ميرزا غالب : الشاعر الأسطوري لا يزال مؤثراً في الهند المعاصرة

يُعدّ الشاعر الأسطوري الهندي ميرزا أسد الله خان غالب المعروف بميرزا غالب، أحد أهمّ شعراء شبه القارة الهندية الذي عاش في القرن التاسع عشر إبّان حكم إمبراطورية المغول (1797 – 1869)، والذي كتب شعره باللغتين الأوردية والفارسية لتعبّر عن حقبة كان لها النصيب الأكبر من الاضطرابات طوال التاريخ السياسي والاجتماعي لبلاده.

كان من أبرز شعراء الدولة المغولية التي خاضت عدّة صراعات ضد الاستعمار البريطاني كان آخرها ثورة السيبوي عام 1857 والتي انتهت بسقوطها، حيث كتب أشعاراً عديدة حول تلك الأحداث إضافة إلى قصائد الغزل التي لا تزال شائعة في التراثين الهندي والباكستاني، شغل غالب منصب شاعر البلاط خلال فترة حكم الإمبراطور المغولي بهادر شاه ظفر، والذي كان هو الآخر شاعراً معروفاً. وخلال السنوات الأخيرة من حكم المغول، كان صاحب “الكليات” معلم الشعر للأمير فخر الدين ميرزا، الابن الأكبر للإمبراطور الذي قام بتعيينه مؤرخاً ملكياً في بلاطه. وبعد سقوط الإمبراطورية المغولية عانى غالب كثيراً ليجني رزقه، حيث عاش حياة فقيرة وهامشية في منطقة تشاندي تشوك، وشهد الحصار والتخريب الذي فرضه الجيش البريطاني على الهند.

ولد ميرزا أسد الله خان غالب (1797 – 1869) في مدينة أكرا من أصول تركية سلجوقية أرستقراطية، توفي والده وعمه وهو في عمر الصبا، تبناه أخواله، اقترن في الثالثة عشر من العمر بابنة أحد أعيان المدينة، ربما لم تقلّ إسهاماته في الأدب المكتوب باللغة الأردية في أهميتها عن إسهامات شكسبير في الأدب الإنجليزي، وبدأ يكتب الشعر في الحادية عشرة من عمره بالتركية والفارسية، حيث كانت الأخيرة لغة البلاط المغولي آنذاك، ورغم أن ما كتبه بالأردية هو الأقل نسبة بين أعماله، إلا أنها تعتبر الأشهر في الشعر الأردي وشكّلت صوتاً تجديدياً فيه، والتي ضمّنه في ديوانه “الوردة الجميلة” (1826)،حيث تم ترجمة أعماله إلى الكثير من اللغات الهندية والأجنبية.

أشعاره قطعة من حياته اليومية

عاش الشاعر الفيلسوف، الذي طرح أسئلة عن الحياة، والدين، والمجتمع، الحياة بشروطه وطريقته وكتب كثيراً عن فلسفة الحياة والتصوف.

يخصّص غالب جانباً كبيراً من أشعاره في مديح النبي محمد والثناء عليه ومنها “السحاب الذي يحمل الجواهر” تمجيداً وتكريماً للنبي محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ما يوضح أن غالب كان مسلماً، وكذلك كتب قصيدة مكونة من 101 بيتا عن النبي محمد صلى الله عليه وسلم، ووصف غالب نفسه فيها كعاص ينبغي أن يقف صامتاً أمام النبي محمد صلى الله عليه وسلم فهو غير جدير بمخاطبته، كما اتسمت معظم قصائده بالحزن النابع من تجارب الحياة الصعبة، فقد أصبح يتيماً في سن صغيرة، وعانى في طفولته كثيراً، ثم تزوج لكن رحل سبعة من أبنائه صغاراً.

 لقد ساعدت بساطته وبصيرته في إقبال رجل الشارع العادي على شعره، بل في الطريقة التي جعل بها الرجل العادي أشعاره جزءا من مفرداته اليومية، يحبه الناس ويتذكرونه لأنه يمثل جزء من مشاعرهم، ويشكل وجدانهم، حتى الطفل قادر على فهم أبياته، ويمكن للمرء العثور في الأزقة الضيقة بدلهي القديمة على مصلحي أحذية، وسائقي عربات ريكشا، يرددون أشعارا لغالب بحماس في تعاملهم مع الشوارع الغادرة، وأزمة الوجود الأفعوانية المتشابكة، لا عجب إذن من أن تمر القرون ولا يأتي أحد يستطيع أن يصل إلى مكانته، وأن تظل أشعاره تتردد كأقوال صادقة مثلما كانت منذ زمن مضى.

لا يزال مؤثّرا في الهند المعاصرة

بالنسبة إلى الذين لا يعرفون اللغة الأردية، تثير ترجمة أشعاره مزيجاً قوياً من الحب والجمال والنشوة واليأس، يقول المؤرخ رانا سافي: «يلمس غالب وترا في قلوب الجميع، من النادر ألا يشعر المرء بعد قراءة أبيات غالب الخالدة أنه قد لمس وجدانه، لقد عاش ميرزا غارقاً في أحزانه، لكن ذلك لم يغيره، حتى عندما نفد ما معه من مال، وغرق في الديون، واصل العيش ببذخ.

