صادق جواد من المفكرين العمانيين المعاصرين، وأراه يقترب من تبني الجانب الرّبوبي، وكما أخبرني بعد منتصف الثّمانينيات من القرن العشرين استقر فكره على العلم الطّبيعيّ والاجتهاد الإنسانيّ المربوط بالاستقامة، “فأنا لم أنبذ المعرفة الدّينيّة، ولكنّها لم تكن تملك كامل أو شموليّة الصّحة لما تطرحه في الخارج”.
إلا أنّ بدايات التّساؤل عند صادق جواد كانت مبكرة جدّا، وهو في بداية العقد الثّاني من عمره، “من البداية كانت جميع المسائل عندي مفتوحة، فالعلم هو ما يستقر في الذّهن ممّا يطابق الواقع في الطّبيعة، والّذي يستقر في الذّهن ولا يطابق ما في الطّبيعة فليس علما، وما يستقر في الذّهن ليس نهاية المطاف؛ بل هو مرحليّ، فقد تستصوبه وتبلوره ويتسع عندك، وقد تتجاوزه”.
وبعد تجربة طويلة من حياته، وهو يقترب من التّسعين من عمره، يخلص “على الإنسان أن يَعنى بثلاثة أمور أساسيّة قبل الاعتناء بالأمور الكليّة والسّياسيّة، ابتداء أن يصون نفسه أي صحة بدنه، ثمّ أن يوسّع من معارفه، والاستعانة من أفكار الآخرين وبحوثهم، والثّالث الاستقامة”.
لقد حسم صادق جواد من الابتداء سؤاله الوجوديّ: “أين توجد المعرفة الحقيقيّة؟ ظلّ هذا التّساؤل يصاحبني حتى حُسِم، ولمّا حُسِمَ كان لصالح العلم، وليس لصالح العقائد أو الفقه”، ليبحث بعدها عن الإله، ويتأمل هذا الكون وعلاقته بهذا الإله من مطرح فالكويت والعراق فمكّة فالهند إلى أمريكا وإيران والعديد من دول العالم، مختلطا بالأديان والفلاسفة، مطلّعا على الحكمة والاجتهاد الإنسانيّ، ليستقر به المقام على وجود ذات غير مشخّصة موحدة، ويرى جميع الأديان بما فيها الإسلام شخّصت هذه الذّات في إسماء وصفات بشريّة.
فهناك قوّة فاعلة في هذا الكون، إلا أنّه في تفسيره يقترب من وحدة الوجود، أو الطّبيعة أو الكون، كما يرى أنّ الإنسان لا يفنى؛ لأنّ “التّشكل الإنساني تشكّل زائل، وذرات من الأرض تجمّع بها هذا الجسد، ثمّ عندما يهترئ الجسد، وتعود الذّرات، وتتوزع وتعود إلى مكان آخر، في شجرة أو حيوان أو أيّ شيء، فالذّرات لا تفنى ولا تزيد في الكون”، ويرى أيضا أنّ “الكلّ – أي في الكون – من طلعة واحدة، فنحن فينا ما في النّجوم والبحر والحيوان، فهي ذرات تتجمّع وتتفكك وتعمّ العالم، فهو وجود واحد، كلّ يخضع للسّنن والقوانين نفسها، فتكوننا جميعا واحد؛ وإنّما تختلف الأشكال والأحجام، ولمّا نموت هذه الذّرات تنتثر، لكنّها لا تفنى في الكون، وإنّما تتشكل في مخلوقات أخرى كقطة أو كلب أو بقرة أو إنسان آخر وهكذا، ونحن أيضا من غبار النّجوم وفضاءات أخرى”.
ويعبّر عن الجسد بالنّفس، بينما الرّوح “شيء أزلي أبدي، ليس لها شكلا لتزول فتنمو في مكان آخر ليقال إنّها زالت، ولأنّها هي من روح الله فهي كالخالق تبقى ولا تزول”، فهو يرى أزليّة الرّوح، إلا أنّ الجسد يتشكل بعد الموت في مخلوقات أخرى وفق سنّة طبيعيّة واحدة غير متناهية.
