أزمة قراءة الشعر في مجتمعنا حول نص أخوة مجهولة للشاعر سيف الرحبي

كتب بواسطة محمد السناني

هذا الجدل الدائر حول نص قصير للشاعر الكبير سيف الرحبي اختارته وزارة التربية والتعليم كمادة للاختبار النهائي لمادة اللغة العربية لطلبة الدبلوم في سلطنة عمان يكشف لنا عن هشاشة طرق التدريس وفهم اللغة العربية وأدبها عوضا عن هشاشة التعليم. ليس واضحا الآلية التي جرى بها اختيار مقطع  مجتزأ من سياق كتاب شعري، دون مراعاة انقطاع الطالب عن الحداثة الشعرية العربية وأسئلتها ومساءلتها للتاريخ والعالم. هذا الطالب الحائر التائه أمام مناهج دراسية معقدة كأنها تريد أن تكسر عقل وطاقة وخيال الشاب والشابة بامتحانات عسيرة. هنا لا أخلي الطالب من مسؤولية أمام العلم والمعرفة والأدب، فهذا الطالب البارع في استخدام التقنية من خلال الألعاب الإلكترونية والذي بإمكانه أن يلعب لمدة يوم كامل هازما الأعداء الافتراضيين بكل سهولة ويسر تجده ويا للغرابة يقف عاجزا عن قراءة نص شعري قصير، لا بل يسيء  للشعر والشاعر بكل صفاقة. إلى أين يذهب هذا الجيل؟ ليست هذه المقالة محاولة للدفاع عن أدب الشاعر العماني سيف الرحبي فهو ليس بحاجة لدفاعي الشخصي كما أن الشاعر ما يزال حيا وبإمكانه الرد إن شاء، بيد أن تحميل الأدب مسؤولية فشل المنظومة التعليمية لظلم فادح وعزلة جديدة للشعر الحديث المغيب عن عقول وأرواح الأجيال الجديدة.

إن من المتفهم صعوبة تدريس اللغة والشعر على رأسها في مدارسنا لأسباب عدة وأهمها ضعف الكادر التعليمي من حيث إيجاد الوقت الكافي لكل طالب للتعامل مع المنتج الأدبي وفهمه وتحليله فكيف يتسنى للطالب والمعلم أن يصلا لمستوى الفهم الواحد من حيث الشرح؟ ناهيك عن انهماك وقت الطالب المسكين بسبع حصص لمواد وعلوم مختلفة يوميا!

لكن من هو سيف الرحبي؟

سيف الرحبي هو رحالة جوال، تروبادور حقيقي. تنقل واستقر في العديد من المدن العربية والغربية. مبدع في تصوراته عن الذات والعالم. وطنيٌّ وعربيٌّ غيور. صادقَ كل الأحرار العرب وغيرهم. دفع من حياته ثمنا باهظا غيرةً على العروبة والإنسان، وعندما قرر العودة كرمته الدولة بأن فتحت له باب دعمها الكبير لإنشاء مجلة ثقافية هي اليوم مجلة كل العرب والعالم، منفتحة على مدارس الفن والإبداع رصينة في طروحاتها عن الشعر والرواية والسينما والموسيقى، إنها مجلة نزوى، والتي خلال أكثر من ربع قرن دار دفتها باستبصار ورؤيويه الشاعر سيف الرحبي وستصبخ هذه المجلة نسخة نادرة في يوم من الأيام كنسخ الأحبة النادرة.

حول القصيدة أو كما ينبغي فهم القصيدة

من خلال العنوان (أخوة مجهولة) تعترف القصيدة بداهةً أن ثمة أخوة مجهولة هي الإنسان بعمومه، بصرف النظر عن اللون والجنس والدين والعرق، ناهيك عن الحيوان. الطبيعة المتناغمة ولحظة القصيدة الثمينة كما يصفها (جادت بها سماء هذا اليوم). في هذا النص، يجب علينا أن نستمع لأعظم النغمات وأحقرها، هكذا يقول الشاعر في قصيدته (لم أتبينه بوضوح كان غارقا في نظارته السوداء) يخفي الطرف الآخر عن الأول ملامحه، تماما كما يحصل الآن (إذ تلقيتم الجرعة الأولى وما زلتم تلبسون الكمامات) هنا سأقول لكم سرا تعرفونه (إنه العالم ينهار فنعيد بناءه فينهار فنعيد بناءه فننهار نحن) هذه كانت قصيدة لشاعر ألماني كبير كشاعرنا العماني سيف، وهو راينر ماريا ريلكه.

