رحلة عبر الأساطير اليونانية المبللة بالنور

كتب بواسطة سريعة سليم حديد

تجذبنا الأساطير اليونانية بجمال سردها وأفق الخيال الذي تروى به، فنلجأ إلى الاطلاع عليها كمن يلهث خلف السراب، صحيح أنه لن يجده، ولكن منح نفسه فرصة الركض في الهواء الطلق، والانسجام مع الطبيعة.

الكتاب الذي بين أيدينا تحت عنوان “أبطال وآلهة ووحوش في الميثولوجيا اليونانية” للكاتب “برنارد إيفسلين”. نبدأ من الغلاف الذي يتصدر الكتاب، يعرض لوحة خيالية تعبِّر عن احتضان ما بين إله وزوجته، ينبثق منهما إله صغير يحمل مشعلاً. المشهد يمتزج بالحب والعنف والمتعة والجمال والخوف وسط سماء ضاربة إلى الغروب في صراع بين الشفق والغيوم الهائجة، هذا ما نتج عن اختيار مصمم الغلاف (طرفة عبد الرحمن) الذي أعطى بانوراما مشرقة لمحتوى الكتاب.

الكتاب من ترجمة الأستاذ (حنا عبود) ففي المقدِّمة يبيِّن أسلوب (برنارد ايفسلين) الناقل للأساطير، فقد كان بارعاً في السرد الدرامي، وفي السيناريو الدقيق، تتجلى الأسطورة لديه وكأنها تحدث الآن، إنه لم يغير أي شيء مما هو معروف، وهذه أمانة مهمة في مثل هذه الأعمال، كما أنه كان يعمد إلى الابتعاد عن المباشرة في عرض الأسطورة، فلم يُبدِ رأيه في مدلولات الأساطير وإلى أي شيء ترمز، إلى جانب كل هذا يمتلك المؤلف البراعة في الحوار المشوِّق والمعبر المدروس بدقة كبيرة. فعلى سبيل المثال أسطورة “همرس” ظهرت كتحفة أدبية ودرساً في الحوار المشوِّق بهذا الأسلوب الممتع الذي يجذب انتباه المتلقي لمتابعة ما يقرأ بشغف ومتعة، وهذا ليس بغريب على “إيفسلين” صاحب الروايات والمسرحيات والسيناريوهات والإخراج والخبرة الكبيرة باليونانيات. ويختم المترجم ليوضح أن هذه الأسباب كلها هي التي أنتجت عدة طبعات لهذا الكتاب، ومن المتوقع إصدار المزيد منها أيضاً.

أما عن مقدمة المؤلف، فيذكر “إيفسلين” سبب ولعه بالآداب اليونانية وخاصة القصص التي كان يسمعها من عمِّه عندما كان في الرابعة من عمره، فقد قرأ عليه الإلياذة والأوديسة، وبعدما كبر “إيفسلين” عاد وقرأ اليونانية واللاتينية والترجمات الإنكليزية لتلك القصص، وبعدها أخذ يسردها بنفسه.

          في الميثولوجيا اليونانية تخلق الآلهة الكائنات من أبطال ووحوش، فالغورغونات ذوات الشعر الأفعواني، هن أحفاد ريا أم زيوس التي جعلتهن بنات عم “برسيوس”: بمعنى آخر فإن الخير والشر ينجمان عن الآلهة.

وختم المؤلف قوله بما يلي: “هكذا نرى أمامنا موضوعاً فنياً كبيراً- وهو الصراع الأبدي بين قوى النور وقوى الظلمة- وقد تجسَّد في هذه القصص البسيطة بطريقة فرضت نفسها على وعي الإنسان إلى الأبد.” ص14

          يبدأ الكتاب من باب الآلهة حيث يعرِّج المؤلف على ذكر تفاصيل أساطير الآلهة بدءًا من (زيوس) ومروراً بـ(هيرا، أثينا، بوسيدون، هاديس، ديميتر، آرتيميس، أبوللو، هرمس، هيفاستوس وأفروديت).