لينطلق بعدها إلى أدبيات الحكمة القديمة المودعة في الصّحف الأولى عند الأنبياء، فهل هي وحي أم إلهام، هذا السّؤال لم أجد صادق جواد يصرّح الجواب عنه، وإن كان مساق فكره يقود إلى الثّاني، فيرى أنّ “الفرق بين الحكيم العادي وبين النّبيّ أنّ الفكرة الّتي تستقر عند النّبيّ تبلغ رسوخا لا تبلغه عند غير النّبيّ، فيصبح النّبيّ والرّسالة الّتي يأتي بها شيئا واحدا”، فيرى الأنبياء كالفلاسفة يجتمعون في الإصلاح، لكنّه يرفض فكرة الخلاص، “ولمّا نظروا إلى حراك الإنسان وجدوا أنّ هذا الحراك فيه تخبّط وشطط كبير، وهذا لن ينتهي إلا أن يأتي شيء حاسم ينهيه وينقلنا إلى شيء آخر، فتصوّروا أنّ للكون نهاية، ونهايته تكون عندما يأتي مخلص كمسيح أو مهدي أو نحوه، وهذا كلّه من قبيل كما يقول الطّغرائي [ت 513هـ]:
أعلل النّفس بالآمال أرقبها ما أضيق العيش لولا فسحة الأمل”.
ويعلل فكرة الخاتميّة في الأديان والإسلام خصوصا لأنّ “النّاس ظلّوا في الأرض يحتاجون إلى من يوجد لهم الطّريق الصّحيح للاهتداء به، فكان الأنبياء عندما يشطّ النّاس عن الطّريق يأتي نبي ليرجعهم إلى الطّريق الصّحيح، إلى أن جاء خاتم الأنبياء، ونقل ما عنده من رسالة، وعليه لم تعد الإنسانيّة في حاجة إلى نبي، فما احتواه من خبرة ومن رشد فلم يعد في حاجة إلى من يهديه”.
لهذا يجد صادق جواد أنّ “رسالات الأنبياء بمضي الوقت انطوت على نفسها، وبذا ابتعدت عن رافد المعرفة العلميّة، فركدت، وأمّا أفكار الفلاسفة انطلقت مفتوحة على المعرفة العلميّة، فتطوّرت، وفي القرون الأخيرة صيغ بها العالم المعاصر ولا يزال يصاغ”.
ومع هذا يرى أنّ “بين الدّين والفلسفة تصاحب عبر التّأريخ، ولمّا تأخذ الدّين من جانب الطّقوس والممارسات فهذا شيء، لكن لمّا تأخذه من خلال جوهره تجد أنّه لا يبتعد إطلاقا عن الفلسفة”، إلا أنّه حين التّعارض يكون الحكم للعلم أو الاجتهاد الإنساني، “فالعلم هو ما يستقر في الذّهن ممّا يطابق الواقع في الطّبيعة، والّذي يستقر في الذّهن ولا يطابق ما في الطّبيعة فليس علما”، حتى ولو ورد في صحف الأديان وأدبياتها.
لينزل فكره إلى الدّين الإسلامي الّذي ينتسب إليه ولادة، فيخلص أنّ “محوريّة القرآن تبقى كما هي، والأحاديث نتخلى عنها قليلا، فكما قال كمال الحيدريّ [معاصر] إنّ خمسة بالمائة يصح من صحاح الشّيعة، وقرأت من سنوات بعيدة لمحمّد جواد مغنية [ت 1979م] أنّ سبع عشر بالمائة جاء صحيحا فقط في أصل الكافي، وأصبحت مدركا ما أودع في هذه المجلّدات الضّخمة هي كتلمود اليهود، فأودعت فيها أمور كثيرة نخرج عنها، فبقي محوريّة القرآن، وهنا تعترضك مسألة مهمّة جدّا، وهي أنّ القرآن الكريم فيه عقائد غيبيّة، وهذه لا شأن لنا فيها، فكما تريد أن تعتقد فاعتقد، وكم من أناس يظهرون شيئا ويستبطنون شيئا آخر، فالتّوحيد والنّبوّة وصلتها بالسّماء والملائكة مثلا فلا يمكن التّغيير فيها، والنّاس أحرار كيفما يتعاملون معها، وأمّا الشّيء الثّاني في القرآن الكريم الأحكام أي الشّريعة، وهناك مبادئ عامّة، فيبقى شغلنا في المبادئ والأحكام، فالمبادئ أيضا تبقى كما هي؛ لأنّه لا ينظر إليها أنّها أتت من السّماء، وإنّما ينظر إليها لأنّه بها تكون صيانة الإنسان، فهي إنسانيّة عامّة، ولها صحة وثبات مستدام، وأمّا الأحكام فهي معلولة بعللها، أي أصبحت ظرفيّة، وهي موصولة بالمبادئ، ففي الإسلام في الميراث للّذكر مثل حظ الأنثيين، حيث كان هذا أمثل صورة للعدالة، لما كلّف به الرّجل من نفقة وغيره، فهذه صورة مثلى أن يجعل النّصيب الأكبر لمن كلّف بالنّفقة وتولي المسؤوليّة، فلمّا اختلف الزّمان والظّرف، وصارت المساواة بينهما، فإذا دخلت المرأة الجامعة لا يُقال لها ادّفعي نصف أجر الرّجل، وكذا إذا اشترت سيارة، فإذا لا توجد مراعاة في هذا فلماذا يكون لها نصيب نصف الرّجل في الميراث؟ فهنا تنظر إلى المسألة من جانب الكلّ لا الأجزاء”.
