قراءة نص الانتحار

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

“إن كان هذا سيسبب لكم أي أذى فأنا جد آسفة.. أنا آسفة جدًا”

ز. هـ

١. لا أملك نفسي:

حين يموت شخص ما يتحول جزء كبير منه إلى مقدس، كأنما الروح التي خرجت منه تلتحق بملكوت رباني، عودة الروح تلك، تخلق في أنفسنا هالة قدسية حول تلك الذكرى، حضور روحي، غير فيزيائي، لأن الجسد في القبر، أو كيفما كانت مصائر الأجساد باختلاف الثقافات.

يؤثر ذلك الحضور الروحي ويخيم على الجميع، الحزن على الفقد يتخلله شيء من التبجيل، اللحظة نفسها، ما ندعوه لحظة الموت، تخيم وتؤثر على كافة الأرواح الحية؛ مات/ت، الكلمة نفسها لها محمولات نفسية قوية، تبدأ بالخفوت تدريجيًا مع ابتعادنا عن سطح الحدث، دون أن تمحي تمامًا، لدى كل من عايش اللحظة نفسها، كأنما شبكة روحية غير مرئية تربطنا جميعًا، تؤثر فينا بلا تمييز، فما بالنا إن كان فعل الموت إراديًا.

إذا كان الحزن قد شمل البلاد على هذه الحالة المؤسفة، فإن وقع الحزن على عائلة الراحلة أشد، وهذا ما يستوجب كل تعاطف ومساندة من كل من يعرفها أو يعرف أفرادها، كل ما يمكن للتعزية، فهذا جرح بالغ، وفقد مؤلم، لكن الإيمان القوي بالقدر والقضاء منجاة في وسط هذا الخضم الصعب.

لي أسبوع أحاول الكتابة، أكتب وأحذف، حتى يئست من قدرتي على الكتابة عن الأمر، لكني أنا الآخر مثلها، لا أملك نفسي، ومن يملك نفسه حقًا أيتها العزيزة الراحلة؟ أعلم أنك كنت تتحدثين عن الحدود الدنيا، لكن حتى تلك الحدود الدنيا محكومة سلفًا بأطر خرسانية، يحاول كثيرون، ذكورًا وإناثًا، أن يتبعوا ما يشعرون به، يحطمون أسوارًا كثيرة وتجرحهم تلك الأسوار، تكسر أجنحتهم، أنظر إليهم الآن وأفكر بأنهم لربما بلغوا ما أرادوه لكن بثمن باهظ، لا يدفعونه وحدهم أحيانًا بل يدفعه كثيرون حولهم، لا فرق في هذا الأمر، بين هنا وهناك.

تعيدني الذاكرة إلى مذكرات الأميرة سالمة، تلك الحالة من الانهيار النفسي الذي وجدت فيه نفسها، هناك في البعد، في ألمانيا، كانت متحطمة، ولكنها قاومت، اتخذت من رعاية أبنائها هدفًا، حاولت الاستمرار بعد وفاة زوجها وكان طريقها شائكًا وجارحًا، ثم حاولت العودة وفشلت، بقيت فترة طويلة في فلسطين، كانت فلسطين بالنسبة لها خارج المكان، بعكس ادوارد سعيد، تلتقط أنفاسها وتعيش تحت ظل تلك الليلة القديمة في شبابها، حين قفزت (بنفسها) من الأسوار الزنجبارية المنيعة وهربت مع من تحب.

٢. اللغة وانطفاء النجمة:

لم يتوقف رنين الجرس في أذني، هذا انتحار نصيّ، انتحارات عديدة قبلها، بعضها في الجامعة نفسها، لكن هذه المرة لدينا رسالة نصية، وثيقة، كلمات أخيرة، ووصية، دعوة عامة، عنيفة بلا شك، للقراءة؛ هذه وصية مكتوبة لهذا الغرض تحديدًا، لنقرأها، لا لنكتب فوقها.

