تطور منطق التجليات من كانت إلى هيجل

كتب بواسطة شايع الوقيان

من الأفكار البسيطة والمباشرة والموافقة لبادئ الرأي أن ثمة شيئاً يظهر لإدراكنا: الطاولة أمامي مثلا. حياتنا الحسية مليئة بمثل هذه الأشياء. و”ظهور” هذه الأشياء يتم عبر قنوات الحس الخمس. وما يمر عبر هذه القنوات ليس الأشياء في ذاتها بل انطباعاتها الحسية: ألوانها تمر عبر العين، وروائحها عبر الأنف، وملمسها عبر اليد والجسد، وهكذا.

في هذه الفقرة نلاحظ ظهور نوعين من الكينونات: الأشياء في ذاتها من جهة والانطباعات الحسية التي تنوب عنها من جهة أخرى. هذه الثنائية موجود قديما في الفكر الفلسفي والعلمي. فكان هناك “الجوهر” وكانت هناك “الأعراض” التي تسمح له بالظهور والتجلي. ومع ديكارت وغاليليو وجون لوك ظهرت الثنائية نفسها على صيغة: كيفيات أولية كالشكل والحركة والكثافة وكيفيات ثانوية كاللون والطعم والرائحة[1].

الأعراض أو الكيفيات (الثانوية) أو الصفات هي تجليات محسوسة، أي “مظاهر” (appearances) أو “ظواهر” (phenomena). لكن السؤال الآن: مظاهر لمن؟ ومن أجل من؟ هي مظاهر لشيء في ذاته، لجوهر كامن، لـ”نومين”. وهي تظهر ليس لأي شيء بل للوعي فقط. فالطاولة تظهر للوعي الإدراكي للإنسان والحيوان. وهي تنوب في ظهورها عن شيء كامن.

مع إيمانويل كانت، المظاهر والحقائق أصبحتا تعبيرين عن عالمين منفصلين: عالم الظواهر (الفينومينولوجيا) أو الأشياء كما تظهر لنا. وعالم الجواهر (النومينولوجيا) أو الأشياء كما هي في ذاتها. ولكن كانت حولها إلى إشكالية كبرى في الفلسفة عندما جعل العالم الثاني (النومينولوجي) غير قابل للمعرفة على الإطلاق. وخبرتنا كلها ومعها معرفتنا تنهض فقط على عالم الظواهر. ونحن نعرف هذا العالم لأنه من خلق عقولنا. مبدأ المعرفة الذاتية طرحه فيلسوف إيطالي خامل الذكر وقتذاك وهو غامباتيستا فيكوG. Vico . ويرى أن معرفتنا بالظواهر الإنسانية أدق من معرفتنا بالظواهر الطبيعية لأننا خلقنا الأولى، وأما الثانية فهي من خلق الله وهو من يحوز على معرفة مطلقة بها[2]. هذا المبدأ يعمل لدى كانت أيضا، وسيكون له فائدة كبيرة عند فخته وهيجل.

تعرّض كانت لوجهات نظر نقدية حادة فيما يتعلق بمفهوم “الأشياء في ذاتها”. لكن قبل إيضاح النقد لنتوقف قليلا عند الثنائية الكانتية وكيف نشأت.

