ذكريات موديانو النائمة

كتب بواسطة أحمد الزناتي

قبل حصوله على نوبل كان موديانو ينشر رواية كل سنتين تقريبًا، وبعد حصوله على نوبل ظلّ جمهور قُراء موديانو يتساءلون عن روايته الجديدة قرابة ثلاث سنوات حتى صدرت باللغة الفرنسية في سنة 2017، وصدرتْ ترجمتها الألمانية سنة 2018 تحت عنوان “ذكريات نائمة”.

الذاكرة هي دينامو أعمال موديانو ووقودها، حيث أشارت لجنة نوبل في حيثيات منحها الجائزة إلى فنّ الذاكرة المُبتكر عنده. والذاكرة عند موديانو وظيفتها إنقاذ رقبة التجارب المُبكرة من براثن النسيان كما هو الحال في رواياته السابقة “في مقهى الشباب الضائع” و”عُـشب الليل” و”من أقاصي النسيان” وغيرها.

في روايته الأخيرة يعزف موديانو على لحن السيرة الذاتية الأبدي، حيث تظلّ سيرته الذاتية حاضرة دومًا في أعماله، لكنها تتعرّض إلى ضربات ريشة المُخيلة الأدبية لتزيدها ثراءً وكثافة. هنا، في رواية “ذكريات نائمة”، يعيد الرجل استلهام تجاربه في منتصف الستينيات عندما كان في العشرين من عمره، حيث مثّلتْ فترة الطفولة والمراهقة الباريسية معينًا لا ينضب اغترف منه مادة معظم رواياته الثلاثين تقريبًا، وهو السبب الذي حدا ببعض النُقاد والقُراء أيضًا إلى اتهام موديانو بكتابة رواية واحدة فقط بأشكال متعددة، بينما ذهب آخرون إلى أن هذه المقاربة ليست ضعفًا فنيًا ولا انتقاصًا من موهبته أو مُخيلته، ولكن ربما هذا بالضبط ما يجعل الرواية عملًا جذابًا، بوصفها الـLeitmotiv، النغمة الأساسية أو محور مُجمل أعماله.

رواية ذكريات موديانو النائمة

تُفتتح الرواية بالفقرة التالية:

 (في أحد الأيام أثار انتباهي عنوان كتاب فوق أحد الأرصفة: “وقت اللقاءات”. بالنسبة إليَّ كان لديّ وقت لقاءات، في أحد الأزمنة الغابرة. في ذلك الوقت كنتُ أخشى الفراغ، ولم يكن ينتابني هذا الدُوار حين أكون وحيدًا، بل حين أكون في صحبة آخرين).

لا ينتمي موديانو إلى الكُتاب الذين يثقلون على قارئهم بأسلوب أدبي معقد أو يعمدون إلى استعارات غامضة أو توريات مبهمة. فتركيب الجُمل بسيط والألفاظ يسيرة على الفهم. ولكن، بعد عدة فقرات ما تلبث أن تتولّد حالة تيه عجيبة، وتغشى القارئ نشوة لا يعرف معها أين هو ولا مع مـنْ يتكلّم. تظهر الشخوص الروائية واضحة في البداية، ثمّ تستحيل أطيافًا يتعذر تمييزها بعد ذلك، ثمّ تتداخل المستويات الزمنية بشكل غير محسوس.

يكتشف القارئ أن كلام السارد لا يقف على أرضٍ يقينية ثابتة، لا بالنسبة إلى القارئ وحده، بل إلى السارد نفسه. السارد ليس على يقينٍ مما جرى في الماضي، لكن الغموض والإحساس بالتيه لا يمنع القارئ من مواصلة قراءة الرواية. يقول النقّاد دائمًا إن ثمّة سرًّا غامضًا يسكن أغلب روايات موديانو وهذا ما يمنحها جمالها.

يعاود السارد شرح سبب الفراغ المُشار إليه في أول فقرة من الرواية، الفراغ الذي كان يطوّقه عند مواجهة الآخرين فيقول إن السبب عائد إلى سنوات الطفولة والشباب، مثله في ذلك مثل أغلب أبطال روايات موديانو ذوي الشخصيات المهتزّة المترددة، فوالد السارد خارج المنزل أغلب الوقت، وهو متورط في أنشطة مشبوهة، ووالدته ممثلة مسرح لا تعود إلى منزلها إلا عند مطلع الفجر، وهذا الغياب شبه الدائم للوالديْن أشعره على الدوام بشعور فقدان وجودي وتيه في شوارع باريس وضواحيها.