فهو في الجملة “ضدّ فكرة إصلاح الأديان، لتبقى كما هي، فهي أرث إنساني مهما كانت، عاشت بها شعوب كثيرة، ولكن لمّا تقول كيف أنظّم مجتمعي اليوم؟ هذا شيء آخر، ولكن لا تنال من القديم؛ لأنّه دخل في تهذيب الإنسان بشكل أو بآخر”.
وعليه في الاجتهاد الإنساني حسب رؤية صادق جواد، من حق الشّعوب أن تعتقد وتمارس ما تشاء، ولكن في التّعامل وإدارة الشّأن العام تكون هذه الأحكام خاضعة للأنسنة من جهة، والظّرفيّة من جهة ثانية.
أمّا الأنسنة الّتي يراها صادق جواد ليس بمعنى أنسنة النّص أو أنسنة التّأويل، وإنّما الأنسنة من حيث المرجعيّة، “من أوجه الأنسنة وجه يحاول فيه الفلاسفة المسلمون أن يقتربوا من الأنسنة عن طريق التّأويل، فتبقي النّص كما هو، وإنّما تجنّحه لصالح الأنسنة، وهذه في الحقيقة محاولة الاقتراب من الأنسنة، وليست هي الأنسنة، حيث أنّ معنى الأنسنة أنّه ليس فوق الإنسان شيء، فالاجتهاد الإنساني حتى ولو كان قاصرا، فهو الّذي ينبغي أن يكون في فهم الطّبيعة وفهم أنفسنا ومسالك الحياة، فهي تفك الارتباط عن أي شيء فوق الإنسان، فالإنسان يهتدي بنفسه”، “والأنسنة لا ترفض الأديان، فليست أفيون الشّعوب كما عند ماركس [ت 1883م]، فهي فهم للعالم من خلال أنسنة الإنسان، وبهذا تشمل الأديان في مراحلها التّأريخيّة”.
وأمّا الظّرفيّة فيرى عللها مرتبطة بالمبادئ، و”المبادئ لها صحة وثبات مستدام فهل نقول إنّ للأحكام كذلك؟ فالأحكام لمّا كانت متسقة مع المبادئ في حينها لم تعد متسقة في حين آخر، فإذا كان لابدّ من تغيير أو تطوير فيكون في الأدنى أي الحكم وليس المبدأ، فالأحكام جوانب إجرائيّة تتحرك بما تفيء بمتطلبات المبدأ”.
والمبدأ عند صادق جواد مطلق النّفع من جهة، ومرتبط بالماهيّة من جهة ثانيّة، أمّا الأول فهو “مطلق النّفع ليس له حدّ من مردوده، وأن يكون مستدام الأثر في كلّ زمان ومكان، فهو لا يتغير لأنّه يصون الإنسان”، ويتمثل في خمسة مبادئ: العدل، والكرامة الإنسانيّة، والمساواة، والشّورى، واعتبر المبادئ تتمحور في هذه الأربعة لأنّها “أساسيّة جامعة، وذات قابلية الانطباق على عموم المجتمع البشري، فليس هناك فرق في المبادئ بين النّاس، ومدركة عند عموم النّاس عقلا أنّها ضروريّة للمجتمعات الإنسانيّة، وغير محدّدة المردود؛ لأنّ بعض الأفكار محدّدة المردود إذا تجاوز فيها حدّ أنقلب ضدّه”.
وتحت المبادئ تأتي القيم، “وهي تضفي شيئا على الإنسان باكتسابه، كالعلم مثلا لمن يطلبه، والتّعاون مع النّاس لمن يروّض نفسه بذلك، والصّدق من أعالي القيم، فالقيم تتفاوت بين النّاس نسبيّا، ولكنّها تسمّى قيمة لأنّها تضيف شيئا في الإنسان”.