قبل القراءة نتأمل وجه النص، لغة النص إنجليزية، لماذا الإنجليزية؟ ألأنها تعبير عن الاغتراب المزدوج، أم لأن الفكرة المسيطرة لحظتها تتحدث هذه اللغة؟ أم لأن الجحيم المقصود عربي؟ لا تحترق فيه الكلمات الإنجليزية بل تحترق الكلمات العربية وحدها.. يا للأسى.

انتشرت ترجمة أمينة لحد بعيد لنص الرسالة، لعل مصدرها حساب (نس) @iisdark على تويتر، كما انتشرت نسخة معدلة منها بالواتساب، لكن للتدقيق نعود للنص الأصلي ونقرأه هو، ونشير أن للراحلة نصوصًا منشورة أخرى عبارة عن تغريداتها على حسابها في تويتر الذي يحمل اسم سوبرنوفا، والسوبرنوفا حالة النجم بعد انطفاءه، انطفأت النجمة.

٣. (كنت قد أجلت هذا الأمر، وأعدت النظر فيه مدة، وأرى أن الوقت قد حان الآن).

تبدأ الرسالة بذكر التأجيل، القرار المؤجل، حالة من التردد السابق، التأجيل وليس صرف النظر، التردد وليس الإلغاء الحاسم، حالة من إلحاح الفكرة استمرت حتى ولدت هذه اللحظة المأساوية، لحظة كتابة الرسالة، وسط حالة من الضعف والانهيار الذي تشرحه الرسالة لاحقًا بانهيار الأشياء، الحدث نفسه لم يحدث بعد، ما تزال هناك مسافة زمنية بين الكتابة وبين الحدث الحزين، هنا أثناء كتابة هذا النص يبدو الوضع ثقيلًا خانقًا، ويعيق الكتابة وهذا ما يشير إليه النص في السطر الثاني:

(لا أعرف حقًا ماذا أقول، من الصعب حقًا التفكير بوضوح حين تكون على وشك الانتحار، لكن التفكير بوضوح ظل صعبًا على منذ مدة طويلة).

منطقة من التشويش الفكري، منطقة من الانهيار، وادٍ سحيق ممتلئ بالأفكار (القاتلة)، متى ترد فكرة الانتحار على المرء؟ في ضعفه، إثر هزيمته، في انهياره، حين يفقد كل أمل، تتسرب فكرة الانتحار وتلح عليه، وكلنا عرضة لهذه الحال، الفكرة نفسها ليست غريبة علينا، كلنا كان يمكن أن نكون مكانها.

ينقطع خيط الكلام بعد الفقرة السابقة، ومن أجل مواصلة الكتابة يخرج النص من الإطار النفسي لتلك اللحظة الثقيلة، يتخفف منها بالخروج إلى إطار أوسع، لكن ليس بعيدًا خارج قبضة الضغط النفسي كلية، ليستعيد في الفقرة التالية، ذكرى قريبة غير بعيدة، البارحة.

٤. (الليلة الماضية خرجت اتمشى، تعلم(ين) “الجولة الأخيرة”، كانت السماء مذهلة، ووابل الشهب كان الشيء الذي احتاج رؤيته. كان جميلًا).

تتوجه الرسالة إلى مخاطب ما، ولأنها مكتوبة بالإنجليزية فإن الخطاب غير حاسم بجنس المخاطب المراد ذكرًا أم أنثى، في حين اختارت الترجمة المنتشرة الأنثى (أتعلمين)، الجولة الأخيرة بالتنصيص كأنها إشارة إلى شفرة مشتركة خاصة، نقرأها ظاهريًا كإشارة إلى “التمشية” الأخيرة قبل الموت.

في تلك الجولة و”التمشية” الأخيرة تتكشف لحظة تماس سماوية مع الكون، وابل الشهب وتساقطها، والشهاب الهائل الذي أضاء المكان حولها، الشيء الذي احتاج رؤيته، كأنه دعوة كونية، من الفلك الغامض، مسّها الجمال بقوة حتى كتبت (كان جميلًا).