 من بين ذكريات الماضي الكثيفة تبرز على السطح تفاصيل جديدة لم تكن في الحسبان، ومن هنا يصفها المؤلف بأنها “ذكريات نائمة”، أي أنها لبثت نائمة حتى أوقظها قلم الكاتب.

يحكي السارد أنه بدأ في التسكّع في شوارع باريس في سنّ مبكرة، في سنّ الحادية عشرة تقريبًا لاحساسه بغياب والديه الدائم، فكانت شوارع باريس هي الملجأ والملاذ وسط ظروفه الأسرية غير المستقرّة، مُشيرًا إلى السنوات الحاسمة في حياته، السنوات التي شكّلت كيانه الأدبي. فما بين سنّة السابعة عشرة والثانية والعشرين انزلق الكاتب إلى شيء لا يستطيع بوضوح رؤيته، وهي السنوات بين 1962 و1967، وهي سنوات اكتستْ بغموضٍ غريب.

في سن التاسعة عشرة تجمعه صداقة بامرأة اسمها “جينيفا دالامي” وهي امرأة غامضة قابلها في مكتبة متخصصة في بيع كتب اليوجا وعلوم الماورائيات، كما يلتقي أيضًا بـفتاة اسمها ماديلين بيرود. تحيط الألغاز بحياة كل من يلتقي بهم بدوافعهم. يدخل أشخاص آخرون إلى حياة السارد ثم يغادرونها. أغلب الفقرات مفعمة بخوفٍ واضح من التورّط في شيء ما. يهددُ الساردَ شخصٌ مجهول بشيءٍ قديم مما يجبره على استخدام العنف معه للهروب. وبعد انقضاء سنوات يعاود السارد البحث عن بعض هؤلاء الأشخاص والأماكن الذين لا تربطهم صلة.

بناء الرواية متـشظٍ، ضبابي كأغلب أعمال موديانو. يمنح الكاتبُ شخوصَه الروائية أسماءً، يحرّكها على مسرح الحدث بضع خطوات هنا وهناك ثم يُخفيها، فلا نعلم شيئًا عن تاريخها ولا سبب ظهورها ولا إلى أين تذهب. لنقرأ الفقرة التالية:

انقضى تقريبًا نصف قرن على ذلك، ولم يعد أحد في باريس يسكن الغرف المصنوعة من الخشب، كما كان الحال بعد انتهاء الحرب حتى عقد الستينيات. الأرجخ أن “جينيفا دالاميه” كانت آخر امرأة عرفتُها عاشت في حجرة مصنوعة من الخشب. يبدو لي أن العالم قد حبس أنفاسه للمرة الأخيرة في سنتي 1963 و1964 قبل أن ينهار مثلما انهارت المنازل والمباني القديمة في حي Faubourgs والأحياء المتاخمة التي كانت آيلة للسقوط“.

تتحرك المرأة المعشوقة “دالاميه” بخفة وغموض عبر صفحات الرواية. ولكن ما شكلها؟ ما وصفها؟ لا يصرّح موديانو بشيء. تتشكل أسماء الشخوص وتصير لحمًا ودمًا في بضعة أسطر فتومض مُتوِهجة وتظهر أجزاء من قصص حياتها ظهورًا شذريًا لكنها ما تلبث أن تختفي.

فعلى سبيل المثال يمنح موديانو اسمًا كاملًا لمعشوقة الماضي البعيد “”جينيفا دالامي” كما لو كانت شخصًا غريبًا، لا عشيقة ربطته بها علاقة حب، ويظلّ وجودها غامضًا عصيًا على الإمساك. تمرّ الأيام ويسجّل السارد نفسه في الجامعة للهروب من أداء الخدمة العسكرية في الجزائر، لكنه ينقطع عن الدراسة مُنخرطًا في أنشطة عابرة، فيشتغل في وظيفة “كاتب أغاني”.