كيف أن رجلا عمانيا يستوقف بسيارته في محطة البنزين ليرى رجلا عمانيا آخر في سيارته يحيه: وحياني بمودة طافحة)، والطفح هو كل ما يفيض من النفس (معنى طفح في قاموس المعجم الوسيط، طَفَح الإناءُ أو النهر أو الحوضُ ونحوهُ، طَفَح طَفْحًا، وطُفُوحًا: امتلأ حتى فاض من جوانبه) -نقلا عن المعاجم- ولم أسع إلى معرفة هذا الراشح من تضاريس الأزمان (يا للجمال يا للدهشة، هذا الراشح من بين الأزمان هذا القادم الجديد لديكم، وهو هنا شاهد القصيدة ذاتها).

يختم النص الشعري المتداول ذو النوازع البشرية العميقة وهو في سيارته ذات الهواء البارد، يختم نشيده برد التحية لهذا البشري المجهول: (اكتفيت بالتحية والتي تأرجحت في الهواء الجريح) لم يكتف الشاعر بوصف التحية بالتأرجح، وليس التحليق، كأنه يصف جناحي فراشة هنا. وأكمل وصفه في هذا الجملة المحكمة: الهواء الجريح. يا له من هواء جريح، جريح بأنفاسنا ومخدوش بتحياتنا. أتخيل أحيانا أن الحقيقة قد تكلمت لنا كما يقول ديكارت بالرياضيات وكما يقول نزار قباني بالشعر.

هنا سيف الرحبي يدغم صوت الحقيقة بالرياضيات والشعر. شاعر رائي يكشف لنا ما تفتح من خلجات نفسه المنطوية على وعي عميق بالنفس والعالم والماوراء. تلك التحية التي شقت طريقها كما يصفها الشاعر، شقت الطريق الحافل بجثث التاريخ والصراعات الأزلية بين بني البشر والطبيعة. تواصل طريقها تلك التحية التي تشكل إشارة لأخوة مجهولة كان لها الدور في دحر جيوش الحزن أو كما يصفها الشاعر بـ(فيالق الكآبة) المحتلة والغازية قلب الشاعر. تنتهي القصيدة أو النص وهي للعلم مقطع من نص شعري سردي طويل كتبه الشاعر بأكثر من طريقة اشتهر بها ومنها الطريقة الشذرية المعتمدة كثافة الجملة واختزالها وإيجازها لتحتوي على دلالات كبرى بأقل الألفاظ.

 في كتاب التقرير السري عن الشاعر غوته للكاتب السوري الألماني رفيق شامي. يصور الكتاب  عالما سريا يوشك على الولادة، أن هناك جزيرة في الخليج العربي تخرج من البحر فجأة ويسميها الساكنون الجدد لها باسم جميل وهو حلم. يجتمع أهل الجزيرة ويشكلون مجلس حكم حقيقي ويعينون فيما يعينون رجلا باحثا يرحل في مهمة عمل سرية لألمانيا ليدرس في مدارسها ويتعلم لغتها ليتعرف على أعظم شعرائها يوهان وولفانغ غوته والذي يعد متنبي ألمانيا والذي ينسب نفسه لثقافة عالمية عربية وشرقية عظيمة. نراه يمجد النبي محمد والمتنبي والصحابة والشعراء الفرس وحكمائهم أيضا في أشعاره وكتاباته. وعلى مدار ليالٍ سبع بعد أن يعود الباحث للجزيرة، يبدأ في استعراض سيرة وأعمال وروائع الشاعر غوته أمام المجلس، ليقرر المجلس بعدها اعتماد أعمال الشاعر كمادة تعليمية للطلبة في مدارس جزيرة حلم. إن العلم والمعرفة وتعلم الآداب والفنون حديثها وقديمها هو السبيل الأوحد للإنسان ليرتقي في مراتب الإنسانية.

خلاصة

قلب الشاعر هو موئل ومنتهى أحلامنا حيث إنه المتحدث الأخير بالنيابة عنا، يمد يده في الحلم ليلامس المطلق ويعود ويده على حد تعبير رفيق شامي (ملأ بالنجوم) لا يليق بنا ولا بتراثنا الحديث والقديم أن ندير له الظهر من أجل معنى لم نجده في النص. القصيدة تتخفى ويتخفى شاعرها خلف حجاب الأصوات والمفردات والاستعارات ولن يصل القارىء إلى جوهرها إلا بالصبر والمكابدة والانتباه الدقيق لنبض الكون في الكلمات. إن ما كتبته ليس دفاعا عن شاعر ولكنه دفاع عن القصيدة التي هي طوق نجاة شبه أخير لنا كبشر وسط لجج الحروب والأوبئة وهي أخوة مجهولة تشق طريقها لقلوبنا المغزوة بفيالق الكآبة. تحية لكم وأنتم تقاومون كل الكوارث والأوبئة بكل شجاعة وشغف واستمامة للحياة الجديدة.

مصدر الصورة: https://2u.pw/BKdru

أدب العدد الأخير العدد الواحد والعشرون بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

محمد السناني