في رواية أسامينا للروائية العمانية هدى حمد الصادرة عن دار الآداب بيروت 2019 عدد بارز من المقومات الجمالية التي تؤكد أننا أمام صوت روائي على قدر كبير من الأهمية والخصوصية والثراء، وأننا أمام تركيبة سردية على قدر كبير من الإحكام والتكثيف والشعرية. الحقيقة هي رواية تستمد خصوصيتها من خصوصية هذه الحكاية التي تعمل على توظيف مقومات محلية فيها قدر كبير من الغرائبية والأسطورة والتراث الشعبي وخصوصية البيئة العمانية، وخصوصية الموقف الثقافي والحضاري وكذلك العادات والتقاليد.
هذه الرواية النفسية بامتياز تشتغل على مقاربة نماذج إنسانية مركبة وليس فيها أدنى شيء من الافتعال حتى تكون على هذه الغرابة أو المغايرة للسائد، برغم أن الشخصيات تبدو في أقصى درجات المأساوية لكنها تصبح ابنة بيئتها ونتاج مقومات طبيعية حاضرة في الثقافة العمانية أو العربية إجمالا، وهكذا فإن هذه المأساوية والمصير الغرائبي لهذه الأسرة الصغيرة ليس مفتعلا أو مصنوعا، بل يصبح جزءا من الإطار العام للثقافة أو البيئة جزءا من لوحة أكمل وأكبر ليس غريبا أن تنتج هذه المأساوية لهذه الأسرة.
وضعية المرأة في الثقافة العربية ووضعية الأب والنموذج الطليعي في فترة الستينيات وما بعدها بقليل كلها من العوامل التي يمكن أن تصادف وتنتج هذه الحالة الغريبة. الثقافة العربية ابنة الغيبيات والخوف الشديد من الماورائيات وغياب المنطق أو العقلانية العلمية بدرجة كبيرة وبخاصة في العقود السابقة، قد تفرز بشكل طبيعي هذا النموذج الذي يخسر بشكل طبيعي مواليد كثيرة لا يكون من حظهم العيش أو يموتون صغارا، وذلك نتاجا طبيعيا لتدني الخدمات الطبيعة أو انتشار ثقافة التداوي الشعبي، لكن الأمر يتحول مع الوقت إلى نوع من الشعور باللعنة التي تجعل المصير غريبا أو غرائبيا على نحو ما ويعزز الأمر اقتناع الشخصيات بالإحساس بهذه اللعنة أو الإيمان بها.
تتوافر بنية الحكاية في هذه الرواية على عدد من الفواعل والعوامل التي تجعل منها تركيبة متكاملة، فنجد أن البيئة لها دورها الفاعل في الشخصيات كما أن خصوصية وضع الأب وحالة الأم يجعل منهما نموذجين على قدر كبير من المغايرة، ذلك لأن لكل منهما الجذور التي أسهمت ولو بشكل مباشر في تنامي هذا الطابع المأساوي والوصول بنعومة وتدرج إلى هذه الذروة التي تتمثل في انتحار بطلة الرواية. الأم هي الجوهر والأصل والابنة تكرار لها بالأساس أو نوع من التصادي الإنساني الذي يحدث كنوع من تكرارات الطبيعة أو وفقا لقوانينها، الأم التي لم يعش غيرها من بين لإخوتها لأنها تبدو حاملة لتعويذة أو لعنة ما أو سبب ميتافيزيقي لا يمكن إدراكه ورثت لابنتها كما لو أنه شيء مع الدماء والجينات هذه اللعنة دون غيرها من الإخوة الآخرين.
