في مديح الخيبة

 (1)

مع الثمن الذي ندفعه مقابل الخيبات؛ سيكون التربيت على الكتف خيبة أخرى!

(2)

“أنا متعب جدا. أظن أني سأعود إلى البيت الآن!” – وينستُن غروم في فورست غامب.

(3)

في العمق؛ يتردد كثيرا الشعور بالرغبة في التأثير على الآخرين، وإذا لم يتحقق ذلك؛ فسيتحول إلى شعور جارف بالخيبة. إذ سيكون مؤلما أنك بعد زمن من الحضور لم تلامس إحساس أحد ما؛ لم تترك لديه وخزة من أثر؛ لم تفتح لديه ولو مساما واحدا. تماما كما لو أنك غير موجودة البتّة! كارل يونغ يعتبر ذلك من المشاعر البدائية التي لم تتأنسن بعد، ولكن هل هي كذلك حقّا؟ هل الشعور بالراحة عندما نعرف أهميتنا لدى الغير وأننا نترك بصمة جميلة لديهم، في مقابل الشعور بالخيبة عندما يحدث العكس؛ هو شعور حيواني بدائي يجب أن نتجاوزه بالتحضّر والثقافة؟ ربما كذلك في بعض مستوياته؛ وخصوصا عندما تكون الخيبة عظيمة؛ حيث نكون مدفوعين بقوّة الغريزة إلى التدخّل في حياة الآخرين سلبا أو إيجابا؛ فقط لأن الواحد لا يستطيع أن يبني ما يسميه جورج أورويل بمسافات الأمان مع الآخرين، وبالتالي يجب أن تكون ذائبا في المجموع. أما المستويات العليا؛ فسيتخّذ التأثير شكلا أكثر رقيّا؛ وذلك عندما يدرّب الانسان نفسه ليجد لذّته في فنّ أو موسيقى أو رياضة أو عبادة يمارسها، إذ أن هذا التسامي يسمح بالوقت الكافي للتكيّف مع تأثير الآخرين؛ بحسب كارل يونغ، وبالتالي يجنّب من الوقوع في شرك الخيبات، بل نفسها الخيبة لن تكون أكثر من تجربة ذوقية مختلفة.

(4)

الرأي: الشر يتربص حيث تسكن الخيبة.

الرأي الآخر: البحر الساكن لا يصنع البحّار الجيّد.

(5)

“وبادر ولا تمهل سُرى العيس إنها

لنا خيبٌ في النجح ليس يخيب” – عبد الجبار بن حمديس

(6)

على الطرف الأقصى من الحكاية؛ يتجادل المؤلّف مع اللانهائي: ماذا لديك أيضا؟ لا يعرف اللانهائي شيئا عن عالم البشر، ولا يستطيع أن يتنبأ بما يريد المؤلف، لهذا يجيب بأسوأ التعليقات إبهاما: “لديّ كل شيء!”. “لا فرق بين كلّ شيء ولا شيء”؛ يقول المؤلف. لهذا يحتاج المؤلف أن ينسى الحكاية. بعد النسيان يبدأ مخاض اللانهائي، وتولد الفكرة.

(7)

‏في جنوب نيوزيلاند توجد جزيرة تسمى الجزيرة المخيّبة. لا يُعلم على وجه الدقّة سبب تسميتها بالمخيّبة. لا يعنينا الاسم الآن. في 1907 تحطّمت سفينة انجليزية على صخور هذه الجزيرة. نجا من الغرق ستة عشر بحّارا؛ استطاعوا أن يصلوا إلى الجزيرة؛ ليبقوا فيها نحو تسعة أشهر حيث وصلت إليهم بعثة علمية أنقذتهم. ما يهمّ هنا هو أنهم استطاعوا أن يبقوا إلى هذه المدّة بفضل ملاذات مهجورة تم إنشاؤها على الجزيرة في وقت سابق، وزوّدت بالطعام والشراب؛ الذي قد يحتاجه من يلجأ إلى الجزيرة في ظروف كحادثة تحطّم سفينة. فكرة مثل هذه الملاذات قديمة؛ إذ ما انفكّ الفرد أو الجماعة يرتّبوا لأنفسهم ملاذات اللحظة الأخيرة بشكل وآخر؛ فقط تحسّبا للأسوأ والحظ السيء. كما لو أن الإنسان عليه دائما أن يستعد بوضع ملاذا احتياطيا داخل الخيبات المحتملة.