          ففي أسطورة (أثينا) يقدم الكاتب معلومات يسند إليها الفضل الأكبر لتعليمها الإنسان كيف يستخدم الأدوات، علمته كيف يخترع أدوات الزراعة، وعلمت المرأة الغزل والحياكة، وابتكرت علم الأرقام، هذا ناتج عن طبيعة الطريقة التي خُلقت فيها (أثينا) فقد انبثقت من رأس (زيوس) تحت ضربات (هيفاستوس) مما أدى إلى انشقاق الجمجمة وخروجها منها. كانت (أثينا) ذات عينين رماديتين، وحاجبين عريضين. طريقة ولادتها جعلتها تهيمن على النشاطات العقلية.

          تحت عنوان “أبوللو” يقدِّم المؤلف صفات ” أبوللو” فيذكر جمال عينيه الزرقاوين العاصفتين، وشعره الذهبي الداكن. كان يرتدي ثوباً إغريقاً من جلد النمر، ويحمل قوسه الذهبي وفي جعتبه السهام الذهبية، أما عربته فصنعت من الذهب أيضاً، تجرُّها خيول بيضاء بأعراف ذهبية وعيون متوهِّجة.

كان “أبوللو” يعرف بأنه رب الشمس ثم أصبح سيد الموسيقا والشعر والرياضيات والطب، كما اشتهر بالحماقات الوحشية مما جعل “زيوس” يطرده من الأولمب، ومنعه من مصاحبة الآلهة.

          تحت عنوان “هرمس” الأخ الصغير “لأبوللو” تأخذنا الأسطورة عبر جمالية السرد، لتفرش أمامنا مساحات من الخيال الجميل أمام روعة الفكرة وجمالية البناء. فـبعد ولادة “هرمس” بخمس دقائق، يتسلل إلى قطيع الأبقار التي يملكها “أبوللو” ويسرقها، بعد أن ملأ قدميه بالعشب كي تلحق به، وهرب بها بعيداً.

عجز “أبوللو” عن العثور عليها، إلا أن “مايا” صادفته عندما كان يبحث عن مصدر الأصوات الجميلة، فأخبرته أن “همرس” قد صنع من قحف السلحفاة آلة موسيقية، ومن أمعاء البقرة أوتاراً. لحظتها أدرك أن من سرق قطيع البقر هو “همرس” حقيقة كما أخبرته الغربان، وكان قد كذَّبها.

          ويختم المؤلف باب الآلهة بـ “أفريديت” التي تُعرف بربة الجمال والحب، وعملها هو مسرتها وحرفتها وهوايتها، فهي لا تفكِّر إلا بالحب.

ولدت “أفرديت” من الزبد، فرفعتها الأمواج، ونقلتها الخيول إلى جزيرة “سيثيرا” وعندما سارت على الأرض انقلب الرمل إلى عشب أخضر وأزاهير مبرعمة، ثم ذهبت إلى “قبرص” فتفتَّحت الأزاهير أمامها، وامتلأ الجو بالطيور.

          ويفتح المؤلف باباً جديداً بعنوان “أساطير الطبيعة” يبدأ من (بروميثيوس، باندورا، فيثون، أورفيوس، نرسيس وإيكو، إيروس وسايكي، آريون.)

 في الوصول إلى باب أنصاف الآلهة نجد المؤلف يذكر العديد منها مثل: “بيرسيوس” و “ديدالوس” وتيسيوس” و “أطلنتا”. ثم يفتح المؤلف باب الحكايات، ويستغرق في جماليات السرد، وهذا ما نجده جلياً في حكايتين مميزتين هما:

حكاية “ميداس” وقد أخذت الحكاية اسم الملك “ميداس” الذي يحب الذهب كثيراً، وقد نقم على “أبوللو” لأنه يركب عربة الشمس، وينثر نثارها الذهبي على الكون فتطال الغني والفقير والراعي والأمير والملك والفلاح، فهذا النثار من الذهب برأيه هو من حق الملوك فقط. لقد عَلم “أبوللو” بما يدور في رأس”ميداس” وقال له عندما جاءه في الحلم: سألبي لك كل ما ترغب فيه، صاح “ميداس” “اجعل كل ما ألمسه ينقلب ذهباً”. صرخ وهو في نومه بصوت الشراهة والنهم، فهزَّ كل حارس من حراس بابه رأسه للآخر وقالوا: “الملك يصرخ، لا بد أنه يحلم بالذهب مرَّة أخرى”. ص195

