رونيه ديكارت وأُسس فلسفته العقلانيّة (5)

كتب بواسطة محمد كزو

صورة بعدسة الكاتب لجانب من حديقة منزل “رونيه ديكارت” مباشرة بعد الدّخول من الباب الرّئيسي، للمنزل الذي وُلد فيه غرب فرنسا

الأساس الخامس: فكرة الطّبيعة

        في هذا المحور الأخير نتساءل بما يلي: ما الطّبيعة؟ ما هي مكوّناتها؟ كيف صَنّف الإنسان فيها؟ هل الذّات أوّلاً أم الموضوع يسبقها؟ كيف عالج ديكارت قضية دوران الأرض؟ وبأيّة طريقة؟

       تنقسم الطّبيعة عند ديكارت إلى أجزاء رئيسيّة مهمّة هي: الطّبيعة الإنسانيّة، الحركة، المادّة، والفَلك. وخصّها بالدّراسة في كتاب واحد بقوّة وعمق كان “العالَم أو كتاب النّور”، الذي لم يُنشر إلّا بعد وفاته، رغم أنّه كُتب قبلها بعشرين سنة تقريباً.

         فمِن الأسباب التي دفعت بديكارت لخوض غمار العلوم بهذه البراعة، أنّه لاحظ هيمنة الأرسطيّة على مناهج التّدريس –آنذاك-، ولم يستسغ أفكارها المدرسيَّة الجاهزة، فحاول اكتشاف طرق ومبادئ، تستجيب لماهية العقل وإدراكه، سيما أنّه أوشك على طباعة كتابه “العالَم”، السّابق ذكره، مُعلنًا فيه دوران الأرض حول الشّمس الثّابتة، لو لم يصله خبر محاكمة جاليليو جرّاء الفكرة نفسها، فيقول موقفه العِلميّ -تأيـيداً لجاليليو-، وبشكل عنيف في الوقت نفسه، ضدّ أبيقور حول حجم الشّمس فقط، فما بالك بثباتها: «حتّى أنّه يُقال أنّ أبيقور بلغت به الجرأة في أقواله، أنْ صرَّح خلافاً لجميع استدلالات علماء الفَلك، بأنّ الشّمس ليست أكبر حجماً ممّا تبدو لنا»(1).

         فاعتبر الطّبيعة الإنسانيّة، مكوّنا من مكونات الامتداد، يسري عليها ما يسري على مكوّنات العالَم، أي أنّ الجسم يتأثّر بالطّبيعة التي يتفاعل معها سلباً أو إيجاباً، حسب الظّرفية المكانيّة والزّمانية التي يكون فيها، فيقول: «وليس من شيء تعلّمني هذه الطّبيعة إيّاه على نحو أصرح وأقوى من أنّ لي بدناً يعتريه السّقم حين أحسّ ألماً، ويحتاج إلى الطّعام أو الشّراب حين أحسّ إحساس الجوع أو العطش إلخ. وإذن فينبغي ألّا أشكّ أبداً في أنّ في هذه المعلومات شيئًا من الحقّ»(2)، ولكن ديكارت في قوله هذا سيكون أمام تحدّ جديد هو: مِن أين يستمدّ الجسم هذه الأوامر أو الأحاسيس؟ أليست نابعة منه؟ أو بالأحرى أليس هو مَن يرسلها؟ كيف سيكون الجسم في معزل عن النّفس حيناً؟ ومتّحِداً معها حيناً آخر؟ هنا سيجد ديكارت مخرجاً لمأزقه وحلًّا مبسّطاً ناقَشَه في مواضع عدّة في كتاباته، وهو مثال السّفينة [أي الجسم]، وربّانها [أي العقل]، فنلاحظه يقول: «وتعلّمني الطّبيعة أيضاً، بواسطة أحاسيس الألم والجوع والعطش إلخ، أنّي لست مقيماً في بدني كالنّوتيّ في سفينته، بل فوق هذا متّحد به اتّحاداً وممتزج به امتزاجاً يجعل نفسي وبدني شيئًا واحداً»(3)، فهو فرّق ولكن لم يجد بُدًّا من أن يجمع بشكل مِن الأشكال ولو مرحليًّا.

