أزمة الخليج والأخلاق

كتب بواسطة سعود الزدجالي

يهدف هذا المقال إلى قراءة الأزمة الخليجية قراءة إنسانية وفلسفية بعيدا عن التحليلات السياسية المعتادة، ويرى كاتب المقال أن للثروات الخليجية متمثلة في النفط وإدارتها دورا في صناعة الأزمة؛ من حيث إنها الدافع الأساسي في البحث عن الفرص السياسية والمكانة والمضاربات وصناعة الثقافة الاستهلاكية وتسليع الرفاهية، وعليه فإننا سنقف في المقال على جوانب نعتقد بأهميتها وهي: بدايات الأزمة والأسباب الظاهرة وراءها؛ اعتمادا على مصادر المعلومات المتوفرة، وظاهرة الإرهاب وأخلاق الدولة بوصفها ضميرا اعتباريا تجاه المجتمع الدولي والمواثيق وسيادة الدول؛ وشرعية التصرف إزاء الدولة التي تخرق الضمير السياسي؛ والمجتمعات الخليجية من حيث هي أفراد تمتلك المسؤولية الأخلاقية ومسائل اللاشعور الجمعي؛ لذا يبدأ المقال بأسئلة منها: ما الأسباب الجوهرية وراء الشقاق الخليجي؟ وما علاقة التصرفات بالضمير الأخلاقي لهذه الدول إزاء الأسباب وفقا للمزاعم الظاهرة؟ وكيف يمكن تنظيم الفصل والوصل بين الأخلاق في أحاديتها الفردية أمام السمة التبادلية للسياسة ونفعيتها؟

في الخامس من حَزيران (2017) طرح مقال على موقع الـ(BBC) يضع أربعة أسباب وراء الأزمة الخليجية أو ارتفاع حدتها، ولعل أبرز هذه الأسباب تأييد قطر للإسلاميين، مما فتح أمامهم تحقيق المكاسب السياسية في بعض الدول ومن بينها مصر، فقطر أتاحت الحماية اللازمة – بحسب المقال – لكثير من أعضاء جماعة الإخوان، ومن ثَمّ اتهمت بأنها تتبنى مختلف الجماعات الإرهابية والطائفية التي تهدف إلى زعزعة الأمن والاستقرار في المنطقة، ولعل الموقف من إيران يعد من الأسباب المزعومة التي أدت إلى تفاقم الأزمة والشقاق أيضا، علاوة على اتهام قطر بأنها داعمة للجماعات الإرهابية ضد الشرعية في ليبيا بالذات، وكل ذلك كان مادة جيدة لصناعة حرب باردة بين الأشقاء وارتفاع في التوتر الذي بلغ إلى مستويات حادة مثل قطع العلاقات الدبلوماسية وإغلاق الحدود والمجال الجوي بين قطر والدول المتحالفة (السعودية، الإمارات، البحرين، مصر)[1].

ونلاحظ أن المسألة برمتها ترتبط بالتحيزات السياسية، والتدخل في شؤون الآخرين لصناعة المكانة المرموقة في سياق المضاربات السياسية، وترجمت هذه “التحيزات” بمصطلح “الإرهاب”؛ كما نلاحظ أن هذه الحالة السياسية قد ظهرت على السطح بعد ظاهرة الربيع العربي وزعزعة المصالح السياسية والاقتصادية؛ من حيث إن الثورة أو الحركة الديمقراطية في المجتمعات الأخرى قد يؤثر في رغبة الإنسان وطموحه في مجتمعاتنا الخليجية، كما أن المسألة ترتبط ارتباطا وثيقا بمصطلح “السيادة التامة” وأخلاق الدولة السياسية؛ فالدول هي أفراد في المجتمع الدولي تأتلف وفقا للمواثيق والعهود، وحتى تستمر سيادة الدولة فإنها تلزم المسؤولية الأخلاقية التبادلية – وهي سمة جوهرية للسياسة – تجاه الدولة الأخرى وسيادتها واستقلالها، من حيث إن مخالفة القانون هي مخالفة لضمير الدولة الأخلاقي واهتزاز لكيانها، وتهديد لوجودها، فالتصرف إزاء الآخر ينعكس على الذات متمثلة في الدولة صاحبة التصرف، وهو أمر كان على دول الخليج أن تدركه في سياق انفجار الثروات وبناء الدول الحديثة حتى لا تبدد خارج مسارات التنمية والبناء؛ وعليه فإن حرية الدولة ذات السيادة التامة بوصفها كائنا فردا لا تتحقق إلا باحترام حريات الدول الأخرى وشأنها الداخلي مما ينبئ بإشكال سياسي وأخلاقي لا بد من استيعابه احتراما لاستقرار الدول وأمن شعوبها.