بحسب مصادر تاريخية موثوق بها كان غالب يعاني من مشكلات مالية، ولم يكن لديه يوماً ما وظيفة بدوام كامل، وكان يعيش بفضل رعاية أفراد من العائلة المالكة وأصدقائه الموسرين، لم يحظ إسهامه في الشعر والنثر بالتقدير الذي يستحقه في حياته، لكنه بدأ يجذب الانتباه حقاً بعد مماته حتى تم تحويل أعماله النثرية إلى أشعار غزل خالدة. رغم كل الصعوبات المالية والاضطرابات العاطفية التي مر بها غالب، أبحر في حياته بذكاء وفكر وحب للحياة، وتُوفي عن عمر يناهز الواحدة والسبعين في منزل يقع في تشاندي تشوك في دلهي القديمة، وحُوّل منزله فيما بعد إلى متحف التراث، يجلب الكثير من الزوار القادمين من الهند وخارجها حيث يوجد داخل المتحف صور بالحجم الطبيعي لأشعار غالب باللغة الأوردية مترجمة إلى الإنجليزية والهندية، وتمثال نصفي له، ونسخ من خطابات شهيرة مكتوبة بخط يده، وملابسه، وبعض الأواني النحاسية التي تعود إلى الزمن الذي عاش فيه الشاعر. ويقال: لو كان قد كتب بالإنجليزية، لكان قد فاز بجائزة نوبل. الجدير بالذكر أنه تم إنتاج الكثير من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية التي تتناول قصة حياته.

نماذج من أشعاره المترجمة إلى العربية:

أولا: تحت عنوان” تموت القطرة في النهر – ترجمة: د. شهاب غانم

تموت القطرة في النهر

من فرحتها

ويرحل الألم بعيدًا إلى الحد الذي يشفي فيه نفسه

في الربيع بعد الأمطار الغزيرة

تختفي السحب

التي لم تكن سوى دموع

في الربيع تستحيل المرآة إلى اللون الأخضر

وهي تحمل معجزة.

غير الرياح المتألقة.

لقد قادتنا الوردة إلى عيوننا

فلتدع كل ماهو كائن يتفتح

الوردة ببتلاتها العبقة

زنبقة الماء بثوبها البتولي الأبيض

لا شك أن هاتين قد جائتا إلينا مهاجرتين

قلة فقط من هاتيك المخلوقات

هي التي وهبت الجمال السامي والجلال

بعضها تحتضن الموت لتنبت من جديد

ولكن الأكثرية تبقى في التراب إلى الأبد.

وشعر آخر مترجم بقلم الشاعر والكاتب السوري نوزاد جعدان عنوانه: “ليس مكتوباً لي وصالُ حبيبي “- ورود اسم الشاعر في أخر بيت من القصيدة، كان عرفاً متدارجا عند شعراء الأوردو في ذلك العصر:

ليس مكتوباً لي وصالُ حبيبي

إن طالَ عمري سيبقى لقاؤه أمنيتي

العيشُ على أملِكَ كذبة

صدّقني لن تقتلني سعادتي إن وثقتُ بأملي !

علمتُ إنَّ وعدك هشٌ من غنجك

شخصٌ ما سألني عن السهم المغروز في فؤاديِ

لما كنتُ شعرتُ بكلِ هذا الألم لو ثقبت قلبي

أيُّة صداقة هذه حينما تصبح نصائحَ!

على أحدهم تخفيف ألمي ومؤازرتي

تضخُ الدماءُ من كلِّ عصبٍ في جسمي

دونَ تحكمِ

أتظنُ هذا كلهُ ألمٌ إنهُ كربٌ مثار

ما من مفرٍ من الحبَ، هو تهديدٌ دائمُ

إن لم تعذّب بالهوى

هناك عذاب الحياة !

لمنْ سأروي آلامَ ليالي الحزينة

ما كنتُ مقيماً في الردى

لو جاء لمرّة!

متُ وخزيتُ وأصبحتُ كالغريقِ

لا جنازة وما من قبرٍ منصوبِ!

من يستطيع رؤيته منذ أن توحد دون شريك

حتى لو كانت ذلك مقدمة للكفر !

هذا التصوف يا غالب وهذا بيانكَ

كنتَ قديساً لو لم تكن نديمَ الكأسِ!

على الرغم من أن غالب كان رجلا مؤمنا، إلا أنه لم يكن أبدا إنسانا متديّنا، ومثل الكثير من الصوفيين الذين أتوا قبله وبعده، لم يكن يعترف بأيّ تمييز بين طبقة وأخرى أو بين دين وآخر، ويمكن اعتبار شعره صدى لهذه الرسالة العالمية.

وجاذبية شعر غالب هي اليوم أكثر قوّة ممّا كانت عليه أثناء حياته. شعره هو انعكاس للطبيعة المتأصّلة فيه كإنسان. وهو في شعره يتناول شتّى المشاعر الإنسانية كالحبّ والبؤس والوجود والعدم، يقول في موضع آخر: “بحقّ الله، لا ترفع العباءة التي تغطّي الكعبة، أخشى أن يكون الكافر الذي تحتها معشوقي.”

ميرزا غالب ما يزال يتمتّع بشعبية كبيرة في الثقافة المعاصرة، وقد تغنّى بأشعاره الغزلية العديد من مشاهير الغناء الهنودو كبار مطربي الهند كعندليبها كاندال سيجال وموكيش وسي اتش أتما، والباكستانيين مثل عابدة برفين ونور جيهان ونصرت فاتح علي خان وغيرهم، وجسد شخصيته الممثل الهندي بهارت بوشان عام 1954 في فيلم سينمائي من إخراج العملاق سوهراب مودي، كما مثل شخصيته الممثل الكبير نصير الدين شاه في فيلم تلفزيوني يحمل اسمه عام 1988.

وبالإضافة إلى غنى شعره تمتاز رسائله بثرائها الأدبي، حيث تعد في طليعة الكتابات النثرية المتميزة باللغة الأوردية.

مصدر الصورة:https://2u.pw/d893y

أدب العدد الأخير العشرون بعد المئة ترجمات

عن الكاتب

محمد منصور الهدوي