         والطّبيعة الإنسانيّة أيضاً لا تخلو من أخطاء وأفكار ملقاة، لذا كان يصرّ في منهجه على اعتماد العقل، أوّلاً وأخيراً، ولا شيء غيره، فهو الفيصل والحَكم، وهو الضّوء الذي نهتدي به في الظّلمات، وهو الذي يقينا المكر والخداع، ولنتركه يعلّل فكرته: «وإنّما تعرض (…) صعوبة تتعلّق بالأشياء التي ترشدني الطّبيعة إلى وجوب اتّباعها أو تجنّبها. وتتعلّق أيضاً بالمشاعر الدّاخليّة التي وضعتْها فيّ، لأنّه يبدو لي أنّي قد لاحظت فيها خطأ في بعض الأحيان، وأن طبيعتي قد خدعتني مباشرة: مثال ذلك أنّ الطّعم اللّذيذ الذي يكون لقطعة من اللّحم خلط بها شيء من السّمّ قد يدعوني إلى تناول هذا السّمّ فأكون مخدوعاً. صحيح أنّ الطّبيعة هنا يمكن أن يلتمس لها العذر، لأنّها إنّما تسوقني إلى اشتهاء اللّحم ذي الطّعم اللّذيذ لا إلى اشتهاء السّمّ الذي هو مجهول لديها، بحيث أنّي لا أستطيع أن أستخلص من هذا شيئًا سوى أنّ طبيعتي لا تعرف جميع الأشياء معرفة تامة شاملة. ولا محلّ للعجب من هذا، إذ أن الإنسان لمّا كان ذا طبيعة متناهيّة، فلا يستطيع أن يظفر إلّا بمعرفة محدودة الكمال»(4).

         في سياق متّصل؛ فلمعرفة الشّكل والامتداد يعني: الحركة والمادّة، نسلك طريقين؛ الأوّل نقع فيه بالخطأ، لأنّنا نتوهّم أنّ الجواب هو هو دون تأكّد من الأفكار الموجودة في ذهننا، والثّاني نتجنّب الخطأ، لأنّنا نتريّث في الحُكم عليه كوننا نجهلُه؛ إذ لا ينفي ديكارت الحركة والمادّة، بل يناقش الفهم الأرسطيّ لهما، وبالأحرى يناقش العلماء والمفكّرين على الرّكون لهذا الفهم، وعدم تحليله بالمنهج العلميّ بدل المنطق القديم، وكأنّه يخاطبهم بتعجّب وحيرة، ويحاول أن يوقد فيهم شعلة المعرفة من جديد. ففي كتابه “العالَم”، وبالضّبط الفصل الثّالث بعنوان: في الصّلابة والسّيولة، سيسهب شرحاً وأمثلة في مفهومي “الحركة” و”المادّة”، وحتّى في مفهوم “العطالة” الذي أسلفنا ذكره، ومعناه أنّ المادّة السّاكنة تبقى كذلك ما لم تحرّكها مادّة أخرى، والمادّة المتحرّكة تبقى كذلك ما لم توقفها أخرى، فيقول في هذا كلّه بدقّة كبيرة: «إنّ الفرق الكائن بين الأجسام الصّلبة والأجسام السّائلة هو أوّل ما أرغب أن تلاحظوه. وعليكم من أجل ذلك أن تتصوّروا أنّ كلّ جسم يمكن أن يقسّم إلى أجزاء صغيرة للغاية. ولا أريد قطّ أن أحدّد ما إذا كان عددها متناهياً أو لا متناهياً. لكنّه من الثّابت على الأقلّ، أنّه غير محدود بالنّسبة لنا، وأنّنا نستطيع أن نفترض وجود عدّة ملايين في أصغر حبّة رمل يمكننا إدراكها بعيوننا. ولاحظوا أنّه إذا تلامس اثنان من هذه الأجزاء، دون أن يكُونَا في حركة تبعدهما، الواحد عن الآخر، فإنّنا نحتاج لقوّة معيّنة، أيًّا كان مبلغ ضآلتها، لكي نفصلهما: لأنّهما ما أن يوضعا مرّة هكذا حتّى لا يعودا البتّة تلقائيًّا إلى تغيير هذا الوضع. ولاحظوا كذلك أنّه يلزمنا، لفصل جزأين من الأجزاء، ضعفا القوّة اللّازمة لفصل جزء واحد منها؛ وألف ضعف لفصل ألف جزء. بحيث لو لزم فصل عدّة ملايين في الوقت نفسه، كما هو الحال ربّما عندما نقطع شعرة واحدة، لم يكن مستغرباً أن نحتاج إلى قوّة لا يستهان بها. وعلى العكس، إذا تلامس اثنان أو أكثر من هذه الأجزاء الصّغيرة مجرّد تلامس عابر، أثناء تحرّك الواحد في اتّجاه، والآخر في اتّجاه ثان: فمن الأكيد أنّه سيلزمنا من القوّة لفصلهما أقلّ مما لو كانا كلّية دون حركة، وحتّى أنّه لن يلزمنا البتّة أيّة قوّة إذا كانت الحركة، التي بواسطتها يمكنهما الانفصال من تلقاء ذاتهما، مساوية للقوّة التي بواسطتها نريد فصلهما أو أكبر منها»(5).