على أننا يجب أن نستعيد السمة الأساسية في تمييز الأخلاق عن السياسة؛ لفهم الظاهرة، فالسياق الذي طرحنا فيه مصطلح “أخلاق الدولة” هو سياق علاقة الدولة ببنات جنسها من الدول الأخرى في المجتمع الدولي؛ فلا يعني المساواة بين مطلقية الأخلاق ونسبية السياسة بقدر ما يعني الاستعارة والاتساع، ولكن التوظيف التداولي يظل في سياق السياسة؛ فـ”طابع التبادلية هو الذي يميز السياسة عن الأخلاق، فحين ينشئ القانون لأحد طرفي العلاقة حقا في مواجهة الطرف الآخر؛ فأنه ينشئ في ذمة الطرف الآخر واجبا لمصلحة الطرف الأول يقابل ما له من حق”[2]؛ واستيعاب هذا الطابع ضروري لفهم منظومات المواطنة في دول الخليج؛ ولإنقاذ المصطلح من عوالق الشعبوية التي تنتج المزيج المشوه مفرزة ممارسات غريبة، وهذا يفتح لنا باب الأسئلة حول الخطابات الموظفة في حقل التداول الخليجي في هذه الأزمة وغيرها؛ عندما تسلب الفرد ضميره الأخلاقي وحريته في سبيل تكوين فهمه ورأيه حول المواقف بعيدا عن تلونات السلطة وأروقة المصالح والقمع للحريات؛ فيظل الفرد تابعا للسلطة مهما كانت ممارساتها سواء أفهمها المواطن الخليجي أم لم يفهمها فإنه يقع عرضة المهاترات والدفاع عن السلطة إلى درجة التناقض.

يرتبط الجزء الثاني من المقال بشرعية التصرف إزاء الدولة التي يعتقد أنها خالفت ضميرها الحر؛ بظهور أُزعومة تأييد الإرهاب والكتل الطائفية في الدول الأخرى ذات السيادة التامة، وهي مسألة نعتقد بأهميتها من حيث درجة شرعية التصرف إزاء الدولة المخالفة كما اعتقدت بقية دول الخليج؛ كما أنها تحيل على أسئلة بشأن نقاء بقية الدول إزاء مسألة الإرهاب وملفات الربيع العربي، انطلاقا من طابع التبادلية؛ فالدولة التي تتهم غيرها بالتصرف الإرهابي عليها أن تكون محايدة وبعيدة عن تحريك ملفات أو أجندات في الدول الأخرى من شأنها أن تمس السيادة التامة فيها، وهي في تصرفها إزاء الدولة المتهمة؛ فإن عليها أن تلتزم القانون وشرعية فرض العقوبات، كما أن الدولة المتهَمة عليها أن تراجع كل ملفاتها بشأن الدول الخرى؛ لأن ذلك يمس أمنها وأمن شعوب المنطقة.

