث إلينا” بتعبير ستيورات هول، وظلاله ماثلة في أهم النصوص، يقول السارد في قصة “لم يكن ضحكا فحسب”: “لقد اعتدنا على كتمان الماضي الشخصي لسجين سياسي، فتلك المرحلة كانت غامضة بالنسبة إلينا ومحاطة بسياج رهيب من الصمت والكتمان والحذر، وكأننا بإزاء رجال بلا ماض، دفنوا أيام السابقة في آبار ونسوا آثارها، ولكن شيئا تغير في الآونة الأخيرة، وأصبح الكلام مباحا عن ماض لم يعد له ذيول. وتعزز ذلك بفضل الإصدارات المطبوعة التي قام به بعض السجناء أنفسهم أو ألفها عنهم كتاب، فصار الحديث عن تلك المرحلة ممكنا خارج إطار الخوف والتوجس” [ص:9/ 10].

       ثمة إشارات إلى بنية قرائية طباقية في هذا المقطع، والقاص هنا حين يطرح هذه المفارقات بين زمن سردي قائم الذات وآخر ظل خبيئا في كوة معتمة من الماضي فهو يسعى إلى امتصاص هذه الظلال ومحاورتها على أساس من الوعي بقيمة الماضي في بناء الحاضر واستشراف المستقبل، والمؤكد في ضوء هذه البنية الطباقية الإدواردية يكشف عن تناصات مع الذاكرة الفردية أولا، ثم مع الذاكرة الجماعية ثانيا، على اعتبار أن مثل هذه الموضوعات هم مشترك بين الأفراد والجماعات تماما، مثل بنية المجمتع العماني الذي ينتصر لقيم الحرية والإنسانية والحياة. إن قراءة هذه الأنفاس القصصية لا تخلو من منعرجات وعرة، فهي وإن بدت مهادنة، مستسلمة، لا تنفك في الآن نفسه على الاشتغال وفق فعل التحريض القرائي وعلى المباردة التأويلية بمفهوم أمبرتو إيكو، وهي أيضا فضاء خصب لتخطيب السرد، والتوجه به إلى مقامات للبوح الشفيف المحكوم بلغة رصينة وأفق متحرر كليا من أي عثرات بنائية.

      في قصة موسومة بـ”حريق الفئران”، ينطلق القاص محمود الرحبي في تأثيث أبنيته السردية من حادث الحريق الذي شب في بيت العمياء، يقول السارد:”أضيء الليل باحتراق عريشة المرأة العمياء”، وهذه التقنية في بناء الخطاب السردي، ليست جديدة، وإنما تم اللجوء إليها لتنويع مدار الكتابة أولا، ثم لممارسة نوع من الأسلبة بالمفهوم الباختيني خاصة، إن ما يجمع النصوص هو طابع السخرية، وكل نص هو امتداد في نصوص أخرى، وامتصاص في أفق بناء سردية لا تفصل بين النص والذاكرة. ثمة مستويات للتعبير تؤشر على مدى تمكن محمود الرحبي من فن الكتابة السردية، ولا مشاحة في القول، إن هذه الأضمومة ماضية في تجريب كل الطرق الممكنة للبوح، واستحلاب اللغة من أجل العبور إلى مرحلة التأويل والكشف عن مدى قدرة الكتابة على تفتيت العالم وإعادة بنائه من جديد.

     والقاص هنا، يبدو أكثر إدهاشا في تمرير محكياته وسردياته، فهو لا يكتفي بالكتابة فقط انطلاقا من تداعيات الذاكرة، وإنما يلجأ لكل تقنيات السرد، فهو دائما في حالة تماس والتصاق بعوالم الكتابة القصصية من منطلق التراكم الحاصل قصصيا وروائيا، كما أن هذه المجموعة بالخصوص تمت المزاوجة بين الكتابة والتشكيل، وهذه مرحلة متقدمة في الكتابة القصصية بحيث أن مفتتح كل قصة هو لوحة تشكيلية تتماهى وتتصادى في دلالاتها مع مكونات القصص، وفي ذلك إشارة على إمكانية التعايش بين الفنون كلها، وهذا ما يطلق عليه إبداعيا بـ”الأجناس المتخللة” فلم تعد هناك تخوم بين الأجناس اليوم، وكأننا نعيش في زمن “الكونشيرتو” الإبداعي حيث لا فوارق إلا بالإبداع فقط.

     تجدر الإشارة إلى أن محمود الرحبي قاص وروائي من عمان، صدر له في مجال القصة القصيرة: “اللون البني” دمشق سنة 1996، و”بركة النسيان” مسقط سنة 2006، و”لماذا لا تمزح معي؟” الأردن سنة 2007، “وأرجوحة فوق زمنين” مجلة دبي الثقافية سنة 2009، و”ساعة زوال” الأردن سنة 2012، و”مرعى النجوم” مجلة نزوى 2015. وفي مجال الرواية صدر له: “خريطة الحالم” بيروت 2010، و”درب المسحورة” بيروت 2010، و”فراشات الروحاني” الأردن سنة 2011.

مصدر الصورة: https://pbs.twimg.com/media/DLG2tD1XcAAyhe3.jpg

أدب الرابع عشر بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

رشيد الخديري