         أمّا فيما يخصّ الفَلك، وهو من أهمّ المواضع التي تميَّز فيها ديكارت كذلك، فأفرد له أكثر من ثلثي كتابه “العالَم أو كتاب النّور”، وفيه دحض أفكار أرسطو ونظام بطليموس أيضاً، بحيث دافع عن نظرية كوبيرنيكوس التي نادت بدوران الأرض، ووضَع الإنسانيّة في أزمة إدراك حسيّ رهيب، وأيضاً دافع عن نظرية جاليليو الذي عاصره ديكارت، فلمّا علِم بإدانته –وهو الإيطاليّ العالِم المشهور- من قِبل الكنيسة أرجأ طبع الكتاب إلى وقت لاحق، لكن لم يره منشوراً في حياته للأسف. يقول في رسالة إلى صديقه الأب “مرسن”، متم نونبر 1633م، حول موضوع الإدانة هذا، وخوفه المصير نفسه: «أرسلت من يتحرّى لي عمّا إذا كان كتاب [نظام العالَم] لجاليليو موجودا بـ: [ليد] و[أمستردام]، لمّا سمعتُ من أنّه قد طُبع في إيطاليا في السّنة المنصرمة، جاءني الخبر بأنّ الكتاب طبع فعلًا، ولكن جميع النّسخ التي طبعت منه أحرقت في ذات الوقت [بروما] فيما حكم على جاليليو ببعض الغرامة (…)، إنّي لا أتصوّر كيف أمكن أن يحال جاليليو، وهو الإيطاليّ، بل المرغوب من طرف البابا على محكمة جنائيّة، لا لشيء سوى أنّه أراد، دون ريب أن يثبت حركة الأرض (…)، أرجوكم أن تخبروني أيضاً عمّا تعرفونه عن قضية جاليليو»(6).

         ولِيخرج ديكارت منتصراً من كلّ شبهة، بدأ في حديثه عن الفَلك في كتابه “العالَم” من الفصل الخامس حتّى الفصل الخامس عشر والأخير -أي حوالي ثلثيْ الكتاب- عن افتراض عالَم جديد يتكوّن من مادّة جديدة تحكمها قوانين جديدة أيضاً، وافترض شمساً ونجوماً بمعايير جديدة، وتحدّث عن حركة ودوران الكواكب والمذنبات والقمر، والشّمس ثابتة، وزاد في شرحه وخياله وتحدّث عن الجاذبيّة، وكيف يحدث المدّ والجزر في هذا العالَم الجديد، وما هي خصائص النّور فيه، ليختم الحديث أنّ سماء هذا العالَم الجديد يجب أن تكون بالنّسبة لسكّانه مشابهة تماماً لسمائنا.

         فاختلق قصّة غاية في الرّوعة، وناقش فيها كلّ ما يخالف أرسطو بالنّسبة للفَلك، وكأنّها حكاية أو أسطورة، ولكنّها في الحقيقة نسف كامل للفَلك القديم، وتأييد تامّ لنظريّة كوبيرنيكوس حول دوران الأرض وثبات الشّمس، يقول ديكارت في بداية هذا الخيال الواسع المبتكر، ما يلي: «اسمحوا إذن لفكركم أن يخرج لبعض الوقت من هذا العالَم لرؤية عالَم آخر جديد كلياًّ سأوجده في الأمكنة الخياليّة (…) لنلج فيه فقط إلى درجة نفقد معها رؤية كلّ المخلوقات التي صنعها الله (…)؛ وبعد أن نكون قد توقّفنا هناك في مكان محدّد، لنفترض أنّ الله يخلق من جديد حولنا من المادّة في أيّة جهة تستطيع مخيّلتنا أن تمتدّ، على نحو أنّه لا يعود فيها أيّ مكان خال. ورغم أنّ البحر ليس لا متناه (…) علينا ألّا نسمح لمخيّلتنا بالتّمدّد قدر ما تستطيع؛ بل أن نبقيها عمداً في مكان محدّد لا يكون أكبر، مثلًا، من المسافة الكائنة بين الأرض ونجوم الفَلك الرّئيسة»(7).

