طريق الملح

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

قراءة مجموعة الشاعر محمد السناني شجر بلا أسماء

فيما كانت المدينة بداية العام مشغولة بانتحار طالبة جامعية في كلية العلوم وبنصها الذي كتبته قبل الانتحار كوصية، تأتيني رسالة تأخرت في البريد أربعة أعوام حاملة ديوان الشاعر محمد السناني “شجر بلا أسماء” الصادر عن دار الكوكب البيروتية ٢٠١٦م، وأنا ممن يعتقدون أن للصدف القدرية مغازيها الغامضة، حتى لو افترضنا أن الأعوام مجرد أرقام يمكننا إغفالها واعتبار أننا ما نزال في عام ٢٠١٦، لكن ذلك يبقى مجرد اعتبار خاطئ.

بمرور الزمن الفعلي حين أقرأ مقطعًا كهذا أراه مختلفًا:

“سأموت منتحرًا كباقي إخوتي الشعراء/ منتحرًا بسيف الصمت/ سيف حمولة الكلمات/ أغرسه ويغرسني بجسم الفاعل المجهول/ منتحرًا من المعنى الذي لا يبلغُ/ منتحرًا من الضجر المحاصر للموسيقى/ والموسيقى حين تنقذني وتقتلني هنالك مرتين.” ص١٢٩

كيف يبدو الانتحار في إطار لغة رومانسية؟ هذا انتحار شعري بسيف الصمت وحمولة الكلمات، انتحار من حصار الضجر للموسيقى، والمقتل الموسيقي مرتين من شدة جمالها مرة ومن حصارها بالضجر مرة ثانية.

هذا الانتحار الشعري يعاد تقديمه في ديوان شجر بلا أسماء مرة أخرى، والإعادة نفيٌ للشك وتأكيد للقصدية، نقرأ في آخر نص في المجموعة ص١٧٠:

كنت كتبت ديوانًا/ بغرفتي الصغيرة تلك/ كانت مفرداتٌ كالضياء وكالحياة/ وكالحبيبة تملأ الصفحات/ تؤنسني وتنقذني/ من الشغف الكبير، الانتحار..

ما زلت أسكن غرفتي/ ما زال يسكنني انتحارٌ رائع/ ما زالت الكلمات تؤنسني وتنقذني/ وتسألني البقاء.

هكذا يبدو الانتحار مقدمًا في إطار رومانسي فعلًا، انتحارٌ رائع، صحبة الكلمات، لكن لماذا هذا المنزع الانتحاري، اختيار الموت الإرادي نفسه، لأي غاية شعرية، أسبابه داخلية في كينونة الذات أصلًا أم خارجية؟

عدت أبحث عن صور الموت كي أعثر على المعنى، لكن الشاعر يبادرني باقتراح أفضل:

سنمر بين الموتِ والمعنى لكي نجد الصواب. ص٣٥

فأمضي معه في محاذاة، للموت، مثلما هي الحياة موازية في امتدادها لخط الموت، ابحث في النصوص لأرى محاذاة الموت وأجد صورة أخرى للموت، وجهًا آخر، الموت بوصفه محرّضًا:

يحرضني الموت أكثر/ مما تحرضني فكرةٌ للحياة. ص٥٢

ألا يبدو أن الموت يمارس حياته هو الآخر، مثلنا، لكننا لم نلتفت لهذا الوجه الآخر من قبل، ألا يجب على الموت أن يكون حيًا ليتمكن من الإماتة؟ نتأمل صورة الموت أكثر، أليس الموت هو الخالد الوحيد بيننا، لنجد قطعة من النص توحي لنا بذلك:

أمضي أنا نحو ما يشبه الموت/ حلمًا وحبًا وترنيمة في الصحاري/ ستمضي سدىً في العدم/ فيا أيها الوزن لا تنكسر/ ريثما أنتهي من غنائي ومن لوحتي ص٥٤

ليس الموت ولكنه يشبه الموت، ألم ندرك ذلك من قبل ونسيناه؟ ألسنا نعرف أن الموت ليس إلا وجهًا آخر من وجوه الحياة نفسها، وأن الموت ليس إلا الحياة، كما قال أحد أسلاف الشاعر، الأعمى راشد الحبسي منذ مئات الأعوام:

أنت الحياةُ وأنت قاتلة الفتى عمدًا وفيكِ صبابةُ العشاقِ.

