من كارل جوستاف يونج إلى جيمس جويس: رواية يوليسيس مُملة وبائسة وعظيمة إلى أبعد الحدود

كتب بواسطة أحمد الزناتي

في سبتمبر من سنة 1932 نـشر رائد علم النفس التحيليلي كارل جوستاف يونج (1875-1961) على صفحات جريدة Europäische Revue الناطقة باللغة الألمانية مراجعة لرواية جيمس جويس الأشهر  يوليسيس[1]. بدأت الحكاية حينما طلبَ ناشر الترجمة الألمانية للرواية د. دانيل برودي، مدير  دار نشر Rhein Verlag السويسرية كتابة مراجعة للترجمة الألمانية للرواية الصادرة للمرة الأولى سنة 1927، فأخبره د. يونج أنه قد قرأ جزءًا يسيرًا من الرواية ولم يطق إكمالها، وبعد القراءة الكاملة أبدى استعداده لكتابة مراجعة الرواية، وقد نشرت في كتاب مستقل تحت عنوان:. The Spirit in Man, Art and Literature

في مراجعة يونج المُطولة للرواية نلمح استياءً قويًا ونقدًا عنيفًا، لا إلى الرواية فحسب، بل إلى ذاته أيضًا. وصفَ د. يونج الرواية بأنها تنتمي إلى الحيوانات ذات الدمّ البارد، وتحديدًا إلى فصيلة الديدان الشريطية، فيقول لو أوتيتْ الديدان ملكة الكتابة الأدبية فستكبتُ شيئًا مشابهًا ليولسيس، بسبب افتقارها إلى الدماغ، فالدودة الشريطية كائن كامل حيّ متكامل بذاته، والدودة إذا قُطعتْ إلى نصفين فسينمو لها ذيل من جديد. في الأرجح كان د. يونج يقصد في تقديري أن يوليسيس رواية بلا محور، أو رواية بلا مركز.

في السطور التالية أنقل مقتطفات من مراجعة بروفيسور يونج لرواية يوليسيس.

“تمتد رواية يوليسيس على مدار  سبعمائة وخمس وثلاثين صفحة، كتيار من الزمن قوامه سبعمائة وخمسة وثلاثين يومًا مُجمعة في يوم واحد عديم المعنى في حياة رجل عادي، هو اليوم المبتذل الموافق السادس عشر من شهر يونيو 1904 ، في مدينة دبلن، يوم لا يحدث فيه شيء قولًا واحدًا. يبدأ تيار الوجود في الفراغ وينتهي في الفراغ. هل يمثّل كل هذا بياناً واحدًا مسهب الطول، مفرط التعقيد عن جوهر الحياة البشرية على طريقة ستريندبيرج[2] ، هل تمثل الرواية بيانًا بلا نهاية، ربما تمس الرواية جوهرَ الحياة  ولكن من المؤكد أنها تلامس عشرة آلاف سطح في الحياة ومئات الآلاف من الدرجات اللونية المتباينة للحياة. وبقدر ما وسعني التأمل والنظر لم أعثر داخل صفحات الرواية السبعمائة وخمس وثلاثين على تكرارات  واضحة، كما لم أعثر على جزيرة واحدة يستريحُ القاريء الذي طالت معاناته فوقها. كما لا تجود الرواية ببقعة يخلو فيها المرء بنفسه، ثملًا بذكرياته، متأملًا بسعادة الطريق التي قطعها، سواء أقطع مئة صفحة أم أقل. لكن.. لا، فالتيار الجارف القاسي ينهمر بلا رحمة ولا توقف، بل تطّرد سرعته ويزداد تدفقه  في الأربعين صفحة الأخيرة حتى تزول علامات الترقيم تماماً”.

” كان لديّ عم يتمتّع بذهـن ينفذ دائمًا إلى صُلب الموضوع. ذات يوم أوقفني بينما كنتُ أسير في الشارع وسألني: هل تعرف كيف يُــعـذّب الشيطان الأرواحَ في الجحيم؟ فلما أجبته بلا: قال: بأن يدعهم ينتظرون”. ثم مضى في طريقه بعدها. عـنّت لي هذه الملاحظة عندما كنتُ أشقّ طريقي في عوالم يوليسيس للمرة الأولى. كانت كل جُملة في الرواية توقظ أملًا بعيد التحقق والاكتمال لتصل في نهاية المطاف إلى فقدان الأمل في توقع أي شيء. الحقيقة أن لا شيء يحدث في الرواية ولا حدث ينمو. يصارع أمل مصدره سري ضد فقدان الأمل، فيجرُّ القاريء من صفحة إلى أخرى، فتقرأ وتقرأ وتقرأ وتتظاهر بأنك قد فهمتَ ما تقرأ، ومن حين لآخر تصطدم بمطب هوائي يقذف بكَ إلى جُملة جديدة، لكنك حالما تبلغ درجة اليأس وإلقاء الكتاب جانبًا تكون قد اعتدتَ على كل شيء. لقد قرأتُ رواية يوليسيس بقلب طافح باليأس حتى بلغتُ الصفحة رقم مائة وخمس وثلاثين، وقد غفوتُ مرتين في الطريق، لأسلوب جويس المتنوع حد الإدهاش إيقاع رتيب مُــنوَّم. لا شيء يأتي لاستقبال القارئ في الطريق ، قكل شيء يبتعد عنه، ويتركه، محدقًا فيه بعد مغادرته، الكتاب دائمًا بعيد عن القاريء، ناقم على نفسه، ساخر، متهكم، خبيث، طافح بالازدراء والكآبة واليأس والمرارة”.