         ويستمرّ ديكارت في هذا النّسق من التّخيّل والافتراض بعبارات مثل: “نستطيع أن نفترض”، “نسمح لمخيّلتنا”، “وبما أنّ لنا الحرّية في اختراع هذه المادّة”، “إذا أردتم”، “تمهّلوا قليلًا في تأمّل هذا الفراغ”، “أن أختلق عالَماً على هواي”، “فقولوا لي بربّكم”، “لكي تفهموا هذا بصورة أفضل، تذكّروا أنّنا افترضنا”، “ولا تظنّوا أنّني بذلك أريد أن أناقضهم”، “فسنضيف إذا شئتم”…، وهكذا حتّى ينتهي من طرح أفكاره الجديدة كلّها بشكل مبدع خلّاق، وباحترام وأدب كبير في المناقشة والتّحليل. بحيث استغل هذه الطّريقة ليقول ما شاء دون الصّدام مع رجال الدّين، وحتّى المعارضين له.

خاتمة

         ليختم ديكارت مبادئه الفلسفيّة العِلميّة عامّة، بالحديث عن الله الضّامن للحقيقة والمعرفة، ويؤكّد أنّ تنزيله تعالى يقين يعصمنا مِن الخطأ، أمّا سوى ذلك، فيجب اعتقاد ما أدركناه فقط بعقولنا إدراكاً صحيحاً، لذا عبّر عن سعادته في تطبيق منهجه العقليّ بقوله: «أكثر ما أرضاني من ذلك المنهج، هو ثقتي أنّني بواسطته استعمل العقل في كلّ أمر، إن لم يكن على الوجه الأكمل، فعلى خير ما في استطاعتي على الأقلّ، ذلك فوق أنّني كنت أشعر في تطبيق ذلك المنهج أنّ عقلي كان يتعوّد شيئًا فشيئًا على تصوّر ما يتصوّره على وجه أشدّ وضوحاً وأقوى تميّزاً»(8).

         وهي محاولة عظيمة منه لوضع نظام فكريّ كامل، سهْل التّناول لتتبنّاه المدارس، حول ماهية المادّة والعقل، وقدرة الله في خلق الكون، وتسيير حركته.

الإحالات والهوامش

(1) مبادئ الفلسفة، رونيه ديكارت، ترجمة وتقديم وتعليق عثمان أمين، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، سلسلة النصوص الفلسفية (6)، ص:36.

(2) تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، رونيه ديكارت، ترجمة وتقديم وتعليق عثمان أمين، تصدير مصطفى لبيب، المركز القومي للترجمة، العدد 1297، ط1/2009م، ص: 254.

(3) المرجع نفسه، والصفحة.

(4) المرجع نفسه، ص: 259.

(5) العالم أو كتاب النور، رونيه ديكارت، ترجمة وتعليق إميل خوري، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1/1999م، ص: 58-59.

(6) الرسالة ترجمة الحسين سبحان، مجلة الجدل، خريف 1985م، مؤسسة بنشرة الدار البيضاء، ص: 54-55.

(7) العالم أو كتاب النور، مرجع سابق، ص: 75-76.

(8) مقال عن المنهج، رونيه ديكارت، ترجمة محمد محمود الخضيري، مراجعة وتقديم محمد مصطفى حلمي، دار الكتاب العربي القاهرة، ط2/1968م، ص: 135.

المصادر والمراجع:

  • مبادئ الفلسفة، رونيه ديكارت، ترجمة وتقديم وتعليق عثمان أمين، دار الثقافة للنشر والتوزيع، القاهرة، سلسلة النصوص الفلسفية (6).
  • مقال عن المنهج، رونيه ديكارت، ترجمة محمد محمود الخضيري، مراجعة وتقديم محمد مصطفى حلمي، دار الكتاب العربي القاهرة، ط2/1968م.
  • تأملات ميتافيزيقية في الفلسفة الأولى، رونيه ديكارت، ترجمة وتقديم وتعليق عثمان أمين، تصدير مصطفى لبيب، المركز القومي للترجمة، العدد 1297، ط1/2009م.
  • حديث الطريقة، رونيه ديكارت، ترجمة عمر الشارني، دار المعرفة للنشر 1987م، تونس.
  • العالم أو كتاب النور، رونيه ديكارت، ترجمة وتعليق إميل خوري، دار المنتخب العربي للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، ط1/1999م.
  • مجلة الجدل، خريف 1985م، مؤسسة بنشرة الدار البيضاء.
أدب الرابع عشر بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

محمد كزو