مما هو معروف أن كانت قرأ كتاب (مبحث في الفهم البشري) لديفيد هيوم. وكان هيوم، متابعاً جورج باركلي، يرفض وجود جوهر مادي خارجي، ذلك الجوهر الذي يرى جون لوك قبلهما أنه يحوز على كيفيات أولية كامنة فيه. ورغم أن لوك يقر بوجود هذا الجوهر أو الواقع الخارجي إلا أنه يعترف بعجزه عن إيجاد دليل عليه، ويستبدل الإيمان faith  بالبرهان. لكن باركلي لم يرض بأن يقيم بحثه الإبستمولوجي على الإيمان، فاضطر لإلغاء الكيفيات الأولية، أو بالأحرى مماهاتها مع الكيفيات الثانوية التي يكون العقل مصدرها. وخرج لنا بمبدئه الشهير: لكي يوجد الشيء لا بد أن يكون مدرَكاً. فصار الوجود ههنا مقترناً بالإدراك أو المعرفة. فاتحد مبحثا الوجود والمعرفة بعد أن كانا متمايزين. تابع هيوم فكرة باركلي، بل إنه طبق منهجيته على الجوهر العقلي نفسه. فمعرفتنا بالعقل كجوهر خاضعة للانطباعات مثله مثل الجوهر المادي. فالإحساسات الخارجية عند باركلي لم تعد “ظهورا” لجوهر مادي، والأحاسيس الداخلية عند هيوم لم تعد “ظهورا” لجوهر روحي أو عقلي. وهكذا صار هيوم رائد الشك المذهبي في العصر الحديث (وكان ديكارت رائد الشك المنهجي). بعدما قرأ كانت كتاب هيوم آنف الذكر قال: لقد أيقظني من سباتي الدوغمائي (اليقيني). فأخذ على عاتقه مهمة إنقاذ الفلسفة والعلم من شكية هيوم. فاقترح أن هناك عالماً في ذاته، وأنه “علة” التجليات الحسية. ولكننا لا نعرفه بسبب من محدودية عقولنا. فالعقل لا يدرك سوى ما يتموضع في صورتيْ الزمان والمكان: أي الأشياء المحسوسة فقط. ولكن العقل مع ذلك ليس نشاطا سلبياً يستقبل المعطيات الحسية وإنما يملك بطبيعته نشاطا تلقائيا ينتج من خلالها مقولات وتصورات قبلية تجعل إنشاء معرفة من تلك المعطيات أمراً ممكناً.

من هذه المقولات: العلية والإضافة والجوهر والفردي والكلي والضروري والممكن، ونحو ذلك. وقد نظمها في أربع مقولات كبرى وهي الكم والكيف والعلاقة والجهة. وهكذا فعقولنا تنشئ بفضل هذه المقولات عالمَ التجربة (الفينومينات). ولكن عالم الأشياء في ذاتها (النومينات) لا تقبل المعرفة؛ أي لا تقبل انطباق المقولات عليها. وبالعودة للنقد الذي وجه لكانت، فقد رأوا هؤلاء أن كانت طبق مقولتين على النومينات. فهو قال إنها موجودة (وهنا طبق مقولة الوجود)، وإنها علة الانطباعات (وهنا طبق مقولة العلية). وهذا يعني أن النومينات تحولت إلى فينومينات! وإذن فليس هناك شيء لا يمكن لعقولنا أن تدركه، فألغوا فكرة (الشيء في ذاته) بالطريقة التي فعلها باركلي مع لوك.

إلغاء الشيء في ذاتها أو الواقع المستقل والمفارق للوعي هو بداية ظهور المثالية الألمانية التي أصبح هيجل ذروتها. فبدأت مع فخته وشلنج، وبلغت الذروة مع هيجل، وانتهت مع شوبنهور.

ما دام ما هو موجود ليس سوى العقل (ومنتجاته= العالم الظاهري) وما دام ليس هناك شيء وراء الظاهر، فإن الموجود المطلق هو العقل. ويسميه فخته بـ(الأنا) ولكنه لا يقصد أنا نفسية بل منطقية (أنا بوصفها التعبير الكلي عن كل كائن عاقل)، وهذه هي الكوجيتو، كوجيتو فخته ويختلف عن كوجيتو ديكارت بالطابع الكلي الذي أشرنا له. وهذه الأنا تشعر بالحرية ما دامت مطلقة ولا يحدها شيء. فالحرية إذن تعني الإطلاق أو اللاتناهي. والحرية نشاط فعلي، فالأنا إذن فعل وليست مجرد تأمل. وكل فعلٍ تمارسه الأنا “يؤدي إلى شعورها بذاتها” كما يقول فخته[3].

وجدير بالذكر أن فخته لم ينطلق في بناء نسقه العلمي كما يسميه من كتاب نقد العقل المحض لكانت فقط بل من ميتافيزيقا الأخلاق ونقد العقل العملي. فالأنا أو الوعي المتعالي عند كانط هو مصدر الحرية، وبالتالي مصدر الأمر الأخلاقي. فالأخلاق لكي تكون مسوغة يجب أن تنبع من إرادة حرة، أي تلقائية غير معلولة لسلسلة الأسباب التي تحكم اضطراد الحوادث الطبيعية. وهكذا فالحرية هي المبادأة والمبادرة وإنشاء الفعل من غير سبب (طبيعي) سابق.