(8)

تسألني ما الخيبة؟ فأصمت بحثا عمّا لم يُقال بعد. بقيتُ هكذا ساكنا. فلم أقل لها أن الخيبة كانت ضوءًا يربط الصورة الذهنية بالشيء، ثم أصبحت الوقت الذي تتوقف عنده الصورة عن التدفّق. لم أخبرها أن الخيبة صنما لم يسجد له أحد منذ عهود طويلة، وأنها قصيدة توقّفت عنها تخيّلات الشاعر، وأنها ضحكة نفذ الهواء على صاحبها قبل أن يسمعها أحد، وأنها عدم يخالجه الشعور بأنه ناقص، وأنها قلم عجز عن جعل انكسارات الحكاية صورا ضاحكة. لم أقل لها أن الخيبة هي الفشل الذي لم يضحك عليه أحدا سواه، ولكنّها سمعت كلّ ذلك!

(9)

وسمّت العرب الأخيب لأحد أقداح المَيْسِر الثلاثة التي لا نَصيبَ لها وهي ثلاثة المَنِيحُ والسَّفِيحُ والوَغْد. وفي حديث عليّ كرّم اللّه وجهه: مَنْ فازَ بِكُمْ فقد فازَ بالقِدْحِ الأَخْيَبِ، أَي بالسَّهْمِ الخائِبِ الذي لا نَصِيبَ له. واخْتَبَّ أي أسرع، فيقال: اخْتَبَّتِ الدَّابَّةُ، واخْتَبَّ من ثوْبهِ خُبَّةً: أَخرج منه قِطعَةً كالعصِابة يعصب بها يَدَهُ. ‏وفي المثل: الهَيْبَةُ خَيْبَة؛ لأن من هاب شيئا لم يدركه. وسَعْيُه في خَيَّابِ ابن هَيَّابٍ أَي في خَسَارٍ.

(10)

ما الخيبة؟

الخيبة مجرد حدث غير متوقع. مشكلتها فقط في أنك تتوقّع شيئا ما لم يحدث. لا شيء أكثر. الأشياء تجري وفق طبيعتها. فقط نحن غير مستعدين لذلك. ألا تتوقع شيئا يعني أن تكون منفصلا؛ بالمعنى الذي يتّخذه الانفصال كصورة غير موجودة في المخيلة. الخيبة بالتالي ستكون على التضادّ مع الوجود الممتلئ؛ الوجود المتثبّت؛ الوجود المتشبّع. أستطيع ملاحظة هذا الامتلاء مثلا في أشكال الهوس الشديد بمعرفة رأي الآخرين عني. الخيبة هنا هي مواجهة مع وجود راسخ متجذّر؛ يزلزله الغياب فجأة. هذا الغياب لن يؤثرا كثيرا فيما لو كان الحضور من الأصل منفصلا أو هامشيّا؛ لأنه عمليّا حضور طارئ ومؤقت. اللا توقع أكثر من مجرد لا اكتراث بما قد يجري؛ بل حالة وجودية تنفي نفسها عبر عدم ترتيب أشياء مهمة على هذا الوجود. يعني لا تنتظر شيئا من الحياة.

الخيبة ولكن..

ألا يكون الانفصال مجرد تقليعة، ومحاولة لإنكار الشمس، ومضغة مستهلكة؟ في النهاية أنت موجود ولديك حاجات ومشاعر وبالتالي تلقائيا لديك توقعّات. أقل شيء ألا يأتي أحد يعتدي عليك أو يسرقك أو يشتم عائلتك. هل الانفصال سيمنعك من الدفاع عن نفسك؟ بالطبع لا وإلا فلن تكون جديرا بالحياة. يجب أن ننتظر أشياء من الآخرين. يجب أن تكون لدينا توقعّات. هكذا نرتب علاقاتنا معهم. وإلا فلن يكون للصداقة والحب والشراكة والصدق والتعاون أي معنى. لهذا ما المشكلة في أن تشتم وأن تقاتل من أجل مصلحتك؛ وإلا فإنك بلا كرامة ولا إنسانية.