لفتت السماء الليلية نظرها إلى لحظة جمال خالصة، مشعة ومنيرة، تتيحها الحياة، لكن ثقل مركز النص يقع في الوادي المعاكس، وينزلق إلى مركزه مفلتًا اللحظة الجميلة من يده.

٥. (أنا غير مؤمنة بالحياة بعد الموت، لكني فكرت بها، كيف ستبدو بعد أن أموت؟)

يعلن النص عدم الإيمان بالحياة بعد الموت، لكن حتى هناك في فكرة ما بعد الموت نرى وجهًا آخر من الجمال، هذه المرة دون أن يشير النص إلى أن هذا جميل أيضًا لكنه على الأقل يسجل تأثره به:

(يؤثر بي، أن جسدي مجرد كتلة كبيرة من الجزيئات، كانت هنا قبل أن أولد، وستبقى هنا بعد أن أموت، وأفكر في رحلتها، وكيف كانت جزءًا من أشياء أخرى قبل أن تكون جزءًا مني، وستصبح جزءًا من أشياء أخرى بعدها.)

الجزيئات اتحدت في جسد، ذكر الجسد هنا (جسدي) يذكرنا بالكارثة التي ستلحق به عما قريب، هو الطرف الأضعف في هذه المعادلة الفيزيائية الأساسية، الجسد ستقتله الإرادة، وعليه أن يكتب رسالته الأخيرة، الجسد هناك، لعله يرتعش، ينتفض، لكنه يكتب، يكتب إرادته.

لو عدنا لنتأمل خط الرسالة نجد الاحتقان والاضطراب واضحًا، الكلمات مرتعشة، بعض الكلمات مسحت وأعيدت كتابتها، الرسالة مكتوبة بقلم الرصاص، لعله هو نفسه قلم الرسم، قلم الرصاص الذي يعبر عن الحالة الرمادية.

٦. (أتعلم(ين)، لقد ابتعت دفتر الرسم هذا منذ مدة مضت، وكنت بغاية الحماسة لأملأه بأنواع الرسومات والتخطيطات، وها أنا ذا الآن، استخدمه أول مرة لكتابة رسالة انتحاري).

مرة ثانية يبتر النص تسلسله، يقفز بحدة، ربما كي لا يفقد التركيز على ما هو مقدم عليه، ينتقل للإشارة إلى دفتر الرسم الذي يحمل هذه الرسالة، لكنه ليس بترًا خالصًا، هناك تداخل شفاف، ذاك كان جسد الكاتب وهذا هو جسد الكتابة، جسد النص، الدفتر الذي كانت الراحلة قد ابتاعته، منذ مدة طويلة، لترسم وتخطط.

للراحلة رسومات عبارة عن بورتريهات للوجوه منشورة في حسابها على تويتر وهي غنية بالدقة والبراعة، كانت متحمسة للحياة، للعمل والإبداع والفن، للعطاء والتدفق، ممتلئة بالطاقة، حتى حسبت أنها لن تكتفي بالرسم وحسب في دفتر الرسم ذاك بل ستملأه بالرسومات.

(ها أنا ذا الآن، استخدمه أول مرة لكتابة رسالة انتحاري).

انقلاب حال دفتر الرسم بين ما خططت له وما حدث، يوازي انقلاب حال الجسد، بين ما كانت تحلم به وما حدث.

٧. (إذًا..

لم أنا على وشك الانتحار؟)

بتر آخر حاد، عودة للوقوع تحت تأثير الجاذبية الأساسية، الاندفاع نحو الهاوية، الوقت قصير ولا يكفي الوقت للاستطراد، الاستطراد مرفوض، لا مزيد من شهب السماء، لا لذكرى الرسم، لا للتعاطف مع الدفتر، لا للتعاطف مع جزيئات الجسد، كل ذلك قد يضعف سيطرة الفكرة القاتلة، الوقت وقت حسم وبتر وقطع، هذا ليس وقت أي فكرة أخرى.

