الحرب هي الحرب مهما تعددت وسائلها وغاياتها وطرقها، يبقى الخاسر والمغيَّب الأوَّل فيها وبشكل مؤسف هو الإنسان الذي لا يخسر حياته فحسب، بل وإنسانيته أيضاً، هذا ما أظهرته رواية (المرأتان) للروائي (ألبرتو مورافيا) والتي ترصد أجواء الحرب التي دارت على الأرض الإيطالية.
تسير الرواية وفق خط بسيط بعيد عن تشابك الأحداث والشخصيات والمفاصل.. لترصد بشكل رئيس سير حياة أم وابنتها (روزيتا) في خضمِّ الحرب، نجد أن الأمَّ التي كانت تعمل في متجرها شرَّدتها الحرب وابنتها بعدما جمعت المال الكثير، وتركت نفسها دون مؤن لتلاقي المعاناة والضياع والحوادث المؤسفة.
ترصد الرواية حياة النازحين، كيف يعيشون في بيوت تشبه الزرائب، يأكلون خلسة، يشترون المواد الغذائيَّة بأسعار باهظة، ينامون على أسرَّة من أوراق الذرة القاسية، يلبسون أثواباً بالية، وأحذية مهترئة.
وللإشاعات جانب مهم في سير الأحداث، وكأي إشاعة يعقد الملهوف عليها الكثير من المخاوف أو الآمال حسب نوع الإشاعة، فتختلف وجهات النظر في التحكيم، فمن هو معنا، ومن هو ضدنا؟ الإنكليز هم المنقذون، ولكن عندما بدأت مدفعيتهم تضرب النازحين، أصبح الإنكليز أعداء.
لم تمنع بشاعة الحرب وقسوتها الأم من لفت نظرها إلى جمال طبيعة الجبال الإيطالية، وكأنها في تلك المنطقة بالذات لا حرب فيها أبداً: “عندما بلغنا القمة حيث انتهى الممر، وجدنا أنفسنا أمام قطعة مستوية من الأرض، تدهشك صخورها المغطاة بحشائش خضراء ناعمة، تجمَّعت على شكل دائرة، وبينها تناثرت حجارة بيضاء لامعة، وفي الوسط بئر ماء حفرته الطبيعة…”ص174
كما أن الأم كانت معجبة جداً بجمال (روزيتا) تتغنى بها، وتستمتع بمنظرها، وهي تستحم بالمياه الشديدة البرودة، فتحمد الله على نقاء نفسها وإيمانها الطيِّب.
هل تجيز الحرب للإنسان أن يفعل ما يشاء؟ هل تبرر له وحشيته أمام خلق الله؟ وهل من المعقول أن تباد الناس بطرق شنيعة، ويسمَّى هذا انتصاراً؟ الضابط الألماني يفتخر بعمله البطولي:” كنت أودُّ لو سألته كيف يستطيع تبرير حقيقة كون هذا النازي قد استمتع بإحراق عدد من البشر أحياء في المغارة، ثم يتحدَّث عن العدالة وأبعادها في إيطاليا…” ص207
الغارات الجويَّة بما تحمل من عنف وعشوائية لتطال الحجر والإنسان تظهر جليَّة في الكثير من مفاصل الرواية لتؤكِّد فكرة الحرب المدمِّرة التي لا تحسب للنفس البشريَّة أي حساب، ها هي الغريزة البشرية لحب الحياة تبحث عن الأمان في قن الدجاج، تبحث عن مكان تختبئ فيه لتتقي القتل بالقنابل والرصاص: “هو كهف صغير له مدخل واطئ، كان الفلاحون يستخدمونه قناً للدجاج… وسمعنا نقيق الدجاج وقد فزعت لدخولنا عليها، وكان الكهف قليل الارتفاع، بحيث لا نتمكَّن من الانتصاب على قدمينا للوقوف فيه، لذا انبطحنا جنباً إلى جنب فوق زروق الدجاج، لتزيد ثيابنا قذارة على قذارة. أما الدجاجات فقد استعادت شجاعتها، وأخذت تسير على ظهورنا، ولا تتورَّع عن العبث بشعرنا. وتتابعت الانفجارات..”ص233
كيف حوَّلت الحرب (روزيتا) من فتاة بريئة طاهرة مؤمنة إلى فتاة مومس لا مبالية؟! كانت تصلي، وتطلب من العذراء أن تحميها، كما أنها مطيعة جداً لأمها، قليلة الكلام، سمحة، لطيفة، جميلة، طفوليَّة.. كيف لهذه الحرب العنيفة أن تمدَّ أصابعها الشيطانية إليها لتخطف منها عفَّتها وإيمانها واحترامها لذاتها وترمي بها في عالم اللا إنسانية، وهل يمكن للنفس التي انقلبت نحو الضياع أن تعود كما كانت؟