ولا تبدو الذهنية المنتجة للرواية محاصرة في العناصر الرئيسة للحكاية بل تخرج منها إلى عناصر تصنع إطارا وفضاء اجتماعيا وثقافيا متجانسا. ذلك لأن شخصيات مثل العمة ذات الفص أو الخالة صاحبة القطط أو الفتاة الممتنة كلها عناصر تسهم في بلورة التكوين النفسي للشخصية الرئيسة على نحو أمثل وتجعلها أكثر وضوحا كما أنها تصبح محددات بيئية وثقافية تؤدي دور التأطير الاجتماعي المتناغم، فالخالة صاحبة القطط تبدو بدرجة ما تكرارا لأزمة العلاقة بين الرجل والمرأة وأزمة الإنجاب، ضحية من نوع آخر لهذه الثقافة التي لا تفعل شيئا لأجله هو بل لشيء آخر، فكأن دور الزواج محصور في الإنجاب ولا شيء اسمه الحب أو على الأقل الألفة، والناس دائما يتدخلون في شئون بعضهم في انعكاس للثقافة العربية التي ينشغل الجميع فيها ببعضهم، فأزمة هذه الشخصية في مسقط العاصمة برغم تكيفها بوضعية خاصة ومختلفة تذكر وتحيل ذهنية القارئ على بداية أزمة الأب والأم في بلدتهم مع زوجات الإخوة وتطفلهم وأهل القرية في سيح الحيول، وهكذا تبدو شخصيات الرواية وأحداثها نسيجا متناغما من بداية الخطاب لنهايته، كما أن بعض الشخصيات تبدو تنويعا لبعضها من الناحية الجوهرية وإن بكيفيات مختلفة من حيث المظهر. الابنة تصادي وتكرار ونغمة مكررة من الأم وإن بصورة جديدة من حيث الشكل والمظهر والمرأة صاحبة القطط تكرار لمرحلة من مراحل الأم، والعمة ذات الفص فيها شيء من الأم أو العكس، والفتاة الممتنة مرآة معكوسة للبطلة، فهي تلبس ملابسها وتكاد تميز رائحة كل فرد في العائلة وهي على النقيض تماما من حيث المصير، فإن كانت قد تحولت إلى مسار مناقض وتكوين نفسي مختلف تماما لأنها مشبعة بالرضا والاندفاع نحو الحياة والإنجاب والاستقرار، فهي في الأساس عبر علامات معينة تم تكريسها بوصفها الشبح المعكوس للبطلة، ومثلما هو معروف في علم الفضاء بنظرية الأكوان الموازية فإن هذه الفتاة الممتنة تبدو الكون الموازي للبطلة التي وإن توافرت لها كافة الأسباب المادية للسعادة لم تعرفها على وجه الحقيقة وظلت ناقمة وبحاجة إلى أصحابها ورفقتها المتخيلين والتعويض عن نقصها وبخاصة ما تسببت فيه الأم. وهكذا فإن هذا التصادي الإنساني والتكرار وفق نسق معين يعتمد على المشابهة بدرجة ثم المغايرة بدرجة أخرى يجعل الرواية نهرا متدفقا من المصائر المتكاملة والمتناغمة وفي عالم تأتي انزياحاته على حساب بعضها، وحركية الشخصيات يتأثر بعضها ببعض على نحو عال من الحساسية التي انعكست لدى المخيلة الروائية بتمثلات كثيرة في جزئيات عديدة من بنية الحكاية أو التخييل السردي.
على سبيل المثال فيما يخص هذه الحركية والتشابه والتناغم في التركيبة نجد أن الأب بطيبته وطليعيته يكون سببا في الاسم الذي يجدد اللعنة أو يطلق ماردها من القمقم، وتصبح الأم المهملة بلا تسمية ومحفوظة من الموت امرأة منكوبة في غيرها وبائسة في مصيرها على نحو يستولد أقصى درجات التعاطف والانحياز والأسى لدى المتلقي. ولكن الطريف أو الجميل في السرد أنه يستولد هذه المأسي من رحم السعاد والحس الطليعي والإحساس الجمالي، فتتحول السينما المصرية بأفلامها وشخصياتها وبخاصة سعاد حسني بسحرها هي المجدد للعنة بشكل غرائبي. وهكذا فإنه من قمة السعادة بين الزوج والزوجة تتحول الحياة وتتبدل تماما ولا يبدو أن هناك شيئا غريبا، ذلك لأن علاقة الأب بالأفلام المصرية وكونه كان مفتنونا بسعاد حسني يتسبب في اختلافه عن بقية إخوته وبالطبع اختلاف زوجته عن زوجاتهم، وهكذا يتحول إلى مكان آخر وإلى شخصية جديدة وهي العمة ذات الفصل، وهي نموذج إنساني خاص يسهم بدرجة كبيرة في ثراء الرواية ذلك لأنها تأخذ هذا الامتداد الميتافيزيقي والأقرب للأسطوري في بنية الحكاية وتحيل على جوهر أزمة الأم، فهي امرأة تبدو مدعومة بقوة خارقة غيبية، ونوع خاص من الحكمة وتقدر على ما لا يقدر عليه غيرها من الرجال والنساء في الطب والزرع، ثم يأتي موتها الدراماتيكي بأفعى يطيل الخطاب الروائي في وصفها بما يفتح نوافذ أكثر للأسطورة ذلك لأن الأفعى لها وضع خاص في الأساطير والأديان القديمة. وهكذا نجد أن الرواية قد اشتغلت على توظيف كافة العلامات الخاصة بالمكان والبيئة ومزجتها بالشخصيات أو مزجت الشخصيات بها على نحو يجعلنا في المجمل أمام لوحة حياتية متكاملة ومتنغمة القسمات والملامح وأمام عالم روائي يدفع بعضه بعضا إلى الذروة.