الحياة إذًا هي موت مؤجل كما يأتي في أحد نصوص هذه المجموعة الذي يحمل نفس العنوان (موت مؤجل) ص٦٦: لم يحن موتك بعد فاجعل التابوت قارب/ فيك نهرٌ تعبر الأحلام منهُ فاتخذ ماءك صاحب.

توازن غامض بين موت هو نفسه الحياة وحياة هي نفسها الموت، وعندها يكون مقدار الحياة كميًّا بما أننا نحوي الاثنين الموت والحياة داخلنا، نجد طريقة أعمق لرؤية نفس الحياة تغدو فيها الجراح سلاحا ص٧١:

قاوم وإن كنتَ فوق الصليب/ إن الجراحَ سلاحُ المغنى/ على جسدي يكتب الرب أشعاره/

أنا مطر الغيب، صحراؤه/ والغياب المحاصر بالأنبياء/ وبالشعراء جميعًا/ ما أكثر الموت فينا/ ما أقل الحياة/ فاشرب نبيذك/ يا أيها الحي والميتُ شعرًا/ واخلُ بمن جعلت موتكَ/ المتجسد في الأغنيات حياة.

والتي جعلت موت الشاعر المتجسد في الأغنيات حياة، هي القصيدة، إذًا هذه القصيدة مرادة بذاتها، منشودة الشاعر ونشده الأثير، إنه مثلنا يبحث عن الموت لكن ليس من أجله لكن لأن داخل الموت يجد قصيدة الحياة.

في الغلاف الأخير لهذه المجموعة يأتي مقطع نجده في الصفحة ١٥٦:

هل يسامحني أبي في حضرة الآثام؟ يا ملاك النور كلمني/ فقد أسرفتُ في لغة الظلام. ص١٥٦

الشاعر في الظلام، ولكنه يريد كلمة من ملاك النور، الذي يمثله الأب، السؤال تشكيكي، هل يسامحني أبي؟ شك في الغفران، أسرف الشاعر في لغة الظلام والآن يبحث عن النور، عن الضوء:

كم نجمةً سوف تحتاج يا ضوء/ كي تتأكد أنا بلغناكَ في عتمة الكونِ أحياء/ وأنك خلفتَ كل النجوم وراءك/ من شدة الوجد مطفأةً ميتة؟ ص١١١

مظلم هو الفلك، وهذا الطريق الأرضي هو نفسه طريق الكائن، لكنه متجه إلى الضوء، يسأل الشاعر وعينه على انطفاء النجوم، الحقيقية أو الرمزية، الإنسانية أو الفلكية، كم يحتاج الضوء من الموت، هذا هو السؤال الشعري الذي يعيده النص علينا في صورة مختلفة في قصيدة الله:

ها أنا أعدو إليك ولا أراك/ هل أنت في قلبي هناك؟ / فتشتُ في كل النصوص ولم أجدك/ سرق اللصوص فصوص نوركَ كلها/ …

فكيف أعبر صوب ميلادي وموتي مرةً أخرى؟ ص١١٣

علينا أن نبحث عن الضوء أكثر عل الصورة الغامضة تتضح:

أحلم بالنهار العذب في باريس/ أو في صورَ حين ولدتَ من ذاك النهار/ شعاع ضوءٍ في جدائل طفلةٍ/ يا شمس ذاك اليوم/ كنت جليلة وجميلةً/ وجديرة بالحب/ كنت الربّ/ لا معبود إلاكِ/ فهاتي الدفء. ص١٢١