“في مكانٍ ما داخل فصول الرواية نظام خفي أو تماثل، إلا أنه مدفون ببراعة لدرجة أنني لم ألاحظ منه أي شيء في البداية. وحتى لو كنتُ قد لاحظتُ لم أكن لأعيرَ إليه انتباهًا بسبب حالتي النفسية المنفعلة لدرجة لا يُرجى منها شفاء. قرأتُ رواية يوليسيس أول مرة في سنة 1922، إلا أنني وضعتها جانبًا مملوءًا بمشاعر الخيبة والارتباك”.

وفي فقرة أخرى يتكلّم عن سبب اختيار يولسيس للكتابة عنها:

“إن الجانب الهزلي/التراجيدي في حياة الإنسان العادي، والجانب المقفر للحياة، والظلّ الهزيل للعدمية الروحية، كل ذلك هو خبزي اليومي، ولا شيء فيه يثير اهتمامي أو يهزّني من الأعماق، ويرتكز عملي في الأغلب غلى تقديم العون إلى الناس في هذه الحالات المثيرة للأسف. أنا لا أبدي تعاطفًا مع من يرفضون التعاون معي لمساعدتهم، وقد أدارتْ رواية يوليسيس ظهرها إليَّ، ولم تُبدِ بادرة تعاون، ساعية إلى ترديد لحنها الأبدي إلا ما لا نهاية…[…..].”يتراءى إلىَّ أن كل الجوانب السلبية في رواية جويس، بدءًا من برودة وصولًا إلى غرابة الأطور والابتذال والشرّ، هي فضائل إيجابية. فجويس ثريَّ إلى حد عجيب ولغته حمّالة أوجـه لا حصر لها، مُمملة ورتيبة الإيقاع على نحو مخيف، إلا أن رتابة الإيقاع يكتسب جلالًا يشبه جلال الملاحم، ويجعل من ملحمة “المهاربهاراتا” رجـس وعبث”

وفي نهاية المقال يقول: ” وها أنا الآن ما زلتُ أمضي قُدمًا في رواية يوليسيس على نحو لا بأس فيه“.

وفور نشر المراجعة بعث د. يونج برسالة إلى جيمس جويس، مؤرخة في 27 سبتمبر 1932، أثارت استياء جويس لكنها أيدّت موقفه، وقد قيل في الصحف أن جويس كان سعيدًا بهذه الرسالة، وهذا نصّها:

عزيزي السيد جيمس جويس:

لقد وضعتْ رواية يوليسس العالمَ أمام معضلة نفسية بلغتْ حدًا من التعقيد أنهم طلبوا مني مقاربة الراية مرارًا وتكرارًا، لأنهم رأونني حُجة في علم  النفسي.

لقد تبيّن أن رواية عوليس عنيدة كصخرة صمّاء، وقد أجبرتُ ذهني  لا على بذل جهود مضنية لفهمها فحسب، بل إلى الخروج في رحلة شاقة (انطلاقًا من وجهة نظر عالمٍ نفسي). لقد ورطّني كتابك إجمالًا في متاعب لا حصر لها، وقد قلّبتُ الرواية على وجوهها طَوال ثلاث سنوات حتى استطعتُ الولوج إلى عالمها. رغم ذلك يطيب لي أن أعرب لك عن عميق امتناني لشخصك ولعملك العظيم، لأنني تعلمت منه الكثير. قد لا أكون على يقين من مسألة استمتاعي بالعمل كونه قد تطلب مني مجهودًا ذهنيًا وعصبيًا شاقًا. في الحقيقة لا أعلم إن كان سيروق لك ما كتبته عن يوليسيس، لأنني لم أستطع منع نفسي من أذيع على العالم حجم مشاعر الملل والتذمر والإعجاب التي انتابتني في آنٍ واحد. إن الأربعين صفحة اللاهثة الأخيرة من الرواية هي بمثابة سلسلة حقيقية في علم النفس التحليلي. على أي حال ليست مقالتي إلا توصية بسيطة موجهة إليك، لتعدها محاولة تسلية خرجت من قلم رجل غريب ضلّ طريقه في متاهة يوليسيس ولم يُكتب له الخروج من المتاهة إلا بضربة حظ. ربما تدلّـكَ مقالتي  على فـعلته يوليسيس بطبيب نفسي يُـفـتـرض أنه متزن نفسيًا.

عميق التقدير والاحترام

المخلص:

 ك.ج. يونج

من ناحيته أعرب جويس عن تقديره لنزاهة د. يونج وقدرته على نقد الرواية نقدًا لاذعًا مع الاحتفاء بقدرتها- في الوقت ذاته- على توليد شرارة إيجابية في ذهن القاريء، ومن ثمّ تحقيق السمة الأساسية المميزة للفن العظيم، أي مساعدتنا على إحداث التحوّل عبر إثارة قلقنا. بعد كتابة هذا المقال بسنتيْن أرسل جيمس جويس بابنته لوسيا لتلقي العلاج النفسي على يد د.يونج الذي كان أول من شخص حالتها المرضية تشخيصًا سليمًا بوصفها نوعًا من أنواع الفصام.


[1] – المصدر: Princeton University Press , C. G. Jung: The Spirit in Man, Art and Literature، الصفحات 109 وما يليها (المترجم).

[2]  المقصود أوجست ستريندبيرج (1849-1912) الكاتب والسرحي السويدي غريب الأطوار، الذي اتسمت مُجمل أعماله بتقديم صور للنفس الإنسانية المعقدة وصراعاتها المستمرة بين إرادتي الخير والشر والعقل والجنون والروح والجسد وكان من أوائل الكُتاب الذين وظفوا طاقات العقل الباطن في أعمالهم الفنية، ومن أشهر أعماله مسرحيات “الأب” و”الحُلم” والآنسة جوليا” والجحيم”. (المترجم).

أدب العدد الخامس عشر بعد المئة ترجمات

عن الكاتب

أحمد الزناتي