من الناحية البنائية أو الشكلية لخطاب رواية أسامينا نجدنا أمام عدد من السمات والألعاب السردية التي تجعل الرواية أكثر ثراء وخطابها السردي يستغل كافة عناصر الحكاية في إنتاج جمالياته، ليجتاز بمهارة مرحلة العبور من الحكاية إلى الخطاب، ولا تكون هناك أدنى فجوة، وليكون التكامل في الحكاية وثراء عالمها حاضرا بكل جمالياته وأكثر في الخطاب السردي الذي جاء على أعلى درجة من التكثيف واللغة الشعرية والتركيز على مقولات بعينها يتم بلورتها لأنها تحدد علاقات الشخصيات ببعضها أو لأنها تحدد حكم الأثر في تناطح وتدافع هذه الشخصيات التي تشبه الكواكب أو الأكوان المتصادمة والمتدافعة، ونجد أن التكثيف الكبير والتبئير الداخلي تناسب مع طبيعة الرواية من حيث كونها خطاب نفساني بامتياز يقوم على مقاربة التحولات الداخلية وتنامي العقد والأزمات النفسية بين أطراف يفترض أن ما بينها هو الحب والعاطفة وليس كل هذا التنافر والكراهية وهذه هي المفارقة المركزية في خطاب الرواية وقد أجاد في التكريس لها وخلق حالة من الكثافة الشعورية في الرواية بناء عليها، أو تأسيسا على تلك المفارقة في العلاقة بين الابنة وأمها وهو ما يؤدي إلى الذروة التي هي فعل الانتحار.
على أن خطاب الرواية قد أجاد كذلك كل الإجاد وفق حساسية خاصة بفن الرواية، حين وظف هذه الذروة المتمثلة في الحوار واتخذ منه وضعية سردية معينة أنتجت أكبر كم من التشويق، لأن البدء بالانتحار وفق الكيفية أو المسار السردي الذي تجسد في خطاب الرواية جعلنا أمام لغز تمضي الرواية نحو حله أو كشفه أو إزالة غموضه ولبسه، فتاة تقطع مسافة كبيرة وتعود إلى البئر ذاتها في منطقة غير التي تسكن فيها في العاصمة لتنتحر كلها من الأشياء التي تم استغلالها أو توظيفها في بداية الرواية لتكون عوامل تشويق وأسئلة يعمل السرد على إزالتها أو الإجابة عنها تدريجيا بعد ذلك في حكاية طويلة ومتطورة عبر الزمن ولكنها تأتي في غاية التكثيف والتركيز على العناصر المباشرة والمهمة دون أدنى فرصة لاستطرادات مجانية أو مجرد حشو.
هذه الرواية النفسية أو ذات الطابع النفسي والاشتغال على مساحات كبيرة من التكوين النفسي للشخصيات وعلاقاتهم ببعضهم أو علاقاتهم بذواتهم وعوالم هي واحد من أبرع الروايات التي تقدم درسا في كيفية تمثل التكوينات والانعكاسات النفسية لعالم الشخصيات في أحداث وتمثلات مادية ولا أن تكون الأحوال النفسية مجرد بوح أو تصريحات وفضفضة من الشخصية صاحبة الصوت أو الشخصيات الأخرى، ذلك أن بعض التمثلات السردية قد تفهم خطأ الرواية النفسية بأنها تلك التي تكشف ما في النفس، لكن البراعة الحقيقة في تقديرنا تتمثل في أن يكون التكوين النفسي له انعكاسه المقنع والطبيعي في عالم الرواية من حيث الأحداث أو الأفعال التي تقوم بها الشخصية أو كلامها أو لغتها الداخلية أو علاقتها بالأشياء والتفاصيل، وهو ما نجده متحققا في هذه الرواية. أولا هناك عناية كبيرة بالتفاصيل وهي سمة غالبة على سمة السرد الذي يكون الصوت الرئيس فيه لامرأة وهي نقطة توفيق كبيرة ذلك لأن هذه هي طبيعة المرأة بحسب الدراسات النفسية فهي أكثر اعتناء بالتفاصيل الصغيرة والأشياء في المكان. ثانيا هناك بعض المشاهد المدهشة بين الأم وابنتها تكشف عن تمثل التكوين الداخلي وانعكاسه في حدث أو شيء مادي، وهو ما يجعل عالم الداخل متحققا أو متجسدا في تكوين مرئي أو مدرك بالحواس وهو ما يجعل السرد أكثر إقناعا وتصديقا لدى المتلقي، ونأخذ مثالا على هذا في المشهد الذين يكون بين الأم وابنتها بعد حادث السيارة ووفاة الأب والأختين؛ مشهد احتضان الابنة لأمها من ظهرها وكيف أن الأم كانت ذات موقف نفسي عميق ومتجذر من ابنتها ولكن هذا انعكس في تقوسها على حزنها من دون ابنتها، ثم كيف أن الابنة نزلت إلى ركبتي الأم وحاولت أن تلوذ إليها أو يلوذ كل منهما إلى الآخر في لحظة حاسمة لم يبق لهما غير بعضهما، لكن الأم لم تقدر على أي شكل من أشكال التجاوب، والحقيقة إن هذا المشهد مع بعض المقولات أو الأسئلة التي تحدث بشكل انفجاري محسوب قد تكون هي الدافع الطبيعي والمنطقي لما يأتي في البداية من كون الابنة انتحرت لتعاقب أمها، وهنا فإن السرد يتمكن بكل براعة من إزالة الغموض والغرابة وحل لغز المفارقات التي تأتي في أول الرواية. والأمثلة كثيرة مما يبرز كيف أن الحدث كان دائما مرآة للشخصية ومجالا لتجسيد التكوين الداخلي في واقع ملموس.