ربط الخيبة بالتوقعّات شيء ضروري. يجب أن نمرض من الخيبات ونعيد الكرة في كل مرة، ودعاة الانفصال نقول لهم: دعوتكم هذه خيبة أخرى. ولن نحمل دعاويكم على محمل الجد. قد تكون مهمة أحيانا، ولكن في الغالب ستكون مملة ومقززة وغبية. أي نعم نحن نتعلم من الخيبات؛ ولكنها أيضا تدمّر سلامنا الداخلي وتوافقنا الاجتماعي. تمزّق القلوب وتجرح المشاعر وتسدّ منافذ البهجة إلى النفس.

من أين نبدأ إذن؟

هنا يأتي المربع الأول. تذهب وتقاتل، وتغزو هنا وتقدّم تنازلات هناك، تحقق أهدافا وتفشل في أخرى، ولكن في النهاية لديك مكان تعود إليه. البداية يجب أن تكون من مكان سابق للخيبة. الخيبة يجب أن تكون موجودة؛ إذا ما فكّرنا أن النجاح وبلوغ المرام أيضا موجود. الحقيقة التي يجب أن تسبق كل ذلك هو وجود المكان الذي لا يُسمح فيه بوجود التناقضات، وتستطيع أن تتحكم فيه بكل شيء. هناك فقط نعيد شحن أنفسنا ونتخلّص من آثار الخيبة. إذن البداية من البيت. من المكان الذي لا توجد فيه أخطاء؛ لأن كل ما تفعله فيه صحيح. هل لديك مكان كهذا؟ على الأرجح ليس بالصورة المطلقة؛ ولكنه موجود.

عن التوقّعات

التوقّع متصل بما يمكن تسميته الزمن الأخلاقي؛ أي الحركة في الزمان المتوقّفة على قرار أخلاقي. الزمن الأخلاقي يعني مسارا تتفرع عنه مسارات، والتوقّع يفترض مقدما مسارا محددا؛ فقط لأن لدينا جواب واحد عن سؤال واحد يطرح عند أصل التفرّع. الزمن الأخلاقي سلسلة قرارات متتابعة ولكنها متصلة. بدأت منذ لحظة مبكرة، وقبل أن تصل إلى اللحظة الحالية؛ مرّت بلحظات مشابهة كثيرة. وبالتالي فتخيّل النقطة التالية أو المحطة القادمة؛ يستدعي استحضار جميع اللحظات القديمة؛ على اعتبار أن التوقّع ليس شكلا افتراضيا ثابتا عن المستقبل؛ بل ملخّص أو متوسّط أشكال كثيرة للفعل انقضّت دفعة واحدة من الماضي إلى اللحظة الحالية؛ فما يقع لا يقع إلا لأنّ هذا هو أفضل ما يمكن أن يقع. وبالتالي نحتاج ألا نتعامل معه كتوقّع لحظي يتم في لحظة خاطفة؛ بقدر ما هو إضافة جديدة لمسار الزمن الأخلاقي الخاص بكل إنسان. وأيّا كانت نتائج التوقّع؛ يجب أن نضمّه إلى المخزون؛ ونواصل المسيرة.

مع الانفصال مرّة أخرى

أدباء وفلاسفة الانفصال يفهمون الانفصال بطريقة خاصة لا تعني بالضرورة أن يتوقف الانسان عن كونه كائنا أنانيا يحب الخير لنفسه ويشترط مقدما أن توليه الحياة عناية واهتماما؛ بل ربما العكس؛ كائنا في أقصى تجليّات الأنانية، ولكنها على الجهة الأخرى من إثبات الذات. إذ ينظرون إلى الانفصال كفلسفة حياة خاصة جدا. تظهر الحاجة إليها في أوضاع معينة؛ لمعالجة وتجاوز اوضاعا نفسية واجتماعية نتجت من الامتلاء الشديد عند الانسان. الانفصال يعني رؤية للمعنى في الحياة كتوقّف عن الاتصال والتسلسل والتراتب السببي والزمني، وبالتالي تجاوز للحضور الكثيف للذاكرة والتوقعّات الخطيّة؛ بحيث يكتسب تدافع الأحداث صفة التقطّع واللا معنى وعدم الحاجة للكثير من التأمّل والنظر والتفكير. يتم تدريب الذاكرة بحيث لا تندفع في المشاهد من منطق الحضور بل من منطق النسيان. فتتداعى بشكل شبكي لاخطّي. فائدة هذا الانفصال تكمن في التخلّص من قبضة العقل والتاريخ والمنطق. كما لو أن هناك وجه غير مرئي للمعنى في الحياة؛ لا يمكن الوصول إليه والإمساك به بالطريق المعتادة التي يمارسها الجميع؛ بل عبر فلسفة خاصة لا يمارسها إلا الخواصّ؛ وهي فلسفة الانفصال. ‏طبعا هل هذه تقليعة أم لا؛ هذا لا نعرفه. ولكن ليكن تقليعة وموضة. ما المشكلة؟! في النهاية هناك رغبة لتجاوز المعنى الكلاسيكي لصالح شيء جديد يتوقع أن يأتي بشيء جديد؛ شعر أو فن أو تصوير أو تشكيل أو موسيقى.