ولكن وبما أن الأنا عقلٌ مطلق فإنها تعرف نفسها من خلال مبادئ الفكر كمبدأ الهوية وعدم التناقض والثالث المرفوع. وهذه المبادئ حسب فخته لا تقبل البرهنة ولا التعريف لأنها هي التي نعول عليها في البرهنة والتعريف[4]. وهكذا فالأنا من خلال مبدأ الهوية تشعر بذاتها، ومن خلال مبدأ عدم التناقض تدرك بالضرورة المنطقية أن هناك لا-أنا. وأما المبدأ الثالث فهو المبدأ الذي تقوم فيه الأنا يوضع اللا-أنا واللا-أنا بوضع الأنا. فيحدد كل طرفٍ الآخرَ ويلغي تناهيه.

لولا هذه المبادئ لما حدث وعي ذاتي. فلكي أعي نفسي لا بد أن أدركها وأدرك حدودها. ولكن حدودها في هذه المرحلة ليس سوى سلب الأنا (اللا-أنا)، فهي كائن غير متعيّن. لكنها تظل حداً يوقف تناهي الأنا، وبالتالي يجعلها متناهية. والتناهي تعيين. وهذا مبدأ أخذه المثاليون من اسبينوزا: النفي حد أو تعيين[5]. فالخير لا يدرَك لولا وجود نفيه: الشر. ومع النفي المتبادل تظهر الأنا واللا-أنا في تعينات (تجليات كيفية).

وهكذا فإن الجدل (الديالكتيك) يظهر بشكل أكثر تطوراً عند فخته، منه عند كانت. ولكن فخته لا يجعل نقيض القضية (اللا-أنا) متولداً بشكل استنباطي من القضية (الأنا)، بل تكتفي الأنا بحدسها؛ فهي موجودة هناك منذ البداية. الجدل الفختي إذن يظل ملازماً لنشاط الروح الذاتية، أي الأنا واللا-أنا بوصفها موضوعاً لها. ولذلك قام شلنج بتطوير فكر فخته وتأسيس فلسفة الطبيعة، أي الروح الموضوعية. وهي تدرس الطبيعة بوصفها وجوداً مستقلاً عن الوعي. ولكنه لايزال يسلم بالروح الذاتية كنشاط أصيل لما يسميه “المطلق” وهو الوجود الكلي الذي تتحد فيه الروحان الذاتية والموضوعية. وهذا الاتحاد سيتخذ عند هيجل شكل وحدة المنطق (المعرفة) والوجود (الميتافيزيقا).

عند هيجل، العقل يحكم العالم أو هو “موجود في العالم”[6]. ثم يشرح ذلك قائلاً: “العقل روح العالم فهو حالُّ فيه وهو مبدؤه الكامن المحايث وهو طبيعته الداخلية، وهو الكلي فيه”[7]. وكان القدماء مثل إنسكاجوراس وغيره يسمونه الناوس (Nous). وهذه نتيجة كما أسلفنا للتخلص من مفهوم الشيء في ذاته؛ فبدونه يصبح كل ما هنالك عقلياً. فالواقعي عقلي والعقلي واقعي. لكن دعونا نتوقف قليلا عند قوله: “وهو الكلي فيه”. هيجل يرى أن في العالم الحسي أشياء فردية وجزئية مثل هذه الشجرة وهذا المنزل. ولكننا عندما ندرك هذه الجزئيات ندركها كشواهد فردية على ماهية كلية: الشجرية والمنزلية. ولو لم تكن لدينا تلك الماهية لما استطعنا إدراك الجزئي. ويشدد هيجل على أن الماهية الكلية (النوع) ليس ناتجا عن نشاط استقرائي، أي: “النوع هو أكثر من مجرد العنصر المشترك بين الجزئيات”، فالنوع باقٍ حتى لو فنت الجزئيات من الوجود.