ثمّ تأتي الأخلاق، والخلق عنده “حالة داخليّة ذاتيّة لا علاقة لها بالمعشر الخارجي، فقد تجد إنسانا حادّا لكن قلبه نظيفا، فبنيته الدّاخليّة نظيفة، ولمّا نقرأ في القرآن: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم/ 4] ليس بمعنى المعشر، وإنما الذّات في الدّاخل طاهرة نظيفة”، فالأخلاق هي “المسلك الدّاخلي الّذي ينضح بإنسانيّة الإنسان في كلّ مناهجه”.
ويحبّذ صادق جواد في التّعامل الإنساني التّعبير بالاستقامة بدل الخلق، لسبب سوء استخدام هذا المصطلح ومطاطيته، ولكنّه يرى الاستقامة “لا تعني البحث عن فلان وعلان ماذا فعلوا وقالوا، وإنّما أوجد في ذاتك إلزاما لنفسك بعد صيانة البدن، وتوسيع المعرفة وفهم الوجود، على أن تكون ملتزما بها”.
ومن خلال هذه التّراتبيّة يرى أنّ “العادات والتّقاليد لم ترد في الأثر الإسلامي بذكر حميد، ونجد هذا في القرآن الكريم: {إِنَّا وَجَدْنَا آَبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آَثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ} [الزّخرف/ 23]، والّذي جاء في أدبياتنا الإسلاميّة العرف، والعرف ما تعارف النّاس على صلاحه، فبعض ما نسميه عادات وتقاليد يلامس هذا العرف، وفي القرآن للعرف مكانة في تنظيم المجتمعات، وفي الحفاظ على وئامها واستقرارها في الدّاخل، {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف/ 199]، وهذا للنّدب”، ويرى الحاكميّة في ذلك للمبادى.
ومن جهة ثانية يرى المبدأ مرتبطا بالماهيّة لا بالهوّيّة، فالماهيّة “تُعرّف الإنسان من حيث كينونته الوجوديّة، أي تلك الّتي نشأ من رحمها أصلا، وبقي عليها فطرة، مدى ما عاش، أيّا كانت معرفات هوّيته”، والهوّيّة “تُعرّف المرء من حيث انتماءاته الخارجيّة، أي تلك الّتي بعضها ألحقت به من مجتمعه، والبعض الآخر اتخذها هو لنفسه”، وعليه “الإنسان بماهيّته الوجوديّة أولا، ثمّ بهوّيّاته الانتمائيّة، بمعنى بقدر ما يرّشد الإنسان هوّيّاته الانتمائيّة بوعي من ماهيّته الوجوديّة بقدر ذلك يصلح ويترشّد وينمو في إنسانيته”.
لهذا يربط صادق جواد بين الماهيّة والإنسانيّة من جهة، وبين الماهيّة والمبادئ من جهة ثانية، وبذلك “ينتظم بها شأن المجتمع الإنساني جميعا في دائرة الصّلاح والنّماء والتّطور نحو الأحسن، بغض النّظر عن الفوارق التّعدديّة بين الشّعوب من تنوع ثقافي وديني ومذهبي وعرقي”، “فالمبدأ مساحته غير محدودة، فالمبادئ يصلح بها حال أيّما مجتمع، وفي غيابها يتدنى ويفسد، وهذه المبادئ لا تلزم أحدا بأيّ عقائد غيبيّة، ولا شعائر وطقوس عمليّة، فهي مبادئ يحتكم إليها في تنظيم المجتمع”.
وعليه يخلص أنّ “الإنسانيّة ليست موقعا أو مرحلة أو حالا جامدا، الإنسانيّة في ارتقاء أو في انحدار، فإذا انحدرت تلامس البشريّة الحيوانيّة، وإذا ارتقت تلامس ممّا لا سقف للارتقاء، ولمّا تقول إنّ للإنسان نزعات سلبيّة فنعم، فملكة التّفكير ممكن أن تنحرف بالإنسان إلى إنتاج شيء سلبي، كما نجد في الأسلحة وغيرها، ولكن إذا كان ارتقاء الإنسانيّة إلى الأعلى فتجد أنّها تتوجه إلى توائم أكثر وأكبر وأعرض بالرّوح، والرّوح صفاء كامل، لا تشوبها أيّ شائبة، فالإنسان نعم ممكن أن ينحدر وممكن أن يرتفع”.