في الرواية كذلك تمثل بارع لتكوين شخصيات متداعية نفسيا، ذلك لأن هناك تمثلا لذهنيتها وهلاوسها بشكل متنام ومتدرج من البداية، ومن لجوئها إلى حيل دفاعية تحاول أن تعوض بها نفسها عما ينقصها أو يجعلها تتفادى القصور الذي تسببه لها الأم وحرمانها من إخوتها، لنكون أمام حالة مرضية يتم رصدها وتشكيلها على نحو هادئ وبالتدريج حتى تصل إلى الذروة، شخصية تقاوم وتعاند وتحاول الثبات وتحاول أن تكون متماسكة وطبيعية بشكل غريزي لكنها برغم ذلك تسقط، وهكذا يكون سقوطها النهائي طبيعيا، يستغل خطاب الرواية كافة العناصر لينتج هذه الحال النفسية المتكاملة والمتسقة مع بعضها، مثل توظيف الرجل ذو الشعر الأحمر ومراقبته وأن يكون هو الشريك الوحيد أو المأمول وهو شريك بينها وبينه مسافة حتمية ويصنع مزيدا من اللإلغاز ويجعل السرد أكثر تشويقا، ويمكن القول إجمالا إن اشتغال الرواية على هذه المساحات النفسية المرتبكة والغامضة كان منبعا لجماليات مضاعفة منها الغموض والغرائبية والتشويق، بحيث يكون المتلقي في النهاية أمام شخصية لا يمكن توقعها أو التنبؤ بمسارها.
من الناحية الشكلية كذلك نجد أن خطاب الرواية تشكل من لغة على قدر كبير من الاقتصاد والتكثيف ونجد أن النبرة السردية برغم تعمدها لدرجة من التوازن والحياد وتقليل الانفعال تأتي مشحونة بشكل طبيعي بشحنات عاطفية هي ابنة الموقف أو الحدث وتكون دافعا لانحياز المتلقي أو الاستحواذ على مشاعره، وهناك مغايرات في اللغة بما يناسب الحدث أو الحالة السردية على نحو ما نرى من التحول إلى صيغة المخاطب في الجزء الذي يكون بينها وبين الرجل صاحب الشعر الأحمر، وهو ما يعكس في النهاية حالا من الجوع والرغبة في الاتصال معه أو الحديث مع ذات أخرى للفضفضة أو التحصن بها. وبرغم غلبة اللغة الداخلية على سرد الرواية نجد أنها تتفاوت في إيقاعها وموقعها بين الداخل والخارج وبين رصد المادي ورصد القيم والمعاني المجردة، وبين الساكن والمتحرك وبين البطء والسرعة وبين الانفعال والهدوء، لتكون لغة الخطاب السردي قد تحركت في كافة الاتجاهات والنوازع التي يتشكل منها عالم الرواية.
في الرواية كذلك بعد مهم آخر وهو الخاص برصد التحولات الاجتماعية والثقافية في المجتمع العماني، والتغيرات التي طالته على مدار عقود من النهضة وتغير وضعية المرأة مع التعليم أو الإنسان العماني مع أعمال الزراعة والرعي وغيرها من الأعمال، وهو ما يجعلنا أمام رواية تؤدي على هامشها دور تسجيل التاريخ أو رصد تحولاته ومواضعه المفصلية ضمن اللوحة العامة لعالم الرواية وأحداثها. والحقيقة هي واحدة من الروايات شديدة الأهمية والخصوصية ويمكن درسها وبحثها من أكثر من زاوية بشكل أكثر تفصيلا مثل الجانب الجسداني والاحتفاء به وبخاصة بما يعني للمرأة من حيث الزينة والتجمل والعلاقة بين الرجل والمرأة وجانب الرغبة، أو ما يرتبط بالطابع الأسطوري والعجائبي والثقافة المحلية أو شعرية الخطاب السردي، وغيرها من الأبعاد والجوانب المهمة.
مصدر الصورة: https://2u.pw/Ch6tE