في البدء كان العقل. العقل يضمر في داخله تناقضات. والتناقض هو جوهر كل شيء. وهو الوقود الذي يحرك التطور الجدلي للكائنات. فالعقل يضمر في داخله ما ليس عقلاً. فلكي يعرف العقل أنه عقل، أي لكي يعي ذاته يجب أن يعي حدوده. وتأمل العقل في نفسه موضوع يدرسه علم المنطق. ويسميه هيجل بعلم الفكرة في ذاتها ولذاتها [8]. وأول المقولات التي يواجهها علم المنطق هي “الوجود”. فالشيء الكلي والذي يضم إليه كل الموجودات هو الوجود. الكلي الذي يشترك فيه الإنسان مع الإنسان هو أنه حيوان عاقل، والكلي الذي يشترك فيه الإنسان مع الحيوان هو أنهما (حيوان= كائن حي)، والكلي الذي يشترك في الكائن الحي والكائن غير الحي هو أنهما أشياء مادية، والكلي الذي يشترك فيه الشيء المادي مع الشيء غير المادي هو أنهما موجودان. فالوجود هو أعلى مقولة تجمع كل شيء. فإذا نظرنا إليه بوصفها كذلك لوجدنا أنها فارغة من كل تعيين. وفراغها هنا يجعلها “عدماً”. وهكذا يتم الانتقال من مقولة الوجود إلى مقولة العدم. والانتقال المتردد بين المقولتين ينتج لنا مقولة ثالثة (المركب) وهي مقولة الصيرورة أو التغير. هنا يبدأ المنطق الديالكتيكي في مسيرته البانورامية.

بعد أن يتأمل العقل ذاته في علم المنطق يبدأ في إدراك أنه هناك “آخر” وهو اللا-عقل أو “الطبيعة” وكان شلنج يرى أنها “عقل أصيب بالتحجر”. ومن هنا يتوقف علم المنطق وتتولى فلسفة الطبيعة دراسة “علم الفكرة في آخرها”[9]. العقل في هذه المرحلة يدخل حالة الاغتراب alienation . فهو الآن ليس ذاته بل آخره. والطبيعة ههنا لا يراد بها الأشياء المادية بل فكرتنا عن الطبيعة والقوانين التي تحكم الأشياء، فهي قوانين كلية وأي كلي هو عقلي. إذا العقل لم يغترب في واقع الأمر بل صادف نفسه في هيئة أخرى. وهكذا فالاستنباط الموجود في علم المنطق يستمر في فلسفة الطبيعة؛ لأنه استنباط فكرة من فكرة وليس شيئا من فكرة[10].

العقل يذوب في اللاعقل. لكنه سيعود من هذا الاغتراب. والعودة إلى ذاته ليست عودة مباشرة بل إن العقل في مغامرته الطبيعية أصبح مثمرا. هكذا يعود العقل إلى ذاته بشكل أكثر تطورا وهذه العودة تدرسها فلسفة الروح وهي “علم الفكرة وقد عادت إلى ذاتها من ذلك الآخر”[11]. العقل هنا يتجلى في صورة الوعي الفينومينولوجي وعلم النفس والسياسة والدين والفلسفة.


[1] Cf. e.g., Locke, An Essay Concerning Human Understanding, p. 25)

[2]جوليان فروند، نظريات العلوم الإنسانية، ص ٢٤

[3] نقلا عن عبد الرحمن بدوي، موسوعة الفلسفة :٢/١٤١

[4]Fichte, The Science of Knowledge, p. 93

[5] Spinoza, The Complete Works, p. 892

 هيجل، موسوعة العلوم الفلسفية، المجلد الأول، ترجمة إمام عبد الفتاح إمام، فقرة ٢٤[6]

[7] نفسه.

[8]الموسوعة، فقرة ١٨

[9]  نفسه، فقرة ١٨

[10]  ولتر ستيس، هيجل، المجلد الأول، ص٣٠١-٣٠٢

[11] الموسوعة، فقرة ١٨

مصدر الصورة:https://2u.pw/4akvc

العدد الخامس عشر بعد المئة ثقافة وفكر فلسفة

عن الكاتب

شايع الوقيان