اللسانيات الحاسوبية وخصوصية الثقافة

   في أربعينيات القرن العشرين بدأ عصر جديد يدعى عصر المعرفة أو عصر المعلومات أو عصر التكنولوجيا، حيث صنع أول حاسب إلكتروني حديث سنة 1946م، في بنسلفانيا بالولايات المتحدة الأمريكية وكان يعرف باسم ENIAC، وما إن توافرت الوسائل التكنولوجية والأسس العلمية المناسبة حتى خرج إلى الوجود الكمبيوتر الرقمي. والحقيقة أن من الصعب تحديد الآباء الحقيقيين للكمبيوتر الحديث، إذ أن القسم الأكبر من الجهد الفكري والعملي قد بذل في الولايات المتحدة وبريطانيا، وتواصل تطور الحاسوب بشكل متسارع ومذهل، فظهر الجيل الأول منه في 1951م، وتوالت الأجيال إلى أن وصلت إلى الجيل الحادي عشر منه، وهو ما أعلنت عنه (أنتل) أكبر شركات الكمبيوتر الأمريكية في سبتمبر 2020.  

   صممت هذه الحواسيب لتحاكي العقل البشري من حيث استخدامهم للشبكات العصبية الاصطناعية، ومعالجتهم للغة، وبذلك بدأ استخدام الحاسوب في دراسة اللغة، ومن ثم ظهر علم جديد زاوج بين اللسانيات والحاسوب، وسمي باللسانيات الحاسوبية أو هندسة اللغة أو علم اللغة الحاسوبي. ويبدو جليًا أن هذا العلم ينتسب نصفه إلى اللغة، ونصفه الآخر حاسوبي وموضوعه ترجمة اللغة إلى رموز رياضية يفهمها الحاسوب، بما يفضي إلى أن يؤدي- الحاسوب- كثيرًا من الأنشطة اللغوية التي يؤديها الإنسان. فاللسانيات الحاسوبية علم وسطي بين اللسانيات وبين علوم الحاسب التي تهتم بالجوانب الحاسوبية لملكة اللغة البشرية، وينتمي هذا العلم إلى فئة العلوم الإدراكية ويتداخل مع الذكاء الاصطناعي، وهي فرع من علوم الحاسب التي تهدف إلى تقديم نماذج حوسبية للإدراك البشري(1)

   بالنسبة للعالم العربي فقد كانت بداية الاستفادة من هذا العلم في السبعينيات وذلك في مجال العلوم الشرعية، إذ اقتصرت- بادئ الأمر- على إدخال أجزاء معينة من القرآن الكريم في الحاسوب، ثم أتت أول محاولة لتعريبه عن طريق استبدال الحروف اللاتينية بالحروف العربية. أما في مجال الدرس اللغوي فكانت البدايات إحصائية بالدرجة الأولى وبتوجيه من الدكتور إبراهيم أنيس الذي انتهز فرصة تدريسه بجامعة الكويت سنة 1971م، ليلتقي بأستاذ الفيزياء المصري الدكتور علي حلمي موسى ويشرح له فكرة الإحصاءات اللغوية وأهميتها في البحث اللغوي، ثم اتفقا على البدء بدراسة إحصائية لجذور اللغة كما جاءت في معجم الصحاح الجوهري(2)

   حوسبة التراث العربي

   كانت هذه البداية الأولى لحوسبة التراث العربي من خلال هذه الدراسة الإحصائية، ثم تبعتها دراسات إحصائية أخرى كإحصاء جذور معجم لسان العرب لابن منظور، وإحصاء جذور معجم تاج العروس للزبيدي، وإحصاء الفاظ القرآن الكريم(3) ومن ثم توالت جهود عربية لأفراد ومؤسسات علمية وشركات للولوج في هذا المجال من خلال نشر مؤلفات ومقالات، وإقامة الندوات والملتقيات العلمية، وإعداد برامج ونظم من أجل حوسبة العربية أو لعوربة الحاسوب.

   وكانت هناك العديد من المساهمات التي سعت من أجل خدمة اللغة العربية وتطويرها في مجال اللسانيات الحاسوبية، ويمكن الإشارة إلى أن المؤتمر الذي عقد بالرباط عام 1983م، من بواكير الجهود في مجال اللسانيات الحاسوبية، وقد ساهم في عقده “المركز القومي للتنسيق والتخطيط للبحث العلمي والتقني”، و”معهد الدراسات والأبحاث للتعريب” في المغرب، وتم نشر أعماله في كتاب: “اللسانيات العربية التطبيقية والمعالجة الإشارية والمعلوماتية”. وتبع هذا المؤتمر عديد من المؤتمرات في عواصم ومدن عربية تمحورت حول اللغة العربية واللسانيات الحاسوبية، إيمانًا بضرورة مشاركة لغة الضاد في حوسبة اللغة ومسايرة التقدم العلمي والتقني في هذا المجال.  