ولكن الأمر الأهم في سياق سيرورات الأزمة الخليجية، وانتهائها بالمصالحة وعودة العلاقات إثر تغير الرئاسة الأمريكية – كما نعتقد – هو موقف الشعوب الخليجية من بعضها، وتصرف الفرد الخليجي من حيث هو مواطن خليجي في منظومة الحقوق والواجبات، ويمتلك المسؤولية الأخلاقية تجاه الفعل الأخلاقي الذاتي الذي يختلف عن الفعل السياسي من حيث هو “إنسان”؛ لأنه أشد أصالة في الذات الإنسانية، وأعتقد أن تصرف الفرد الخليجي لم يكن بعيدا عن المتخيل التاريخي والاجتماعي للإنسان في المنطقة؛ إذ كانت التصرفات الصادرة حيال الأزمة – سواء أكانت من الطبقات المثقفة أم من غيرها – نابعة من أن الشرط الأساسي لوجود الإنسان هو درجة تبعيته للسلطة وانمحائه فيها؛ فإذا تغير موقف الدولة من الطرف إلى نقيضه فُرِّغ فعل الفرد من قيمته الفعلية بسبب غياب القيمة الأخلاقية أصلا من هذا الفعل الصادر من إكراهات سياسية واجتماعية وتاريخية؛ فتحول الموقف الأخلاقي إلى مهاترات شعبوية بلغت درجة عالية من الإسفاف من الناحيتين: الأخلاقية والقانونية؛ جعلت من المثقف الخليجي والكاتب الخليجي ورجل الدين الخليجي وإنسان الشارع بمثابة اللاشيء إزاء تقلبات السياسة ونفعياتها.

وعندما نعود إلى جدلية هذه التبعية المقيتة التي تلغي قيمة الإنسان الوجودية نجد أنها لا تلغي الفرد في ذاته فحسب؛ وإنما تلغي “المجتمع الأخلاقي”، ومرد ذلك إلى غياب الديمقراطية الحقيقية في هذه المجتمعات التي تجعل قيمة الإنسان في استهلاكه المادي والثقافي، وإلى الخلط بين الأخلاق ومجالها، والسياسة في نفعيتها وطابعها التبادلي في مجالها المختلف؛ لذا نجد القرآن يضع العدالة متسمة بالقيمة الجوهرية بعيدا عن السمة التبادلية حتى في التعامل مع الخصم: “يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَىٰ أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ ۚ إِن يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَىٰ بِهِمَا ۖ فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَىٰ أَن تَعْدِلُوا ۚ وَإِن تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا”؛ فالإنسان الخليجي ينسى النصَّ القرآني في مسألة درجات التبعية للسلطة؛ فيضع الأخلاق المطلقة في سياق السياسة النفعية فيتجرد ليكون بوقا للسلطة تجاه خصمها ويلغي عقله وضميره وإنسانيته ويبرر الفعل ونقيضه؛ ولعل هذا التكوين الثقافي والعقلي في المجتمع الخليجي بسبب إلغاء طابع التبادلية في السياسة والمواطنة؛ فعلاقة الحاكم بشعبه ليست نظرة أخلاقية تسير في اتجاه واحد من الحاكم إلى “الرعية”، ولكنها يجب أن تكون علاقة الحقوق والواجبات والشرعية السياسية، بينما فعل الفرد الخليجي ورأيه يندرج تحت المسؤولية الأخلاقية المطلقة، وهنا نستعيد موقف الخديوي توفيق في ميدان عابدين من ثورة أحمد عرابي عندما قال له: “أنتم عبيد إحساناتنا”[3]، وهذا بذاته ملحوظ في السياق الخليجي فما زالت النظرة الأبوية الحانية هي التي تحرك علاقة السلطة بالمجتمعات وتبعيتها لها؛ مما يجعل الفرد الخليجي، والمثقف الخليجي، ورجل الدين الخليجي يواجه أزمة أخلاقية بشأن تبعيتها ومهاتراتها في ظل الأزمة وبعد المصالحة الخليجية؛ فلا وجود لمساحة منطقية يستطيع من خلالها أن يبرر فعله اللامسؤول.


[1] أربعة أسباب وراء توتر علاقات قطر مع جيرانها، BBC ، (5 يونيو، 2017)

[2] إمام عبدالفتاح إمام، الأخلاق والسياسة: دراسة في فلسفة الحكم، القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، 2001، ص. 83

[3] إمام عبدالفتاح إمام، الأخلاق والسياسة، ص. 83- 84

مصدر الصورة: https://2u.pw/ScoW9

العدد الخامس عشر بعد المئة سياسة

عن الكاتب

سعود الزدجالي