أخذ الملك يتمشَّى صباحاً في الحديقة، وفكَّر في تجربة الحلم، ما إن لمس أوَّل زهرة حتى تحوَّلت إلى ذهب، فأصبح سعيداً جداً، وانهمك يلمس الأغصان والأزاهير والنحل، فتحولت كلها إلى ذهب. ولما أسرعت إليه طفلته، شكت له ما حلَّ بالورود، فهي لم تحبها على شاكلتها الجديدة. وطلبت منه أن يعيدها كما كانت. ولما اقترب منها، ولمسها تحوَّلت الطفلة إلى ذهب أيضاً.

لم يبال الملك بما حدث لطفلته، وانهمك يلمس الأشياء التي راحت تتحوَّل كلها إلى ذهب. لقد شعر الملك بالجوع فدهش عندما أخذ الطعام يتحوَّل في فمه إلى ذهب، حتى الماء أصبح كالرمل في حلقه، وختام هذه الأسطورة لا يخفى على أحد، فطالما تناقلها الناس والأطفال خاصة عبر النت فشكَّلت في أذهانهم حالة جمالية لا تنسى.

 أما الحكاية الثانية التي بعنوان: “بجماليون” فهي لا تقلُّ جمالاً عن الحكاية السابقة. والجمل المأخوذة من الحكاية دليل واضح على براعة “ايفسلين” في السرد والبناء الحكائي. تقول الحكاية: لقد نحت “بجماليون” تمثالاً على هيئة “أفروديت” وقد أحب التمثال كثيراً وطلب منها أن تحوله إلى كائن حي أمامه.

تعاطفت “أفروديت” مع توسله فقالت: أنت مجنون، مجنون تماماً، وهذا الجنون يسمى في أمثالك الإلهام، كما أعتقد، لا بأس أيها السيد الصغير، ضع ذراعيك حولها مرة ثانية. عانق بجماليون الرخام البارد، قبَّل الشفتين الباردتين، فشعر أن الحجر بات دافئاً، شعر بدفء الثغر، وأنه يتحرك في ثغره، شعر بالذراعين ترتفعان، وتضمانه بقوة، كان يمسك فتاة حية بين ذراعيه. ص207

          وأخيراً ينهي المؤلف عرض كتابه في الفصل الأخير الذي يتضمن عنواناً مهمًا لمضون مفيد جداً وهو “الميثولوجيا تصبح لغة”، يبين أن هناك العديد من الشخصيات والأحداث والأمكنة من الأساطير الإغريقية دخلت اللغة الانكليزية ومن المفيد أن نعرف، كيف انشقت عن الحكايات الإغريقية، وكيف أصبحت أسماء لربات وأرباب ولوحوش، وغدت جزءاً من حديثنا اليومي.

 “تلك الأساطير اليونانية مشبعة بالنور، وهذا النور أكبر من الطقس، إنه صفة أخلاقية، الأبطال يحبون المرح في الهواء الطلق، والطيران واقتحام البحر الملتهب، والتسابق على الهضاب، والصيد في الحقول، أما الوحوش فينتمون إلى الظلمة… “

بهذه الجمل الموحية التي طُبعت على غلاف الكتاب ختم المترجم عمله لتكون دليلاً مهمًاعلى مضمون الكتاب، فمن خلالها يستنبط القارئ أي مخزون ثقافي سوف يعرضه هذا الكتاب، وأي براعة في الترجمة قدمها الأستاذ (حنا عبود) لامتلاكه هذا الحس المرهف في نقل تلك المشاعر الفياضة التي كانت تشع بها تلك الأساطير البرَّاقة.

الكتاب: أبطال وآلهة ووحوش في الميثولوجيا اليونانية.

المؤلِّف: برنارد إيفسلين.

المترجم: الأستاذ حنا عبود.

دار النشر الهدى ودار الحقائق. سورية.

مصدر الصورة: https://2u.pw/AwGyw

أدب التاسع عشر بعد المئة فلسفة

عن الكاتب

سريعة سليم حديد