عندما تعرَّضت (روزيتا) إلى حادثة الاغتصاب، انطلقت إلى النهر لتغتسل، تظهر هنا الأم، وهي تراقبها عن بعد خلسة متمنِّية أن تغتسل ابنتها ليس من آثار الدماء بل من آلام السقوط الإنساني، لتعود فتاتها كما كانت نقيَّة بريئة: “رأيتها تتحرَّك بجهد، وهي تقفز من صخرة إلى أخرى كيلا تبلل قدميها، إنني لا أستطيع أن أقول من الطريقة التي كانت تمشي بها: إنها لم تذهب إلى الوادي بدافع اليأس، وتوقَّفت عند نقطة ضاق عندها الجدول، وازداد عمقاً، انحنت إلى الأمام، ووضعت وجهها على سطح الماء، وشربت، ثم وقفت مرَّة أخرى، ونظرت إلى جسمها، ثم رفعت ثيابها إلى أعلى فخذيها، وظننت أنني استطعت أن أرى خطَّ الدم، وقد تجمَّد فأضحى أسود قاتماً، ثم رأيتها تغتسل مغترفة الماء بكفها، وملقية به على فخذيها، وكانت تنظر إلى ناحية واحدة غير عابئة بمحاسنها التي ظهرت، وكأنها تريد أن تغسل عارها، وتشهد الشمس على أنها غسلته…”ص273
(ميشيل) الشاب اللطيف المنفتح على الحياة المثقَّف، والذي أنقذ من حوله عدَّة مرَّات بحسن تصرفاته، يقع ضحيَّة لعدد من جنود الألمان، حيث يساق ليدلَّهم على الطريق ومن ثم يُقتل، هذا الشاب كان بمثابة الرئة للأم وابنتها (روزيتا)، لكن عندما سمعت (روزيتا) بمقتله استغربت الأم من عدم تأثر ابنتها بالخبر، كما أنها لم تذرف دمعة واحدة عليه، هذا حدث بعدما وقعت (روزيتا) في حادثة الاغتصاب من قبل جنديين من المعتدين، ولكن أين وقعت حادثة الاغتصاب؟ إنها جرت في الكنيسة قرب المذبح وأمام صورة العذراء، (روزيتا) كانت دائماً تطلب الحماية من العذراء في الكثير من حالات القصف والانفجارات والتشرُّد والضياع، وكانت السيدة العذراء تلبي رغباتها وتحميها، لكنَّها الآن في هذا الموقف الحرج، وأمام صورة العذراء وقع ما وقع، إذاً السيدة العذراء هذه المرَّة تخلَّت عنها أمام عينيها حسب رؤيتها، فلم تهمَّ لنجدتها، وتركتها وحدها تصارع وحشين من صنف البشر.
ترصد الرواية حالة احتكار السلع المتنوِّعة من أغذية وأقمشة وغير ذلك، وما الحادث الذي وقع ل (سيفرينو) إلا حالة من عشرات الحالات التي وقع فيها الناس، فقد سرقه جيرانه، نهبوا كل محل الأقمشة، فما كان منه إلا الاستعانة بجندي ألماني، لقد وثق به (سيفرينو) فأخذه إلى مكان المخزن، ودلَّه على الفاعلين، لكن الألماني استعاد جميع الأقمشة، ووضعها في سيارة خاصة، وفي الطريق سلَّم (سيفرينو) إلى الجبهة ليعمل في بناء التحصينات.
كما وقعت حالة مشابهة تقريباً لـ (فيليب) الذي نُهبت محتويات متجره بالكامل، مما أودى به إلى حمل السكين على من أخبره بهذه الكارثة.
تكشف الرواية عن حالة الضياع بل الجنون التي تصل بالناس لما يصادفهم من حوادث مفجعة، فتلك الفتاة المجنونة (لينا) التي تُخرج ثديها أمام الناس، هي ضحيَّة أحد الجنود حين اغتصبها فحملت منه، وأنجبت طفلاً، وهي لا تكفُّ عن الحديث عنه:” وسألته: ولكن أين طفلها؟ فقال: إنه عند أهلها الذين يقومون على تربيته بعناية، ولكن المسكينة تعتقد بأنهم سيأخذونه منها لأن ثديها جاف لا حليب فيه لإطعامه..”ص198
تمتاز الرواية في امتلاكها قدرة فائقة على جذب القارئ إلى متابعتها دون ملل، فهذه الجاذبيَّة تضعها في صف الروايات الممتعة بل لنقل الروايات التي تستحوذ على قلب المتلقي وعقله، بلا شك.
الرواية يتدافع فيها الألم والحزن والخيبة والدمار النفسي والمعنوي، فلا ترصد تفاصيل الطبيعة الجغرافية فحسب، وإنما تتعدى ذلك لتلتقط اختلاجات وتفاصيل الطبيعة البشريَّة، مظهرة الإنسان الحي الميِّت في لحظات محرجة أمام مهب الخوف والقلق والخيبة لترمي به في خضم الضياع.
تنتهي الرواية باتجاه الأم وابنتها إلى (روما) هذه المدينة هي موطنهما الأصلي، خرجتا منها على أمل العودة إليها عندما تنتهي الحرب، وقد أبرمت الأم عقداً مع صديق لها بتأمينه على ممتلكات البيت، فماذا حدث في (روما) وما مصير المنزل المتروك؟ وماذا حلَّ بالصديق؟ هذه أسئلة ظلت الرواية مفتوحة عليها، ربَّما لتترك للقارئ فكرة العبث التوقعي لما سيحدث لاحقاً.
إن الحرب وإن انتهت فلا بدَّ من أنها ستنشب أظافرها في يوم ما، ما دام هناك فئات من الناس يفكِّرون بمنطق المصالح الدوليَّة على حساب الشعوب بغضِّ النظر عن مصير الإنسان، فليس مهمَّاً إن عاش أو مات، المهم لديهم الوصول إلى غاياتهم، مهما كلَّف الثمن.
مصدر الصورة: https://cutt.ly/nkBXu1w