الشاعر من مواليد صور، وهو ينتمي إلى المدينة البحرية العتيقة على بحر العرب، يتذكر الشاعر مولده من النهار، من الضوء، في صور، من شعاعه في جدائل طفلة، وفي استذكاره يزجي تحية شعرية عميقة مؤلهة لشمس ذاك اليوم، لماذا هذا التأليه؟ ألأنه غدا بعيدًا الآن، يستذكر النور لكنه يتحدث من ضفة الظلام:

كان كل الوقت ليلًا في يديك/ رغم ضوء الشمسِ أعتمتَ فؤادك/ وجعلت البحرَ والأفقَ بلادك. ص٣٢

الشعر يعاتب شاعره، لكن لنتبع نحن خط الأفق، في طريق الملح:

أيها البدوي/ أيها البحار/ إنما البحر فلاة/ إنما الصحراء ماء الكلمات/ غرقٌ أو عطشٌ/ لا فرق هناك/ إنما الملحُ هو المعنى/ الذي يبقى لديك.

ص٢٤

بدوي بحار، لا شك مولع بالموانئ الغريبة، مصاب بوجد صوفي من كثر ما يستغرقه يعيده إلى مشرقه، الذي هو انعتاقه واتحاده بالمطلق، وهل الحياة غير رقصة في الفناء:

كالدراويش انخطفنا واختُطفنا من إسار/ اليأس نحو المطلق المنحوتِ في أرواحنا/ يبدأ الدوران منفردًا وفي حلقات/ أنسى أنّ لي لغةً ووجهًا حين/ يبدو الرقصُ درب الله واللاشيء. ص٢٥

هكذا سيمضي البدوي البحار إلى فاس الساحرة في أقصى المغرب ليكتشف الكونية الإنسانية ويكتبها قصيدة:

العربي باطما وآخرون/ كانوا مغاربةً وكونيين/ كنا مغاربةً وكونيين أيضًا..

لم تزل في سطح فندقنا القديم/ مقاعدٌ للسهو/ لم يزل شايٌ ونعناعٌ بمقهى أول السوق القديمة/ في انتظار الناهضين من الموسيقى/ لم تزل فاسٌ وساحة سيدي بوجلود تحفظ رقصنا وغناءنا في الذاكرة

سنعود إن كنا أساسًا راحلين. ص٢٦

سنموت إن كنا أحياء، سننتحر من قوة تيار الحياة الهادر داخلنا، من أمواجه وبحره، في الصورة الأخيرة لا يبدو الموت إلا فعلًا مكتمل الحياة، ربما من قوة الحياة يهدد الشاعر بانتحاره، من ظلامها يجعل النور قبلته، ومن مغربه يفكر في مشرقه، سنغرّب إن كنا مشرقيين، ونشرّق إن كنا أساسًا مغاربةً وكونيين.

مجموعة شجر بلا أسماء من تلك المجموعات الثرية والخصبة بتناسلات معانيها التي قد تبدو ظاهريًا ذاهبة في كل اتجاه، ولكنها في العمق تمضي نحو اتجاه واحد، هو نفسه طريق الميلاد في الموت، وما هذه الدرب التي سلكناها في هذه القراءة إلا طريق صغير من طرائقها المتعددة.

صدر للشاعر محمد السناني قبل هذه المجموعة: كالغريب الذي كأنه، دمشق ٢٠٠٧م، صلاة الوطن الغائب بيروت ٢٠١٢م، قصائد الثكنة المظلمة، بيروت ٢٠١٣م، رماد العزلة بيروت ٢٠١٤، وبعدها مجموعة نشيد البراءة في منشورات مجلة نزوى مسقط ٢٠١٨م.

مصدر الصورة: https://2u.pw/P3RH6

أدب السادس عشر بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد