فبراير 2021، أصدر الأمريكي بيتر كورتيس، دكتوراه في الأدب، الذي قضى سنتان رهينة لدى تنظيم “النصرة” الإرهابي (أو جبهة فتح الشام والتي أصبحت فيما بعد هيئة تحرير الشام) في سوريا، وهو مؤلف وصحفي مستقل يعمل بالقعطة، ويكتب تحت اسم ثيو بادنوس، وتم تسليمه وفق بيان للأمم المتحدة إلى قوات حفظ السلام الدولية في مرتفعات الجولان المُحتل سيرة ذاتية للكتابة عن هذه الفترة العصيبة مِن حياته.
السيرة المعنونة بـ “Blindfold: A Memoir of Capture, Torture, and Enlightenment” صدر لمؤلفها كتابين، أحدهما عن اليمن، وقد قاده فضوله إلى سوريا التي كانت في العام 2012 مادة خام للإنتاج الصحفي حيث البدايات وكان الخراب يتسرب للأرض، وتشكل هذه السيرة تجربة ذاتية عن البؤس في أرض غريبة على المؤلف الذي وصف رحلته: “طاردت فراشة على فوهة بركان”.
وفي لحظة تحوّل السائح السعيد بأشعة الشمس إلى رجل رهينة محطم، ومحدق في هاوية لا قاع لها، كان يظن حسب وصفه أنه ذاهب لكي يفهم سوريا بشكل حقيقي ويشارك السوريين فقرهم وحرمانهم، كان متوهمًا أنه مميز بين وفود من الصحفيين “المزيفين” الداخلين لسوريا دون رغبة في فهم ما يحدث، وكان يسخر من عدم إدراكهم من “الإنقلاب الفوضوي للنظام الإجتماعي الذي يجتاح سوريا.”
يخلط كورتيس (بادنوس) المزيج الدموي والمزعج للحرب وتجربة احتجازه كرهينة حيث تم ضربه وسحله، وقام خاطفيه بتلاوة جرائم الولايات المتحدة عليه مِن “غوانتانامو”، و”العراق”، و”الطائرات بدون طيار في اليمن”، وأخيرًا “إبادة الهنود الحُمر”، إن هذا غير متوقع “حسب تعبير بادنوس”، وشعر لوهلة: بالألم لهذا، وانفصل عن الواقع متسائلًا عن المفارقة التي قادته لسوريا في ذلك الوقت.
نقلت جبهة النصرة بادنوس بين عدة سجون، وجردوه من كل شيء، وخططوا لطلب فدية، وأثناء ذلك تعرض لجلسات تعذيب مستمرة والضرب بالكابلات الحديدية كي يعترف أنه جاسوس يعمل لصالح وكالة المخابرات المركزية، وكلما كان يرفض الاعتراف كان يستمر الضرب، وكل اعتراف يثبت فقط أن اعترافًا أكثر إدانة كان على بعد بضع جلدات. كما قضى بادنوس ساعات في مطاردة وسحق الحشرات الماصة للدماء التي غزت ملابسه، وهو معصوب العينين بقطعة قماش، عدّها هو حجاب امرأة، وهو الشيء الوحيد الذي ربطه بالأمل والإنسانية. كان هذا عرض يُعرف في الطب النفسي بـ «وَهْم الإبراء» (Delusion of Reprieve)، في هذه الحالة يتملك الشخص الرهينة المعرض للموت شعور عام غامض يشبه الوهم بأنه سوف يجري إنقاذه في أي لحظة.
تحدث بادنوس عن هدف التعذيب بأنه عمل، وكما تحتاج الرهائن للغذاء والعمل على تحضيره، يتم العمل على تحضير جلسات التعذيب بالتوازي، ووصف بادنوس هذا الأمر بالتالي: “لقد أرادوا مني أن أشعر وأشهد بالأرض التي يسكنها الإرهاب، كان عليه أن يحسب حساب لروح العصر الجديد”. وبدأ بادنوس بالانسجام مع خاطفيه وهي المتلازمة المعروفة بــــــ “متلازمة ستوكهولم” حيث تساءل في نفسه: “هل أفكار جلاديه تتسرب لأفكاره؟” و “لماذا يتعرضون لمثل هذه المظالم في حياتهم (أي صعوبة حياة الجلادين) وكيف لهؤلاء الإرهابيين أن يحبوا الموت والفقر وكُل ما يجرد الحياة من قيمتها؟ وخلص بادنوس لإجابة مروعة: إن المشقة تهدف إلى تقريب الأمة من القرآن. ويظن أن لدى تنظيم القاعدة (جبهة النصرة آنذلك) رغبة في تقديم أرشيف بشري لا يُنكر ولا يُنسَى من عملهم في الحياة.
يشير بادنوس أن أحد المحققين، وهو رجل مجنون -حسب وصفه- بصق في وجهه، ووضع حافة السكين في حلقه، ولم يكن هذا الرجل سوى أبو محمد العدناني، المتحدث باسم تنظيم الدولة الإسلامية الإرهابي، لكن بادنوس قرر أن يدير نقاش عن الإسلام مع خاطفيه مُعللًا هذا بأنه “أراد أن يرى خاطفيه احترامه لدينهم”، ثم أسهب في الحديث عن فلسفة العصور الوسطى، وأصول السلفية، والإخوان المسلمين، وصعوباته مع قواعد اللغة العربية، واهتمامه بتعلم تلاوة القرآن، لكن يشير بادنوس أن فطنته جعلته ينهي هذه الحوارات سريعًا لأنها مِن الممكن أن تتسبب في قتله، إن أدرك الإرهابيين أن معرفته ما هي إلا ترسيخ فكرة كونه جاسوس وخبير متخصص في وكالة المخابرات المركزية في الفكر المتطرف.
استمرت روح الثيوديسيا أو نظرية العَدالةُ الإلهيَّة وهي فرع محدد من الثيولوجيا والفلسفة يهتم بحل مشكلة الشر، تسيطر على بادنوس ويكمل “لم تكن الإهانات مقصودة دائمًا – كانت مجرد خدع شريرة من قبيل الصدفة”، وبعد ثلاثة أشهر ألقى خاطفوه في زنزانته شخصًا يُدعى ماثيو شراير، قضى بعض الوقت في الولايات المتحدة وجاء إلى سوريا كمصور صحفي، وقد اعتقدت القاعدة أنه مصور صحفي، وليس جاسوسًا؛ لأنه على عكس بادنوس، كان لدى شراير بطاقة عمل تعرّف عن نفسه كعضو في مؤسسة صحفية.
لم يتمكن بادنوس من احتمال شراير، وكانت صحبته تعذيب وجودي، حيث اكتشف أنه رجل مُختلف عنه بشكل كُلي، فـ “بادنوس” مثقف متعدد اللغات، يردد الشعر، على النقيض كان شراير الجالس في زنزانة لأشهر منظمة إرهابية في القرن الحالي متشائم وفي رأسه عشرات السيناريوهات المرعبة عن قطع الرؤوس والضرب أو الإلقاء من أعلى بناية. في نظر بادنوس هذا التفكير غير منطقي ما دفعه لكي يسد أذنه حسب تعبيره عن كلام شراير. (فيما بعد رفع المصور الصحافي الأميركي، ماثيو شراير، دعوى قضائية ضد بنك قطر الإسلامي لتمويله جبهة النصرة، الموالية لتنظيم القاعدة، حيث اختطفته في سوريا عام 2012، بينما كان يحاول عبور الحدود إلى تركيا. ووفق الدعوى “تعرض ماثيو للضرب والتعذيب في كثير من الأحيان على أيدي الإرهابيين، وهُدد عدة مرات بالإعدام وأجبر على مشاهدة وسماع تعذيب السجناء الآخرين”. وأضافت الشكوى أن المصور المختطف “كان محروماً من الماء والطعام، واحتُجز في غرف تم جعل الحرارة فيها باردة حد التجمد أو ساخنة جد الغليان، دون إضاءة أو تهوية، كما حُرم من استخدام الحمام لعدة أيام”.