يتجه النص بحدة إلى سؤاله المحوري، لب الرسالة، نص النص، دافع كتابتها، دافع وجود هذا النص، الذي هو تبرير الفعل الإرادي، القرار تم اتخاذه سلفًا، النص هو التعبير المنطقي لتفسيره، وهذا موضع السؤال المحوري لهذه القراءة، لماذا كتبت هذا النص؟

لماذا رأت أن من واجبها تفسير الفعل؟ رأت أن عليها قبل أن تفعله أن تضعه في سياق موضوعي وعقلاني، للحدث مسبباته وهذا النص هو رسول توضيح المسببات، بما أن المعني/ة، صاحبة الشأن، ستكون غائبة عن الوجود بعد الفعل.

يسوق النص بعدها عدة تعليلات، تلك التعليلات تذكر بعبارة التعريف في حساب الراحلة على تويتر (لا تقبل بحياة لا تشعر فيها بالحياة). العبارة التي كأنها مبدأ متعالي على كل ما حوله، نفس هذه العبارة كانت آخر ما كتبه قبل أشهر الشاب اللبناني من عكار والطالب الجامعي كذلك حبيب عبدالله الشيخ قبل أن ينتحر قبل هذه الحادثة بأشهر، في خبر نشرته جريدة النهار شهر يوليو هذا العام ٢٠٢٠م، وهذه العبارة نجدها منسوبة إلى شمس الدين التبريزي، المتصوف الشهير الذي ألف باسمه جلال الدين الرومي ديوانه الشعري ويشك الباحثون في مقتله، وقد تعذر عليّ الوصول إلى مصدر العبارة مع أني وجدتها في غاية الانتشار.

٨. (أنا لا أملك نفسي! وأسلوب حياتي لا يرجع إليّ، وأنا ممنوعة من اختيار من أكون! أنا مرغمة على أن أحيا حياة جد حزينة ومملة. لذلك فإن كل تلك الأحلام، كل الأشياء التي أحببت أن أكونها وأفعلها مجرد خيالات في رأسي).

يحشد النص أمامنا دوافع الفعل القادم، الذي يتأسس على انعدام الحرية الشخصية، المؤدي لحياة حزينة ومملة، الحرية مفقودة لذلك لا تتحقق الأحلام، لكن متى كانت الحرية كاملة إلا في الأحلام؟

هذا يذكرني بقصيدة الشهيد للشاعر الفلسطيني الشهيد هو الآخر عبد الرحيم محمود:

سأحمل روحي على راحتي وألقي بها في مهاوي الردى/ فإما حياةٌ تسرُّ الصديق وإما مماتٌ يغيظ العدا.

٩.

(كافحت للحياة من قبل، ولكني أخفقت. مرات عديدة….

والآن، نفدت مني الطاقة، أنا في غاية الألم، وهذه منتهى العزلة.

الأشياء تتداعي ولا أستطيع إصلاحها، وأنا نفسي مكسورة كذلك …

احتجت لأن أُحب… احتجت لمن يطمئنني، حتى أعرف أن الأحوال ستعتدل، وتغدو أفضل.

لكن كل يوم، كنت وحيدة، مكسورة، وأمامي كان كل شيء يتداعى).

لكن النص ينقلب على كل تلك الأسباب فيما بعد، ويقدم لنا الخلاصة:

(إذًا للإجابة عن ذاك السؤال.

لا أملك سببًا لإنهاء حياتي

لكن أسباب الحياة انتهت عندي).

بعد مسرد الأسباب التي هي متوالية شكوى، تأتينا الإجابة المختصرة مقلوبة، تنسف الأسباب السابقة: لا يوجد سبب لإنهاء الحياة بل لا يوجد سبب لاستمرارها، الحياة انهارت بانهيار أسبابها، الإخفاقات، نفاد الطاقة، شدة الألم والعزلة وانهيار الأشياء والانكسار وافتقاد الحب والطمأنينة، وافتقاد الدافع للحياة، كل تلك أسباب في الماضي لذلك تم تفجيرها، بإجابة حاسمة عن فراغ الغد.