‏هناك فائدة أخرى للانفصال، وهو مجابهة السلطة التي تتحكم بالواقع. على اعتبار أن السلطة رتّبت الحاضر على أساس الحضور العقلاني السببي الخطّي المتصل؛ من أعماق التاريخ إلى هذا الحاضر وبالتالي إلى المستقبل. والانفصال هو كسر هذا الاتصال، وبالتالي مقاومة السلطة. بطبيعة الحال هناك نخبة مميزة ذات روح قوية هي فقط التي تفكر بمقاومة السلطة عبر فلسلفة الانفصال؛ كأداة ذكية للغاية لا سبيل للسلطة لتخضعها لمنطقها الاتصالي؛ فهذا الفلسفة تقوم أصلا على كسر هذا الاتصال؛ ‏كسر الروتين، وقهر النمط، ونسيان الصيرورة، والتخلّص من الزمان الشخصي، والزهد في المعرفة. الانفصال يعني صمن ما يعني أن كل شيء على أحسن ما يرام؛ فلم القلق. لنلهو قليلا بعيدا عن العقل. بعيدا عن المستقبل.

(11)

“‏وَقَدْ يَرِدُ المَنَاهِلَ مَنْ يُحَلّ

عَلى ظَمَإٍ، وَيَغنَمُ مَن يَخيبُ” – البحتري

(12)

الخيبة العظيمة حدث وقع في (١٨٤٤)، وصاحب نبوءة قدمها الأمريكي وليم ميلر عن عودة المسيح في ٢٢ أكتوبر من تلك السنة. وعندما حلّ اليوم ولم يظهر المسيح؛ صاحب ذلك خيبة عظيمة لدى الكثيرين، وأعادت تشكيل رؤى البعض تجاه الدين. غير أن أنصار ميلر تعاملوا مع الوضع بتبريرات عديدة تؤول الحدث باعتباره وقع ولكن مازلنا في البداية، وسيبدأ بالتطهير مثلا. الفكرة هنا أن الخيبة تحتاج إلى مثل هذه الطريقة الترقيعية. سوف تنفي الخيبة، وتعتذر بأن هناك أشياء لا نراها أو لا نفهمها، وبالتالي يجب أن نستمر في مقاومة الخيبة بنفي وقوعها؛ إلى أن تنتهي من تلقاء نفسها؛ بنفس الهدوء الذي سبق وقوعها.

(13)

وفي ‏الفرق بين القنوط والخيبة واليأس؛ فإن القنوط أشد مبالغة من اليأس، وأما الخيبة فلا تكون إلا بعد الأمل، لأنها امتناع نيل ما أمّل، وأما اليأس فقد يكون قبل الأمل وقد يكون بعده، والرجاء واليأس نقيضان يتعاقبان كتعاقب الخيبة والظفر.

(14)

“إن حبا يخيب، هو محنة فلسفية تملك من الثراء ما يتيح لها أن تخلق من حلاق نظيرا لسقراط”. – إميل سيوران

(15)

عندما تسأل وتحصل على اتّهام؛ في المرّة الأولى ستكون خيبة، وفي المرّات التالية ستكون تسلية!