كما يشير بادنوس أنه لم تمسه أي عقوبة تضاهي تلك التي أنزلت بالجنود السوريين المسجونين معه بشكل جماعي. ودوريا كان إرهابي القاعدة يصطحبون الجنود إلى الخارج ربما ليُقتلوا حسب تعبير بادنوس، وأثناء فترة احتجازه في قبو مستشفى عيون في حلب، سمع بادنوس “صراخ غير إنساني، كما لو كان الجنود السوريين الأسرى في مسلخ، وتساءل عن أن أحد الأصوات التي سمعها يمكن أن يكون صوت يصدره الإنسان عندما تمزق أحشائه؟” وعلى سطح المستشفى كانت تسير مراسلة واشنطن بوست ليز سلاي (لم تكن تعلم أن بادنوس كان هناك) وكتبت عن محاولة تنظيم القاعدة الإرهابي لإدارة المدينة.
ويصف بادنوس المستشفى بكونها كانت في الواقع سجن للزنادقة، و غرد بادنوس العام الماضي قائلًا: “تجدر الإشارة إلى أن كبار الشخصيات في هيئة تحرير الشام يفضلون تدمير المستشفيات أكثر من النظام. لماذا أسست هيئة تحرير الشام / جبهات أول قاعدة قتالية رئيسية لها / مقرها الرئيسي في أكبر مجمع مستشفيات شرقي حلب؟، فعندما كنت أسيرًا في قبو مستشفى حلب للعيون، أمضى المقاتلون أوقات فراغهم في تمزيق جدران السباكة، قاموا بإزالة إطارات النوافذ والأبواب الخشبية، ووضعوها في أكوام، ثم أحرقوا الأكوام، وفيما يتعلق بالطب، كان لدى العدناني وأصدقاؤه الذين قادوا هيئة تحرير الشام مشكلة معه، كانوا يكرهون المستشفيات والأطباء لذلك، أمروا المقاتلين بتفكيك المستشفيات، وحولوا الأقبية إلى ترسانات ومصانع قتل، وإذا كان لديهم غرفة واحدة لعلاج الأشخاص المؤيدين لهم، كان لديهم 15 غرفة لقتل الأشخاص الذين لا يؤيدوهم. أليست هذه “المستشفى” مكانًا شريرًا؟ شعرت أنه إذا كنت أتمنى حقًا أن يكون المستشفى مفيدا للسكان المدنيين في هذه المدينة، فلا يمكنني أيضًا أن أتمنى ألا يتعرض المستشفى الذي كنت أعيش فيه للقصف”.
في الأخير، يختم بادنوس سيرته كرهينة بوصف: “في زنزانة السجن، في نهاية أيامك كرهينة، تكون في عش النسور الصغير، على ارتفاع ألف قدم فوق سطح الأرض، والمنظر بانوراما مِن الحماقة والندم، ويتم إهمال كل الأشياء التي تستحق القيام بها؛ كل ما هو لا طائل منه أخذ مني الكثير، وتستطيع أن ترى كل شيء وتتساءل: لماذا تعيش النضال والعرق، وعندما يكون كل ما تحتاج ويحتاج له الأخر حقًا هو العيش؟ ويشعر المرء أنه قد سافر إلى كوكب بعيد، واكتسب المعرفة خارج كوكب الأرض الموجودة هناك بتكلفة شخصية كبيرة، ثم عاد بعد ذلك متحولًا، لكن بطرق محظوظة لبقاءه حي لكي تفهم التجربة تمامًا”.
مصدر الصورة:https://2u.pw/IuA8U