قد تبدو لنا الأسباب المسرودة كأنها حواجز وعقبات أسبابًا حقيقية، لكن كثرة الأسباب أحيانًا تدلنا على أنها ليست السبب الحقيقي، بل هي أغطية على السبب، ولا ننسى أن الفعل المراد تبريره عنيف، يعكس حالة نفسية عنيفة، لذا فإن فقرة التهمة الاجتماعية اللاحقة قد تحتمل بعض الصحة بمعزل عن الحدث نفسه أو إطار الحادثة، لكنها في إطار الحادثة تأخذ خصوصية مختلفة.

١٠. (لأني مهتاجة من الغضب، أنا مهتاجة غضبًا على هذا المجتمع المريض الذي فعل كل شيء لطمس من نكون، وجعلنا منافقين. الذي ظل يقتل أحلامنا، واخترع هذه السمعة، التي لطالما تقززت منها، والتي لم تفعل شيئًا سوى أن غطّت الشرور وانتزعت حقوق الأبرياء. أنا مهتاجة غضبًا على الإله الذي اختلقتموه. الجرائم التي ارتكبتموها باسمه، وكيف استخدمتم اسمه لتخدير ضمائركم عن مد يد العون للذين يتألمون)

يظهر الغضب باسمه، دافع العنف يتحدث بلسانه، الغضب الذي وجد له تجسيدًا فكريًا يصعد مسرح النص، مهتاجًا في هذه اللحظة النصية، الغضب الذي أودى بحياة حاملة، هذا صوت الفكرة الخالص، مشتعلة بالغضب، فكرة جحيمية، هذه الفكرة المسيطرة متجردة في الكلمات، وفي أول ظهور متجرد لتلك الفكرة الدافعة نراها ترمي بقذائفها، المجتمع مريض، السمعة مقززة، ظالمة، غضب على الإله المختلق! الجرائم المرتكبة باسمه، واستخدام اسم الإله (المختلق) لتخدير الضمائر، عن مساعدة المتألمين. في متوالية شتم واتهام جرمي وتجديف، ضد الذات نفسها، بما أنها جزء من المجتمع المشار إليه، خطاب من داخل الجحيم.

الغضب يرمي أهدافه دون تميز، إذا كان مؤمنًا حقًا بأن هذا الإله مختلق فكيف يغضب على اختلاق ووهم، والجملة ملتفة على نفسها، كالدوامة العاصرة: (مهتاجة غضبًا على الإله الذي اختلقتموه)، التفاف عاصر، أفعواني، ليس على المغضوب عليه، بل على الذات المحكوم عليها من داخلها بالموت الآن، تحت هذا الضغط الشديد، الجحيمي، من الداخل، وهذا منطوق الحكم: الانتحار.

١١. الذين يتألمون

الذين يتألمون قد لا يكون مقصودًا بها غير الذات وشبيهاتها، ليست الإشارة للمحتاجين والفقراء والمساكين، بل للمتألمين، الواقعين تحت تأثير مثل هذه الآلام، آلام الغضب، العنف اتجاه الذات، ألم الانفصام بين الحلم والواقع، والعجز عن حله، والتفجير الذاتي. وهذا مؤلم وجحيمي دون أدنى شك.

١٢.(الحياة عبث، يُقتل الناس ومن قتلهم أحياء! ينتصر المحتالون ويخسر الأوفياء، لا عدالة، ولا إله).

الحياة عبث لانتفاء العدالة المباشرة فيها، لأن المقتول يموت ويحيا القاتل، والمطلوب هو عدالة مباشرة، حيث يفترض أن يحيا المقتول ويموت القاتل، حتى لو كان ذلك ضد قوانين الفيزياء، قوانين الفيزياء، المتناسقة، الثابتة والراسخة، تخذلنا هنا، العالم مبني على الجمال، لكننا نريد كذلك أن ينبني على العدالة المباشرة، على الانتقام السريع، الذي نراه نحن عدالة، بوصفنا قادرين بظننا على تحديد صواب وخطأ الوجود، وهذه عبارة إدانة النص لنفسه، لحالته الذاتية.