(16)

شهية التحكّم:

لاحظ فرويد في بعض تحليلاته أن الخيبات والقلق والاحباطات التي تؤدي إلى الأمراض النفسية؛ لا تأتي من الأشياء التي نستطيع التحكّم فيها، بل غالبا من العكس. فأزمات الإنسان تبدأ من قلّة حيلته في التأثير على وتغيير الشروط المحيطة به وتتحكم فيه، وأوّل شيء يحتاج فعله لتجاوز الآثار السلبية للخيبات؛ هو أن يعيد موضَعة نفسه ضمن ظروف يستطيع بشكل وآخر أن يؤثر فيها؛ تلك الأحوال المحيطة التي تستجيب قليلا لإرادته. بطبيعة الحال؛ يمكن أن نتماشى مع التوتّر المزمن لدى فرويد في هذه العلاقة بين الخيبة والتحكّم؛ ولكن يبدو أن أصل هذه العلاقة أكثر عمقا مما يظنّه فرويد؛ وهو أن يبني الانسان سعادته ويستمدّ قيمته الوجودية من الأشياء التي حوله. فهذه الأشياء تسلب من الانسان استقلاله؛ وتجعله مرتهنا إليها في معرفة ذاته، ولهذا يفكّر دائما في التحكّم. ولكن هناك حالة صوفية تحتاج لبعض التدريب ليصل إليها الانسان؛ وهي التحكم بالأشياء عبر الاستغناء عنها أصلا.

الذات:

‏في الخيبة نحن أكثر استعدادا لقبول التناقضات. للتسليم بالمتقابلات. لقبول الحب والعار، الهزيمة والمجد. نحن أكثر تصالحا مع الهشاشة التي تصنعها المفارقات في الروح. نتخلى عن صرامة المواقف ونستسلم للرياح. هذا لا يعني بالضرورة ضعفا؛ فالخيبة تجوال داخل الضعف. الخيبة تجعلك تنظر من جديد إلى داخلك.

الوعد:

بطريقة ما؛ تتعالق الخيبة مع الوعد. الخيبة تأتي بعد وعّدٍ لم يُنجز. هذا الوعد قد يكون ضمنيا. هنا يوجد خلل ما نحتاج أن ننظر إليه. لأن الربط بين الخيبة والوعد هو عادة قديمة تكررت كثيرا أمام الانسان منذ طفولته؛ إلى أن أصبحت شرطا لازما. بنفس الطريقة التي كان ديفيد هيوم يفكك السببية. هيوم حشر السبب داخل الأثر نفسه، فالفاصلة بينهما هي عقليّة لا أكثر بسبب التكرار، ونحن لا نلاحظ ذلك في الواقع. بنفس الطريقة هنا؛ الفاصلة بين الوعد والخيبة هي فاصلة داخل عقولنا لا أكثر، وإلا فإن الوعد جزء من الخيبة.

الفطام الأوّل:

في الخيبة شيء من تجربة الفطام الأولى. الفطام تجربة مؤلمة بالنسبة للطفل، وهو أولى خيباته في الحياة. إذ يخسر ثديي أمّه؛ واللذين يمثلان مصدر الحياة واللذة الأولى والوحيدة. تتكرر تجربة الفطام هذه في كل مرحلة من مراحل العمر، ولكن في كل مرة يعود الإنسان إلى نفسه ليعرف ما هي بعد كل عملية حذف. ما الذي تبقى منها؟ وكيف تبدأ من جديد؟

(17)

لا شيء يحررنا مثل الخيبة. تحررنا من الالتزامات والتوقعات؛ من الآمال العريضة. تجعلنا أكثر واقعية وأكثر قدرة على اكتشاف القدرات الحقيقية. هناك خلل ما لا نشعر به إلا مع الخيبة. تكثر الآمال في غفلة الحواس. والخيبة هي التي توقظ الحواس؛ تصقلها وتجعلها متوثّبة. الخيبة تخفّف الضجيج وتعيدنا إلى بيت الصمت؛ بعد أن باتت التناقضات مكشوفة.

(18)

لتبقى الخيبة نكتة في فم طفل. يظنّها تضحك والدَيه. هما سيضحكان، ولكن ليس على النكتة!

مصدر الصورة: https://2u.pw/4u54P

أدب الثامن عشر بعد المائة

عن الكاتب

محمد بن عبد الله العجمي

moloza@hotmail.com