وبعد هذا التّدرج يصل إلى نظريتين لها علاقة بالشّأن الإنساني، الأولى نظريّة الإيمان، فليس عنده بالتّفسير التّقليدي، وإنّما الإيمان الّذي لا ينفصل عن هذا الكون، والمرتبط بالعلم أولا، ثمّ الخلق، فهو حالة منسجمة مع الذّات من جهة ومتصالحة معها، ومسالمة للآخر، ومنسجمة مع الكون، لهذا تأتي النظرّيّة الثّانية وهي سنّة الاقتضاء، “بمعنى ما يحدث يحدثُ بمقدّمات توصله إلى الحدث أو الفعل، هذا الاقتضاء له طريقه ومساره، والإنسان نفسه عامل في هذا الاقتضاء، فالمريض مثلا يؤخذ إلى الطّبيب ثمّ يشفى، فالمرض نتيجة اقتضاء وكذا الشّفاء، وأمّا مشيئة الله فهي مودعة في السّنن الكونيّة، وليست منفصلة عنها، حيث يحدث في حينه بمسبباته عكس القضاء الّذي يفيد أنّه مقضي من سابق”.
بعده هذه التّأملات عند صادق جواد، وما نتج عنها من مقدّمات سنجدها ملازمة لتفكيره وتحليليه للعديد من الأمور، وسيجد القارئ في الكتاب العديد من النّماذج التّطبيقيّة لذلك، ونشير هنا مثلا منظومة الحقوق والمواطنة، فهو يرى أنّ “للحقوق منظومتان: منظومة حقوق الإنسان، ومنظومة حقوق المواطنة، وبالنّسبة للأولى ليست لأيّ دولة معينة، فهي عالميّة لها مواثيقها وأدبياتها، ولا يصح لأيّ دولة التّدخل فيها، وإنّما عليها الموائمة من خلال المرجعيّة العالميّة، وأمّا حقوق المواطنة فيدخل في هذه الدّولة، ولهذا نجد حقوق المواطنة تختلف من دولة إلى دولة، عكس حقوق الإنسان، والمعادلة كلّما كانت حقوق المواطنة وافية من حيث تلائمها مع حقوق الإنسان كلّما كانت أقرب إلى الإنسان وحقوقه وكرامته، فعلى الدّول أن تنظّم حقوق المواطنة في تلائم مع حقوق الإنسان؛ لأنّ حقوق الإنسان أكثر سعة”.
كذلك مثلا الحريّة حيث “يتصوّر العديد أنّ الحريّة هي مبدأ، والصّحيح هي قيمة ضروريّة بقدر ما تمكّن الإنسان من الإبداع والإنتاج؛ لأنّها ليست مطلقة النّفع، فالحريّة بدون مسائلة تخرج عن حدودها، وشرط المبدأ – كما أسلفنا – أنّه مطلق، فالحريّة يقابلها المسائلة، فلا يمكن أن تولّي شخصا مسؤولية بدون مسائلة، وإلا حدث انفلات”، “والحريّة الّتي تبحث عنها هي ليست في المسلك؛ وإنّما هي في الفكر، ولا يوجد قيد على مستوى الفكر، ولا على مستوى العقائد، هذه الحريّة مطلقة، لكن أن تتصرّف كأن تقول أنا هكذا أرى لذلك أنا أتصرف هكذا؛ هذا شيء آخر يختلف، والقرآن لم يستخدّم كلمة الحريّة، إنّما استخدم كلمة الحر، ورسم العرب لكلمة الحر بمعنى النّبيل الكريم الشّهم، فليس من باب أنّه طليق، فرب طليق ليس حرا، وربّ حر هو ليس طليقا، وتستشهد من هذا أنّ الرّسول الأعظم لمّا دخل مكة، وأحاط به الجماعة الّذين عادوه، وهم خائفون لما سيعمل فيهم، وجاء أبو سفيان [ت 31هـ] وقال: ما أنتَ صانع بنا؟ فقال له: اذهبوا فأنتم الطّلقاء، ولم يقل أحرارا”.
[1] هذه القراءة التّمهيديّة من خلال الحوارات الفكريّة مع صادق جواد في قناة (أُنْس) اليوتيوبيّة، وبعض المناقشات العامة معه، كتبتها لأعطي صورة عامّة حسب ما أتصوّره من حياة وفكر صادق جواد، من خلال هذه اللّقاءات، وليست إملاء منه، فليس بالشّريطة موافقتها للواقع، ولكن عسى أن تقترب من الواقع، ومن جهة أخرى تعطي مقدّمة تصوّريّة عامّة لكتاب يصدر قريبا بعنوان: “الإنسان والماهيّة: حوارات مع صادق جواد حول الدين والفلسفة والإنسان”.
مصدر الصورة: http://alsultanah.com/contents/albumsm/1180.jpg