عنف الخطاب ووتيرته تستمر في هذه الفقرة، خطاب الغضب يجري، ها هو من عنفه يقود إلى تحطيم الذات، دون أن يبالي، ومن أجل إقناع الذات بنبل الرسالة، وتعليقها بمعنى متسامٍ تتعلق بعقيدة ذاتية، حتى لو كانت نتيجتها تدمير الذات، أليست العقائد الأخرى لديها كذلك هذه الحالة الانتحارية وهي لا تسميها انتحارًا بل استشهاد، في سبيل القضية، حتى لو ظلمنا الجسد، والروح، إذًا يجري النّص إكمال الأركان اللازمة للفعل، لتبرير الحكم:

(ليس لكم أحد سواكم، فأحبوا بعضكم، … ارعوهم، ساعدوهم، لستم بحاجة لإله لفعل الخير. ولا خير في خيرٍ تنافقون به الله أو خشية من دخول الجحيم).

وما يكاد هذا الخطاب الداعي إلى الخير المحض من الاستقرار مكانه حتى يهتاج الغضب ويذكرنا بخطابه اللاعن حتى لمن يخاطبهم:

(وتوقفوا، اللعنة، عن إرث كل شيء من والديكم)

١٣.

(هناك الكثير مما لا بد من قوله، لكني لا أستطيع قوله كله، سأتركه لكم لتبحثوا عنه بأنفسكم…)

يشير النص في لمحة صغيرة إلى المسكوت عنه، مفصحًا عن عجزه عن قوله، وهذا يبدي أكثر من جانب، ابتداءً من السطر السابق يظهر مخاطب جديد، لم يكن موجودًا من قبل، أنتم، مجتزأ من المجتمع المريض، حيث يظهر لاحقًا أن النص يخاطب فئة محددة تفهم من السياق أنها جيل الأبناء والبنات، يدعوهم النص للتحرر من الإطار التلقيني إلى إطار بحث ذاتي، ابحث بنفسك عن الحقيقة.

الجانب الآخر في العبارة هو عدم الإفصاح، المسكوت عنه، النفس التي على وشك المغادرة لا تفصح كليًا عن نفسها، الكثير مما (لا بد) من قوله لكنه لا يقال، لا أستطيع قوله كله، لماذا؟ لأشجعكم على السؤال، كذلك لأن اللحظة حاسمة والتركيز منصبّ على إتمام المهمة، لذا يمكن أن عدم استطاعة الإفصاح مردها ذاتي، لا أستطيع قول ما لا بد منه لأنني مهتاجة من الغصب وأنا على وشك الانتحار؟ فابحثوا عنه بأنفسكم.

غاية المنتحر في هذه اللحظة هي أن يحقق الانتحار، تلك هي المهمة الأصعب، الانتحار، هذا على الأقل أحد الأحلام التي أمكن تحويلها إلى واقع، ليس الانتحار بين الأشياء التي تداعت وانكسرت، كما ليست محاولة الانتحار بين المحاولات التي أخفق المنتحر فيها، بل بالعكس تم تحطيم كل شيء وكل منجز والتدقيق في الانكسارات الحالمة من أجل تحقيق هذا الحلم وحده.

١٤. إلى الذين أحببتهم:

الى الأصدقاء الطيبين والناس العظماء… أنا سعيدة جدًا بفرصة معرفتكم، وأنا أحبكم بصدق. إذا سبب لكم هذا أي أذى فأنا جد آسفة، أنا آسفة جدًا. لقد حاولت، حاولت إيقاف الألم لكني لم أقدر، وهو لا يطاق، لو كنتم مكاني كنتم تفهمتم، لذا لا بد علي من إيقافه. أنا مستنفدة، وقد حان الوقت لأرتاح الآن. هو خير، وهو ما أريده.. 

