خطورة التطرف الأخلاقي

كتب بواسطة مصطفى شلش

في عام 1964، قال المرشح الجمهوري للرئاسة باري غولدووتر: “أود أن أذكركم بأن التطرف في الدفاع عن الحرية ليس رذيلة. واسمحوا لي أن أذكركم أيضًا بأن الاعتدال في السعي لتحقيق العدالة ليس فضيلة “.

للآسف اعتبر بعض الإصلاحيين صفة “متُطرف” كعلامة على الشجاعة. ومِن الإنصاف الإشارة هنا أن بعض الآراء المعقولة توصف بأنها “متطرفة” لكونها خارجة عن الرأي السائد. ومع ذلك، يعتقد الفيلسوف سبنسر كيس، في مقالة له معنونة بـ ” What is Moral Extremism and Why Should We Care About It ?” مُعتقدًا أن “التطرف الأخلاقي” في الحقيقة أمر سئ للغاية.

يُعرف سبنسر “التطرف الأخلاقي” بوصفه “رذيلة” أو “نقيصة”، فالشخص المتطرف يكون في حالة تقريبًا تعميه عن إدراك الاعتبارات الأخلاقية الآخرى، ويصبح غير راغب في تصنيف مُعتقداته كما ينبغي. إن التطرف الأخلاقي  – كما يُمارسه البشر غير المعصومين – قد يتسبب في تفويت الفروق الدقيقة التي تجعلنا نحكم بدقة، أو شيطنة الأشخاص الذين يختلفون معنا.

كونك متطرفًا أخلاقيًا لا يتلخص في وجود آراء أخلاقية خاطئة. وفقًا لهذا المنطق، يمكن لمتطرف حقيقي في مجال حقوق الحيوان – على عكس الشخص الذي أطلق عليه ذلك لمجرد أنه قلق بشأن الرفق بالحيوان – أن يدافع عن قضية عادلة. ومع ذلك، إذا علمنا أنه متطرف، فسيكون لدينا سبب وجيه للشك في حكمه في مجالات معينة (على سبيل المثال، عند تقييم مقال يخلص إلى أن النظام النباتي الصارم يشكل مخاطر صحية على جزء معين من السكان).

يشير سبنسر للقارئ بوضوح أن أفضل سبب للاهتمام بالتطرف الأخلاقي ليس الأمل أن تُحديد حالاته يمكن أن يساعدنا في اكتشاف المواقف الأخلاقية الحقيقية أو تجنب المواقف الخاطئة، بل السبب الأفضل هو أن التطرف مثير للاهتمام من الناحية الفلسفية في حد ذاته؛ علاوة على ذلك، يمكن أن ينبهنا فهم التطرف إلى جانب خبيث في علم النفس الأخلاقي وهو:  إن التفاني المُفرط للأخلاق أمر خطير من الناحية الأخلاقية. هذه النقطة الأخيرة لها تداعيات سياسية مقلقة.

يضرب سبنسر مثال على التطرف الأخلاقي هو تجاوزات حركة الإعتدال المناهضة للكحول في الولايات المتحدة. في أوائل القرن العشرين، اكتسبت هذه الحملة سمعة سيئة بسبب مُهاجمة البارات (محلات الخمور)، مع رفع ثلاث شعارات تحمل:  الإيمان” و “الأمل” و “الإحسان”. فعندما تمت كتابة حظر الكحول في دستور الولايات المتحدة من خلال التعديل الثامن عشر (1920–33)، طلبت حكومة الولايات المتحدة إضافة “المواد السامة” مثل الفورمالديهايد واليود وحمض الكبريتيك إلى الكحول المنتج للأغراض الصناعية من أجل ردع الناس عن شربه أو بيعه للآخرين للاستهلاك. أدى ذلك إلى مقتل الآلاف. ظل بعض مؤيدي الحظر غير متأثرين. وبعد تلقي نبأ وفاة العديد من سكان نيويورك ومرض المئات بسبب الكحول المسموم، قال واين ويلر، الزعيم الفعلي للرابطة المناهضة للكحول: “الحكومة ليست ملزمة بتزويد الناس بالكحول الذي يمكن شربه، عندما يحظره الدستور. الشخص الذي يشرب هذا الكحول هو ينتحر مُتعمدًا”. تقول افتتاحية عام 1927 في شيكاغو تريبيون عن حوادث التسمم: “في العادة ، لن تشارك أي حكومة أمريكية في مثل هذه الأعمال. لكن فقط جراء التعصب البذئ للحظر يمكن اعتبار أي وسيلة، مهما كانت بربرية، مُبررة “.

من المهم أن تضع في اعتبارك أن معارضي استهلاك الكحول لم يكونوا مجرد كارهي فرح. توفي الزوج الأول لـ إميليا مور  (ناشطة أمريكية وعضوًا في حركة الاعتدال التي كانت تعارض الكحول قبل ظهور الحظر) لأسباب تتعلق بالكحول في سن 29 سنة. ومن خلال مشاركتها مع حركة الاعتدال، تواصلت إميليا مع نساء أصبح أزواجهن مدمنين على الكحول، وجراء هذا أصبحوا شخصيات كريهة وعنيفة، وذلط في وقت كانت الدولة تقدم فيه حماية “أقل بكثير” للنساء والأطفال. وارتبطت البارات (محلات الخمور) بالمقامرة، والتي يمكن أن تكون مدمرة من الناحية المالية، والجنس خارج نطاق الزواج، حيث يمكن للرجال أن ينشروا أمراضًا مستعصية بين زوجاتهم. كانت إميليا مدفوعة باهتمام صادق بشأن هذه المشاكل الاجتماعية. كما أنه من غير المحتمل أن يكون واين ويلر يريد أن يموت أي شخص بسبب شرب الكحول المسموم، بل أراد أن تنتهي المعاناة التي تسببها الكحول.

إن محاولة سبنسر لفهم التطرف الأخلاقي يمكن أن تساعدنا على فهم الفظائع الشمولية في ضوء فكر جديد. حيث تؤكد إحدى الروايات السائدة عن الفظائع النازية، والتي يدعمها كتاب ” أيخمان في القدس: تفاهة الشر” للفيلسوفة حنة أرندت، إن الشر الذي يبدو غير إنساني يمكن وراء الدوافع المُبتذلة والتحيزات العادية. هذه الرواية، مع ذلك، غير مكتملة. وسيكون من الخطأ التغاضي عن الدور التكميلي للأيديولوجيا والتطرف في تحقيق هذه النتائج. فالمواطنون العاديون لا يصبحون تروسًا في الآلات حتى يقوم أشخاص مثل النازيين الأوائل، الذين كانوا مؤمنين حقيقيين بإيديولوجياتهم، بإنشاء تلك الآلات في المقام الأول. على الرغم من أن العديد من الأشرار يبدون “مبتذلين/تافهين” – وصف أرندت الشهير لمجرم الحرب النازي أدولف أيخمان – فإن البعض الآخر مغرور ومليء بالحماسة. الخطاب الذي يستخدمه هؤلاء الأشخاص غالبًا ما يكون أخلاقيًا بشكل متعصب. يتضمن هذا بالتأكيد بعض التبرير للدوافع الخفية القبيحة، لكن يعتقد سبنسر أن الكثير منها يعكس بصدق التمسك بمُثُل مُضللة للغاية، رغم أنها لا تزال أخلاقية بشكل واضح.

يختم سبنسر مقالته بمقارنة بين اثنين من المعارضين الأمريكيين للعبودية: جون براون وجون كوينسي آدامز. كان براون، الذي اشتهر بالغارة على هاربرز فيري بهدف إشعال تمرد كبير لتحرير العبيد، ومن خلال هذه العملية توقع جون براون أن يثور العبيد بالمناطق القريبة ليلتحقوا بجيشه ولتبدأ بناء على ذلك عملية تحرير العبيد ببقية الولايات. وفي الأثناء جاءت النتائج مخيبة للآمال. فخلال اليوم التالي أجبر جون براون على الاستسلام للجنرال روبرت إدوارد لي، كان جون متطرف لقضية عادلة إلا أن تطرفه لقضيته جعله يتورط في مذبحة بوتاواتومي عندما قتلت مجموعة برئاسته خمسة رجال مرتبطين بمحكمة مقاطعة فرانكلين. بينما كان آدامز أكثر تحفظًا بكثير. لقد تجنب تطرف براون، لكنه واجه صعوبة في تحقيق الاتساق المعرفي والعاطفي بشأن قضية العبودية.

يتساءل سبنسر، في أي جانب من الأفضل أن نخطئ إذن؟ ولا يجيب على هذا السؤال، لكنه يشير أن التفكير في إجابة يساعدنا في فهم تعقيد علم النفس الأخلاقي. كما يتوقع أنه مِن الأفضل للمجتمع أن يكون لديه كلا النوعين من الأشخاص غير الكاملين بدلاً من وجود نوعية واحدة تظن أنها معصومة من الخطأ. فنزعة آدامز المحافظة هي حصن ضد التطرف ويمكن أن تساعد في إحراز تقدم تدريجي. من ناحية أخرى، ربما يحتاج المجتمع أحيانًا إلى رجل أخلاقي متطرف مثل جون براون لإيقاظ حساسيته الأخلاقية.

مصدر الصورة: https://2u.pw/MapdN

العدد الخامس عشر بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

مصطفى شلش