   فاللغة في مجتمع المعلومات تلعب دورا أكثر خطورة عن ذي قبل، ويمكن إرجاع ذلك إلى محورية الثقافة في منظومة المجتمع، ومحورية اللغة في منظومة الثقافة، وأكدت اللغة على ذلك بفضل المتغير المعلوماتي، كونها محور منظومة الثقافة بلا منازع، ونتيجة لذلك فقد أصبحت معالجة اللغة آليا بواسطة الكمبيوتر هي محور تكنولوجيا المعلومات، خاصة أن اللغة هي المنهل الطبيعي الذي تستقي منه هذه التكنولوجيا أُسس ذكائها الاصطناعي، والأفكار المحورية للارتقاء بلغات البرمجة، فاللغة ذات شأن جليل في حوار الثقافات، وقد جاء ظهور الإنترنت ليفتح الأبواب أمام تدفق معلوماتي هائل تطغى عليه اللغة الإنجليزية، وهو الأمر الذي أثار الفزع لدى جميع الأمم غير الناطقة بالإنجليزية.

   وعلى الرغم من أن التواصل اللغوي أوسع نطاقًا وأكثر تنوعًا؛ فإن جميع الدلائل تشير إلى أن التواصل عن بعد، عبر الوسيط الإلكتروني، سيقلب مفهوم التواصل اللغوي الذي اعتدنا عليه رأسًا على عقب. وقد ظن بعضهم- خطأ- أن إعلام عصر المعلومات ما هو إلا مجرد طُغيان الوسيط الإلكتروني على باقي وسائط الاتصال الأخرى، لكنه- في حقيقة الأمر- أخطر من ذلك بكثير، فالأهم هو طبيعة الرسائل التي تتدفق من خلال هذا الوسيط الاتصالي الجديد، وسرعة تدفقها وطرق توزيعها واستقبالها. لقد ساد الإعلام ووسائله الإلكترونية الحديثة ساحة الثقافة حتى جاز للبعض أن يطلق عليها: ثقافة الميديا، وثقافة التكنولوجيا، وثقافة الوسائط المتعددة. حتى أن مهتمين بالشأن الإعلامي أجمعوا أن إعلامنا العربي يعيش صدمة إعلامية على مختلف المستويات: السياسية والتنظيمية والفنية، فليس بالأقمار الصناعية والقنوات الفضائية وأحدث المطابع الصحفية وحدها يحيا الاتصال في عصر المعلومات، وعلينا أن نقر بأننا لم نرصد بعد مسارات الخريطة الجيوإعلامية الحديثة، لقد فقد إعلامنا العربي محوره، وأضحى– إعلامنا التقليدي- مكبلًا بقيود ارتباطه الوثيق بالسلطة، تائهًا بين التبعية الفنية والتنافس السلبي على سوق إعلامية وإعلانية محدودة.

   إنه التواصل بمعناه الواسع، الذي لا يقتصر على إبلاغ الرسائل، بل يتجاوز ذلك إلى مهام التعليم والتعلم والترفيه واسترجاع المعلومات، ويشمل – أيضا – التراسل عبر البريد الإلكتروني، والتحاور والتسامر من خلال حلقات النقاش وعقد المؤتمرات عن بعد. لقد فرضت الحياة العصرية على الإنسان أن يظل على اتصال دائم ومباشر بمصادر معلوماته، وأماكن عمله ومعيشته، وهو الأمر الذي أدّى إلى التوسع في أجهزة المعلومات النقالة، ومن المتوقع أن تنتشر هذه الأجهزة في كثير من البلدان العربية تماما كما انتشر الهاتف المحمول. وسيظل التساؤل هنا: ما جدوى اقتناء هذه الأجهزة الإلكترونية النقالة إذا ما ظل استخدامنا لها محصورا في تلك الأمور الثانوية دون الاستفادة الحقيقية من إمكاناتها العديدة؟ خاصة في ظل الاندماج المرتقب بين التليفزيون والإنترنت والأجيال اللاحقة من الهواتف النقالة.(4)

   خصوصية الثقافة المحلية

   هناك عديد من الرؤى والتصورات التي تفضي إلى إبراز خصوصية الثقافة على الصعيد العالمي من خلال التركيز على الخصوصية المحلية في الفن والإبداع ونقد الإبداع وثقافة الصورة بكل أشكالها وأنواعها، لكن يظل اقتصاد السوق عائقا امام تحقق الفن المحلي عالميا، فعند منعطف القرن الواحد والعشرين يطرح Arif Dirlik عارف ديرلك الناقد التركي مصطلح “المحلية” في مواجهة “العولمة” ليشمل الإمكانات الثقافية القومية القادرة على التفاعل مع المباني الثقافية الأخرى من مواقع متغايرة وبوصفها – أي “المحلية” – نشاطًا ثقافيًا يخوض مواجهات يومية مع الثقافات الأخرى.

   ابتكر العلماء والمفكرون بدائل اخرى لمناهضة العولمة، وللمفكرين العرب إسهام في ذلك، فهناك معالجة جديدة للغة العربية لتغدو بديلاً عن مركزية اللغة الإنجليزية السائدة على شبكة الإتصالات، مما يؤهلها للعالمية، وفي مثل تلك الإسهامات التي تستخلص النظرية من الممارسة ما يفتح آفاقًا جديدة للخروج من الجمود الفكري، ويفتح مجالًا نحو التمثيل العالمي للثقافة العربية، إذ تتهدد الثقافة العربية بمحاولات طمس هويتها عبر الفضائيات والتكنولوجيا الرقمية في عالم يسوده اقتصاد السوق الذي ترتب عليه عولمة الثقافة. وباتت دول العالم (الأطراف) مشغولة بكيفية تمثيل ثقافتها القومية على المستوى العالمي، من خلال الارتكاز على الثقافة المحلية.

   ويحاول العديد من النقاد الثقافيين التعرف على بدائل للعولمة والتعرف على أوجه المقاومة في الثقافة المحلية. وقد اتفق نقاد ما بعد البنيوية على أن الخيال لم يعد يخص النبوغ الفردي، فهو ليس هروبًا من الواقع الآني للتوغل في الجمالي، بل ملكة تفيد البشر في حياتهم اليومية. وفي عصر العولمة، بات الخيال قوى محركة في الحياة الاجتماعية. وللخيال في الفنون والآداب وظيفة مزدوجة، لاستخدامه في الإبداع وفي نقد الإبداع، وبينهما علاقة تبادلية، فإما الانغلاق في إطار الخصوصية النوعية أو القومية أو تجاوزهما. فالخصوصية المحلية أساسية في الفن والحياة ولكن ممارسة الخصوصية لا تكتمل سوى بالتفاعل مع الآداب الأخرى. واللغة هي وسيط التواصل والاتصال في الآداب والفنون، أي كافة وسائط التمثيل الثقافي.. واللغة في تولدها تدمج مستخدميها في عالم يتجاوز النطاق المحلي(5).

   في تجديد الخطاب اللغوي العربي نجد أن ثمة ترابط في منظومة الثقافة ينبغي الوعي به لتغيير الخطاب اللغوي، يتحقق هذا العمل بالجهد المشترك بين الفرد والجماعة، وهو التحول من الواقع الخائلي (الافتراضي) إلى الواقع المادي، أو من التنظير المجرّد إلى استخلاص النظرية عبر الممارسة، وفي هذا العمل تفعيل للقدرات، فالتنقل بين المعرفة والإبداع، والتنظير والممارسة، قد يتيح آفاقًا جديدة لممارسة الحرية والخروج من الجمود الفكري، تفتح مسارات نحو التمثيل العالمي للفكر والإبداع العربي في عالم معولم.

   وبحسب ماري تريز عبد المسيح، هناك من قارب اللغة بوصفها آداة من أدوات الرمز تقيم مستوى جديدا من التواصل بين الإنسان والآلة، مثل العالم المعلوماتي نبيل علي الذي رصد في كتابيه: “العرب وعصر المعلومات” و”الثقافة العربية وعصر المعلومات” الظاهرة الأساسية التي بوسعها تهيئة العقل العربي في عصر المعلومات للمشاركة في الصياغة الجديدة للعالم، ويمثل طرحه نموذجًا للعمل الخلاق لإيجاد بدائل لعولمة اللغة المركزية السائدة في شبكة الاتصالات، إذ أنه توصّل بالتجربة العلمية إلى أن اللغة العربية تنتمي إلى الفئات العليا وتمكن من معالجتها آليًا بواسطة الحاسوب بلغة الرياضيات الحديثة لتأهيلها للعالمية. وترتب على أبحاثه تحويل الخطاب اللغوي الراهن من منظور التخصص الضيق ليغدو نهجًا علميًا يمكن تطبيقه في الفروع المعرفية كافة، ويرد أمثلة على ذلك في علاقة الخط العربي بالفنون التشكيلية وهندسة المعمار، بل ساهمت أبحاثه في تطوير هندسة اللغة مما يعدّ إسهامًا في تطوير تكنولوجيا المعلومات على الصعيد العالمي.(6)

الإحالات:

  1. أبو الحجاج محمد بشير، المعالجة الآلية للغة العربية، جهود الحاضر وتحديات المستقبل، مجلة لغة العصر، نقلا عن http://www.jamaa.net/art258524.html) 
  2. إبراهيم أنيس، النظامة الالكترونية تحصي جذور مفردات اللغة العربية، مجلة اللسان العربي، المجلد العاشر، ج1
  3. علي حلمي موسى، حوسبة التراث العربي، المحاضرة الأولى، مجمع اللغة العربية الأردني، 2001م
  4. نبيل علي، الثقافة العربية وعصر المعلومات (بتصرف)، مجلة العربي الكويتية، يناير 2006 – العدد 566 
  5.  ماري تريز عبد المسيح، الثقافة القومية بين العالمية والعولمة، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2009
  6.    المرجع السابق
  7. مصدر الصورة: https://2u.pw/lNhKB
العدد الأخير العدد الواحد والعشرون بعد المئة ثقافة وفكر

عن الكاتب

طارق إبراهيم حسان