في نهاية الرسالة، نرى رسالة داخل رسالة، معزولة عن إطارها العام، رسالة ليست من خطاب الفكرة الغاضبة الجحيمية نفسها، ربما هذا صوت الروح، تعبر عن الحب، عن أسفها الشديد على الفعل الانتحاري، اعتذار عن هزيمتها أمام الألم، الروح تقول لو كنتم مكاني كنتم تفهمتم، لا بد على من إيقاف ألمي، بالموت؛ الألم، الغضب المهتاج المشتعل، الجحيم الداخلي، الذي استنفد الطاقة، حان الوقت لأرتاح الآن. هو خير وهو ما أريده: لحظة الخلاص.

١٥. أمر واحد أخيرًا للإيضاح،

“أنا لست ذاهبة للجحيم، أنا خارجة منه”.

لو فهمنا أن الجحيم داخلي، عذاب الفكرة واهتياج الغضب العنيف الذي يدمّر الجسد ويقتات عليه من الداخل، يشتعل فيه ويضرم نيرانه، لكن الإشارة مزدوجة كذلك إلى تهديد الخطاب الديني للمنتحر، الجحيم المتوعدة، لكنها بالنسبة لمن يشتعل الآن هنا لا تعدو شيئًا يذكر، فالجحيم الأخروي لم يجر اختباره، الجحيم هنا والآن داخلنا ويجب الخروج منه بأقصى سرعة ممكنة، وهذا هو الطريق الوحيد.

١٦.

يختطف المنتحر جسده من الأوضاع الضاغطة التي تتحكم به، عبر الموت، حيث لا يطاله أحد، ولا تناله فكرة غاضبة ولا يهدده أحد، يلجأ إلى الغيب الغامض ويختفي هناك.

ينسى المنتحر، أو يتناسى، أنه بإقدامه على الانتحار يخون جسده؟ يقتله ويتركه جثة هامدة، يستغل طواعية الجسد له في قتله، يتقدم المنتحر ربما رغمًا عنه، ليتجاوز عقبة الجسد التي تعترضه، يخنقه، أو يسممه كيف ما كانت وسيلة الانتحار.

ينسى المنتحر أنه بفعله ذلك، بسلبه حق جسده في الحياة، لن يعود بمقدوره الحديث عن الحقوق الخاصة، ولا عن العدالة العامة، ولا حتى عن عبثية الحياة، وأن كل حديث منه عن ذلك سيغدو مجرد تبريرات لجريمته، كأي قاتل آخر يحاول تبرير فعلته.

هنا أيضًا قاتل ومقتول، وهنا أيضًا مات المقتول والقاتل حي، ها هو بيننا، هذه الفكرة الجحيمية التي تبحث لها عن ضحية تالية.

لتحقيق مشروع الانتحار بإتقان لا بد من التخلص من العقبات، لذلك لا بد أن يكون الإله الذي يعاقب على قتل النفس وهمًا، والجحيم وهمًا، كلها أشياء مختلقة، ولابد كذلك لتحقيق مشروع الانتحار ألا يؤمن المنتحر بالحياة بعد الموت.

الألم النفسي الشديد والهياج الغاضب حالات نفسية، أفكار وتمزقات داخلية، ومن الأفكار ومن الحالات النفسية ما هو قاتل محترف، يغلق الأفق والنوافذ، يغلق كل الأبواب داخلنا، ويقتلنا ببرود.

نهتم جميعنا بهياكلنا العظمية وأجسادنا ولكننا ننسى هياكلنا النفسية، نضرب بها عرض الحائط، نشنع بها ونتفنن في تجريحها وتحطيمها، بعنف خطير، بشدة وغضب، كأننا لا ندرك أن هيكلنا النفسي هو قوام هيكلنا الجسدي وأساسه، وأن صيانة الجسد غير ممكنة دون صيانة النفس.

الجسد أعطية أرضية، والروح أعطية سماوية، ولو دمرت أثمن هداياي ينتهي العالم، جنةً من اللطف كان في نظري أم جحيمًا من العنف.

العدد الخامس عشر بعد المئة ترجمات ثقافة وفكر

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد