المقدمة:
بادئ ذي بدء أظن أن مفهوم التفاهة قديم جداً من قدم الحياة، وكل عصر به من الأمور التافهة التي يمكن أن يقبل عليها سكان تلك العصور، فالبشرية لم تكن كلها بتلك الجدية المتناولة في عصرها، ولكن ما جعل التفاهة تبرز في هذا العصر ويزداد الحديث عنها هو التطور التكنولوجي والالكتروني؛ والذي جعل الناس يطّلعون على بعضهم ويعرفوا ثقافة غيرهم، فالجميع أصبح مرصودا للجميع من الكبير إلى الصغير ومن العزيز إلى الحقير.
من هذا المنطلق وبالبحث والقراءة في أنواع التفاهة المستشرية والتي يثار حولها، استوقفني مقالَا لأحد أهم الباحثين والنّقاد وهو الكاتب الإنجليزي تيري إيجلتون، حيث تطرق لمفهوم التفاهة في إحدى مقالته من جانب مختلف ومغاير عما هو سائد، وبالتحديد عن تفاهة التفاؤل وفي جزء من مقاله يقول بما معناه أنه يستحيل أن يحكم أمريكا متشائم، وأن الشعب الأمريكي ربما يقبل بأن يحكمه شمبانزي على أن يحكمه شخص يقول لهم إن أفضل أزمانهم قد ولى…
اختلاف الخطاب:
حديث الكاتب جعلني أضاهيه بما يقال لنا في أوطاننا، مثل تصريحات بعض المسؤولين بقولهم: دولة الرفاه انتهت وزمن الرفاهية ولى وانقضى، ويجب شد الحزام وإن الآن غير زمان، والوضع ليس على ما يرام وما إلى ذلك من كلام…
المعضلة هنا أن أغلب من يطلق تلك التصاريح الرنانة وكأنهم يمنون على المواطن بهذا الرفاه المزعوم، هم مسؤولون في دول بها دساتير تعد المواطن بالرفاه، والمستمد من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، فإذن من المنطقي من يقول بعكس هذا يجب أن يتخلى عن منصبه، الذي لم يستطع من خلاله أن يصل بالمواطن لهذا الرفاه الموعود والحلم المنشود ويجعله حقيقية مستدامة!
السؤال الذي يفرض نفسه هنا لمَ لغة الخطاب الموجه للمواطن العربي، تختلف عن الموجه للمواطن الغربي، فهناك في الغرب الكثير من التنمر، ولكن هذا يُعدّ نوع من التنفيس وذلك طلباً للأفضل وليس استعدادًا للأسوأ، وهنا الفرق واضح فهو بحديثه المتذمر مُنتقِد لعدم الاستجابة السريعة للمشكلة التي يعاني منها، وهي محددة في زمان ومكان معينين يجد بها المتذمر إخلال في جزء منه، كما أن يكون في بلدته والتي تتبع مدينة، والمدينة تتبع محافظة مقاطعة أو ولاية، ولكن نحن عندما نتعدى مرحلة التذمر والوصول لحد التشاؤم، لأننا نرى أن كل ما يحصل لنا هو ذاته ما يحصل في كل جزء من وطننا، ولربما يكون هناك من بقعة أخرى في الوطن قاطنيها أكثر معاناة وأسوأ حالَا مما نحن فيه، ولا يوجد حل لهذه المشكلة بل إنها تتراكم وتتفاقم وتسوء وتكثر المعاناة التي نعانيها من آثارها، التي بدت في بادئ الأمر بسيطة صغيرة حتى كبرت استصعبت واستعصى حلها، هنا أصل الاختلاف ومنبع الاختلال الذي يوصلنا لتشاؤم، هذا عدا أن المعاناة التي يعاني منها الغربي والتي ننظر لها على أنها من القضايا التافهة مقارنة مع ما نعانيه نحن، وهنا نقترب ونبتعد على حسب تطبيقنا لمفهوم الدولة المدنية والحكم الرشيد.
الإعلام والتسويق لتفاهة التفاؤل:
الإعلام في دولنا العربية هو من يحض على الإيجابية الكاذبة، ويكرس لتفاهة التفاؤل على النقيض تماماً من الإعلام الغربي، الذي يكون ناقم متذمر بل ويتجه للسخرية السوداء، مبتعدًا في الكثير من الأحيان عن معنى الحيادية إن كان الأمر يختص بمعيشة الناس وحياة الإنسان، فهنا تتجلى لديه سوداوية التشاؤم عنها من تفاهة التفاؤل فهو لا يتجاوز الخطأ ولا يجيز الخلل.
أما الإعلام العربي الموجه فهو يتغافل عن الإخفاق، ويطبل للإنجاز الأقل من العادي، والذي من المفترض أن يكون أمرًا مستحقَا، وعلى كل حكومة أن تقوم فيه إذا كان هذا يختص في الأمور الحياتية والتسهيل على الناس، ويقود للسير على عجلة العمل والتنمية، وليس لزيادة رفاهية المواطن والذي يتوجب أن يكون من أولى أولوياتها ومن أكثر إنجازاتها، بعد أن انتهت الأساسيات وتفرغت لرفاهية المواطن وتحسين معيشته، ومساعدته والوقوف بجانبه في أحلك الظروف التي يكابدها، وفي وقت الكوارث والأزمات الطارئة التي تحل عليه أو يتأثر منها، كما هو الحال مثلاً الآن في جائحة كورونا، فعندما ننظر لدول الغرب نجد الكثير من المساعدات التي قدمتها تلك الدول لرعاياها حتى يتجاوزوا الأزمة الاقتصادية التي يعانون منها من أثر الجائحة، وعلى النقيض من هذا فإن حال أغلب الدول العربية التي تحرك أدواتها الإعلامية لترويج خطابها المقيت الذي يقول أن هذه الجائحة عالمية، ويتأثر بها كل سكان الأرض وليس لنا يد بها، بل وجعل هذه الجائحة شماعة تعلق عليها الحكومات لباسها المهترئ، فكل تخاذل منها اتجاه المواطن تكون تلك الجائحة هي سببها، لدرجة تعتقد معها أن الجائحة هذه أتت كعذر للحكومات حتى تنقذها من المسائلة، هذا إن كانت تلك المسائلة أصلاً موجودة في أغلب دولنا العربية، فضلاً على أن تكون مجدية.
القصد والمعنى:
التفاؤل أقرب لنا وهو يُستمَد من تراثنا، والحديث يطول فيه، وهناك مقولات كثيرة أتت عليه، ولكن يجب أن نقرن هذا التفاؤل بخطة عمل لا أن نتفاءل دون أن يكون هناك برامج وخطط ومراحل للإنجاز نقف عليها، وعلى أساسها نحدد مدى هذا التفاؤل، أما غير هذا فلا يعتبر سوى تفاؤل تافه لا يقود لرفاه المواطن بل إلى رفات المواطن.
مصدر الصورة: https://n9.cl/nuq5q