فلسفة ختم النبوّة في الفكر الإسلامي المعاصر: عبد الكريم سروش أنموذجًا

كتب بواسطة ياسين عاشور

يُعد عبد الكريم سروش أحد أعلام الفكر البارزين في إيران المعاصرة ومن رواد ما صار يُصطلح عليه ب”علم الكلام الجديد”[1]، وهو معروف بمساهمته في تنشيط الجدل الفكري في مجال المعرفة الدينية خاصة وبث الحيوية في قضايا متنوعة. ولسروش العديد من الآراء المحرجة للسلطة الدينية في المجال الشيعي سببت له مصادمات مع المؤسسة الدينية التقليدية وسدنتها.

طرح سروش فهمه لمسألة ختم النبوة في إطار نظرية “بسط التجربة النبوية”[2]، وقد رأينا -قبل أن نشرع في استجلاء نظرته  إلى قضية الختم- أن ننظر في طبيعة رؤيته للنبي والنبوة والتجربة الدينية.

يُؤسس سروش نظريته في بسط التجربة النبوية على مفاهيم وتصورات تُقارب الجانب البشري من النبوة وتُبرز دور التاريخ في صقل ملامح الإسلام، ومثلما قام في نظرية “القبض والبسط” بالتفريق الدقيق بين الدين والمعرفة الدينية، بجعل انقباض المعرفة الدينية وانبساطها رهين أحوال الناس وحدود معارفهم وسقوف تطلعاتهم، سار على النهج نفسه في مقاربة التجربة النبوية، وخلُص إلى أنّها تنقبض وتنبسط حسب أحوال النبي الوجدانية، ولم يكتف بذلك، بل جعل من انبساطها أمرًا لا يقف عند النبي محمد، بل يمتدّ كما سنرى إلى بقية البشر على مدار التاريخ.  

ينظر سروش إلى النبوة باعتبارها “نوعا من التجربة والكشف”[3] ويرى أن النبي حصّل النبوة من بعد جهد ومكابدة ودربة روحية استمرت لعقود حتّى نال شرف الكشف الإلهي، ف”النبي كان يمارس رياضة مدة أربعين سنة وفي سنة 38 سنة أو 40 سنة، على اختلاف الأقوال، تجلت للنبي حقيقة النبوة وصار منوّرًا كبوذا”[4].

وللنبي حسب سروش شخصيتان: الأولى حقيقية ترتبط بتجربة النبي الباطنية وأحواله الوجدانية، أمّا الثانية حقوقية وترتبط بتجربته الخارجية وولايته على الناس. إنّ شخصية النبي الحقيقية تمثّل النبوة العامة، لأنّها تخص النبي باعتباره عارفًا بالله وتنحصر في علاقته العموديّة بربّه، أمّا شخصيته الحقوقيّة فتمثّل النبوة الخاصة، أي نبوّة التشريع، وهي تخصّ مهمّته الأرضيّة باعتباره مُكلّفًا وحجّةً على الناس في أمور معاشهم ومعادهم. إنّ “نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) كان يعيش نمطين من التجربة والإسلام يمثّل حصيلة هذين النمطين كليهما”[5].

اعتمادًا على هذا التفريق بين شخصيتيْ النبي، يذهب سروش إلى أنّ الخاتمية “ترتبط بشخصية النبي الحقوقية لا بشخصيته الحقيقية”[6]، و”أهم عنصر مقوم لهذه الشخصية هو عنصر –الولاية- بمعنى أن شخصية هذا الإنسان تعكس الحق والحجة الإلهية وتمثل أمر الله، وهذا هو الشيء الذي انتهى وانقطع بشكل أبدي بالخاتمية”[7]. هكذا يُبيّن سروش أنّ ما يُمثّل جوهر النبوة الحقوقية هو مفهوم الولاية التشريعية، وأنّ نبي الإسلام يمثل آخر الأنبياء المشرّعين، وهو أيضًا آخر المكلّفين والمأمورين، أي حجّة الله الأخيرة، ذلك أنّ “المأمورية السماوية انتهت بالخاتمية”[8].

بالرغم من خلفيته الشيعية الإثني عشرية، يبدو سروش متحللا من الإلزامات العقدية التي تفرضها طائفته، فقراءته لا تلتزم بجهاز عقدي جاهز ولا بمذهب مرسوم سلفًا، والملاحظ عندنا أنه منشدٌّ إلى التراث العرفاني والفلسفي، يمتح منه ما يوائم آراءه، فتراه يتفيأ ظلال جلال الدين الرومي ومحي الدين بن عربي وعبد القدوس الجنجوهي وغيرهم من متصوفة الإسلام وفلاسفته، فهو يغرف من مقولاتهم حتى يبيّن طبيعة التجربة النبويّة بوصفها تجربة عرفانيّة في صميمها، وحتى يُبرز بقاء تلك التجربة حيّة في أنفس العارفين بالله حتى بعد موت النبي، وحتّى يؤكّد قدرة الإنسان على بلوغ المطلق وشهوده حتى بعد انتهاء النبوة وختمها. إنّ “أصل التجربة والمكاشفة باق في حركة الشعور الداخلي للأفراد البشر على امتداد التاريخ”[9].

تعرّض سروش في سياق تناوله مسألة ختم النبوة إلى كلّ من محمد إقبال (1877-1938) والشيخ مرتضى المطهري (1919-1979) تقديمًا ونقدًا، فهو يبدو معجبًا بنظرية إقبال ومتأثّرًا بها بشكل واضح، ونسب إليه فضل السبق في بحث المسألة “على المستوى الفلسفي والتاريخي”[10] وأشار إلى أنه “طرح الفكرة في إطار الفكر البرغسوني”[11] وإلى أنّه لم يتحوّط إطلاقًا بخصوص التقسيم الذي وضعه لمرحلتيْ الغريزة والعقل[12].

 ولعلّ نقده للشيخ المطهري يندرج ضمن المساجلات التي دارت في المجال الإيراني بخصوص نظرية الختم الإقباليّة، تلك المساجلات التي قام الباحث زكي الميلاد برصدها وتقديمها جامعًا مختلف وجهات النظر والتعليقات التي أثيرت بسبب أثر إقبال الواضح في المثقفين الإيرانيين وعلى رأسهم علي شريعتي(1933-1977)  الذي تبنى آراء إقبال بحماس كبير[13].

لقد رصد سروش تحوّلًا في موقف الشيخ المطهري من نظرية إقبال، من التقريظ والمدح إلى التشنيع والذم، ويرجع سروش ذلك إلى أثر نظرية إقبال في فكر علي شريعتي، فقد ظهر تأثّره في محاضرات ألقاها أثارت حفيظة الشيخ المطهري بسبب محتواها الجريء والثوري، لقد خلُص المطهري إلى أن نظرية إقبال في ختم النبوة تؤدي حتمًا إلى ختم الدّين[14]، لو صحّت فلسفة إقبال “فلا تنتفي الحاجة إلى وحي جديد، ورسول جديد فحسب، بل تنتفي الحاجة أصلًا إلى إرشاد الوحي، لأن هداية العقل التجريبي تقوم مقام هداية الوحي. وإذا صحت هذه الفلسفة فهي فلسفة ختم الدّين وليس ختم النبوة، وعلى هذا فإن مهمة الوحي الإسلامي تكون الإعلان عن نهاية مرحلة الدين وبداية مرحلة العقل والعلم فقط”[15].

لقد قدّم سروش ملاحظات ورؤى طريفة بخصوص ختم النبوة، فهو يؤكّد  أنّ “مقولة الخاتمية تعتبر دعوى من داخل الدّين لا من خارجه”[16]، ذلك أنّ كلّ محاولات عقلنة الختم ودعمها بحجج عقلية واستقرائية من خارج الدين لا تعدو أن تكون سوى محاولات لتبرير الواقعة بعد وقوعها، يرى سروش أنه لو لم يقل النبي أن خاتم الأنبياء، لن يتوصل أحدٌ إلى هذه النتيجة بحجج خارج النصوص الدينيّة، وقد وجه نقده لإقبال ومطهري بخصوص هذه المسألة قائلًا “إن كل واحد منهما يعتقد بالخاتمية كأصل ثابت ومسلّم، ثم يقرر أن البشرية قد وصلت إلى حالة تستوجب الخاتمية وإلا فالنبوات مستمرة”[17].

ينقد سروش النظرة التي تختزل الإسلام في الفقه، والتي يسعى أصحابها إلى التدليل على خاتمية النبي عبر إثبات كمال الفقه الإسلامي وصلاحية الأحكام لكل زمان ومكان، يقول: “ومن العجيب أن بعض علمائنا في مقام إثبات وبيان خاتمية النبوة وكمال وبقاء الدين يبذلون قصارى جهدهم لبيان خلود الفقه في حركة الحياة والواقع البشري”[18]. ويواصل قائلا: “والعجيب من فيلسوف مثل المطهري يستغرق في عالم الفقه ويتأثر به إلى درجة أنه في مقام تبيين فلسفة الخاتمية يقدّم الوجه الفقهي للدين على بقية الوجوه ويرى الحل لمسألى الخاتمية في أجواء الفقه وحل المسائل الفقهية”[19]، هكذا يرفض سروش التعليلات الفقهية للخاتمية، فهو يريد تخليص الإسلام من النزعة الفقهية التي تطلب من الدين أن يلبي جميع متطلباتها وحاجاتها من أبسط أمور الحياة إلى أعقدها، إن هذه النزعة يسمها ب”القراءة الشمولية للدين” أو “الدين في الحد الأعلى”، وهو ما يطلبه تديّن العوام، لكن سروش ينتصر لتديّن الخواص وفرادة التجارب العرفانية وممارسة الفهم والتأويل بصفة فردية حرة ومسؤولة.  

يقرّ سروش بتحرّر الإنسان من حجيّة الإنسان إلى الأبد بعد ختم النبوة، فليس لأحد من سلطان على أحدٍ، ولا حجيّة لإنسان على آخر، ولا حكم بين الناس غير سلطة العقل والحجة والبرهان، يكرّر سروش هذه الفكرة كثيرًا في ثنايا خطابه، ونحسب أنُّ يخاطب الضمير الشيعي، فهو يطعن في الإمامة المعصومة، ويسحب الشرعيّة من الولي الفقيه نائب الإمام الغائب، بل هو يسير في الخط الذي رسمه إقبال ويرفض الإقرار بعقيدة المهدي المنتظر ولا يقبل القول بكفر من لا يؤمن بأئمة أهل البيت، يقول”نحن في الإسلام لا نعتقد بوجود شخص آخر غير النبي يستلزم إنكار دعواه أو شخصيته الحقوقية الكفر والمروق من الدين”[20].

تُعتبر واقعة ختم النبوة في نظر سروش فتحًا لباب التأويل والتجربة الفردية في التعامل مع التجربة النبوية، فالنص القرآني معينٌ لا ينضب، ليس لأحد أن يدعي كمال فهمه أو الإحاطة بكل دلالاته ومعانيه، “لقد جاء خاتم النبيين، ولكن خاتم الشارحين لم يأت بعدُ”[21]. هكذا يقرّر سروش انفتاح أفق التأويل إلى الأبد وتجدّده، ويُؤكّد مسؤوليّة الإنسان التامة ويرمي إلى أن كل فرد يمكن أن يصبح نبي نفسه بعد ختم النبوة. 

لقد انطلق  سروش من نظرية إقبال وتحرّك في أفقها وناقشها في إطار نظرية بسط التجربة النبوية، مركّزًا على أهمية الخاتمية في تحرير الإنسان من أي حجيّة قد يدعيها رجال الدين، مُبينًا أنْ لا حجية لأي إنسان بعد النبي محمد، ولا يخفى على الباحث أغراض سروش الرامية إلى زعزعة حجية رجال الدين  وتخليص الفرد الشيعي من سلطة الولي الفقيه.


[1]  انظر كتاب عبد الجبار الرفاعي، علم الكلام الجديد وفلسفة الدين، دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، 2002

[2]  عبد الكريم سروش، بسط التجربة النبوية، ترجمة: أحمد القبانجي، مؤسسة الانتشار العربي، ط1، بيروت، 2006

[3]  م.نفسه، ص39

[4]  م.نفسه، ص222

[5] م.نفسه، ص44

[6]  م.نفسه، ص272

[7]  م.نفسه، ص272

[8]  م.نفسه، ص20

[9]  م.نفسه، ص20

[10] م.نفسه، ص254

[11]  م.نفسه، ص255

[12]  م.نفسه، ص255

[13]  انظر كتابه، الإسلام والعقلانية.. ضد الجمود وضد الاستلاب، مركز نبأ الثقافي، ص101 وما بعدها.

[14]  يعني “ختم الدين” في نظر المطهري الاستغناء عن الدين كليًا وانتفاء الحاجة إلى تعاليم النبي ووصاياه وتشريعاته كلها.

[15]  مرتضى المطهري، نقد الفكر الديني عند الشيخ مرتضى مطهري، جمع وتصنيف مهدي جهرمي ومحمّد باقري، ص17

[16]  سروش، م.نفسه، ص293

[17]  سروش، نفسه، ص265

[18]  سروش،نفسه،ص297

[19]  سروش،نفسه،ص309

[20]  سروش،نفسه،ص291

[21]  سروش،م.نفسه،ص295

مصدر الصورة: https://2u.pw/vHc5r

الرابع عشر بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

ياسين عاشور