في هذه الرواية، كما في أغلب كتب موديانو، حضورٌ قوي لباريس، لا يغادر موديانو شغفه القديم بمدينة “باريس”، حيث يواصل جولاته وتسكعاته عبر شوارع مدينة النور، محاولًا إضفاء شيء من التماسك إلى ذكرياته النائمة.  الجميل في اعتقادي أن موديانو- ربما دون قصدٍ منه- يلقننا درسًا سريعًا في الكتابة الروائية ربما دون قصدٍ منه، يعطينا لمحةً سريعة كيف يشرع هو نفسه في كتابة رواية. لنقرأ الفقرة التالية:

 يقول البطل لنفسه:

“كل ذكرى من هذه الذكريات مربع من مربعات لعبة “البازل”، كثير منها مفقود فيظلّ هكذا مبعثرًا، أنجح أحيانًا في ربط ثلاث قطع أو أربع، لكن الأمر لا يتجاوز ذلك؛ لذا أسجّل الشظايا وقِطَع البازل من دون ترتيب معين، أدوّن قائمة بالأسماء أو عبارات مختزلة، مدفوعًا بأمل أن تجذبَ القطعُ قطعًا أخرى مثل المغناطيس، وعلى أمل أن تنتهي  شظايا الجُمل هذه؛ لتشكّل في نهاية المطاف فقرات وفصولًا ترتبط ببعضها البعض”.

ويقول في فقرة أخرى:

(تومض الذكريات مثل إشارات تفضي إلى طُرق مخفية كخرائط المترو حينما يبحث المرء عن وصلة إلى مكانٍ آخر. كنتُ على يقين من أنني لن أحتاج سوى اسم شخصٍ تقاطعتْ طرقنا فيما مضى أكتبه على الشاشة فتومض نقطة حمراء تدلّ على المكان في باريس).

لكن هذه الجولات والتسكعات ليست اعتباطية، حيث تقوده إلى اكتشاف تقلّبات حياته الشخصية وتجدد ذكريات الوحدة والعزلة التي طوّقت حياته.

من أعماق الذاكرة تطفو على السطح ذكريات لقاءات يوم الأحد القديمة مع صديقه “مارتن هايوود”، وكذلك مع ابنة الصديق الروسي لأبيه، وذكريات مع نساء يصرّح بتجاربه مع بعضهنّ تارة، ويضرب سياجًا من الصمت عن آخريات تارة أخرى. وكأن فعل الكتابة كما فعل لإثبات ماضٍ جميل هو أيضًا وسيلة لمـحو ذكريات كريهة.

ملاحظة جديرة بالانتباه وهي أن موديانو لم يصنّف هذا العمل تحت جنس أدبي بعينه، إذ لم يُسمّ الكتاب “رواية”، وكأنه في هذه السنّ المتقدمة وبعد تجارب نصف قرن من الكتابة يفصح عن رغبة قوية في إزاحة الحدود بين الأجناس الأدبية وعن اندفاع محموم إلى الكتابة وحدها بأشدّ الأساليب مباشرةً. صحيح أن أغلب الأحداث تتكأ إلى سيرة موديانو الشخصية، لكن قُرب نهاية الرواية، وفي الصفحات الأخيرة من الرواية يظهر اسم السارد في ملف شرطي جنائي مُدون فيه اسم “جان دي”، وهو شخص متورّط في جريمة قتل، ولا نكشتف ذلك إلا في صفحة 75 من الرواية. هل يسقُط موديانو شيئًا على نفسه، عن ماضيه؟

لنقرأ الفقرة التالية: “لدي بعض المخاوف من الكتابة عن تلك الأيام، إنها الأيام الأخيرة والأشد التصاقًا بذاكرتي من أيام صباي المبكرة. هل هو شعور قديم بالذنب؟ شعورٌ طاردني دون أن أتمكّن من معرفة دوافعه؟ ذات يوم رادودني إحساس أن السبب راجع إلى الفترة السابقة على ولادتي وأن ذلك الشعور انتقل ليشعل فتيل لعبة نارية. إحساس شاحب للغاية مثله مثل عود ثقاب يشتعل لهيبه في الظلام لبضع ثوانٍ قبل أن يخبو”.

خوف السارد (ومن ورائه موديانو) عن الكتابة عن تلك الأيام وشعوره بالذنب القديم لا يحمل إلا معنى واحدًا، فتفاصيل الجريمة لا يُماط عنها اللثام شأنها في ذلك شأن أغلب روايات موديانو.

السؤال: هل من قبيل المصادفة أن يكون تاريخ ومحل ميلاد المدعو “جاي دي” المتورط في جريمة القتل هو نفسه تاريخ ومحل ميلاد باتريك موديانو؟

بيانات الرواية:

  • Publisher: Hanser, Carl GmbH + Co. (August 20, 2018)
  • Language: German
  • اسم الرواية: ذكريات نائمة – باتريك موديانو
  • الناشر: دار هانزير وكارل (أغسطس 2018)
أدب الرابع عشر بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد الزناتي