عبر تتبع تاريخ وسائل الإعلام يمكننا أن نستكشف كيفية تحويل شخوص عادية إلى أبطال في حياتنا اليومية، في مقابل هدم أبطال سابقين وحقيقيين، بل ودفنهم في مقبرة التاريخ تارة باسم الخيانة العظمى أو العمالة بغض النظر عن كونها جزء من الحقيقة (مقطوع السياق) أو محض افتراء.
في الوقت ذاته، تعمد إضافة هالة معينة على شخص محدود القدرات ليبدو عبقريًا، أو صائب الرأي، تمهيدًا لممارسته دور معين، أو كيفما استغلال الإعلام لشهرة ضيف معين لتوجيه الجمهور لوجهة معينة، أو صناعة تلك الشهرة عبر إضافة كلمة “الخبير العالمي” لنرى شخصًا عاديًا في مرتبة العالِم القادر على استكشاف الحقائق، بل والقاضي العادل في أحكامه على الساسة وأحوال الاقتصاد.
ذلك يحدث عبر استغلال ضعف الوعي المعرفي للجمهور، أو قدرته على النقد والتحليل، لكن عمليات صناعة أبطال الإعلام، لا تأتي من فراغ، بل هي آلية مستحدثة يستخدمها الإعلام لتشكيل التصورات الذهنية.
إذ أثبتت دراسات ريتشارد 2013م Richard ومسسيس وايش 2002م McIsaac & Eich,2002 إن الفرد يستقي المعلومات والبيانات من الشخص الثالث غير المنخرط في الأحداث والذي يتمتع بمكانة ما، أو هنالك دلائل على خلفيته الثقافية الأكبر في هذا المجال الذي نبحث عنه، بمعنى أن تحققنا من الأحداث الحياتية الدائمة والتلقائية يتأثر بالشخص الثالث الذي نثق بتحليله بشكل أكبر من خبرتنا المحدودة، باعتبار أننا الشخص الأول في الاحتكاك بالعالم، إذ نعتقد أن الشخص الثالث له منظور أكثر من شخص، وبهذا نشارك باقي الجمهور بنشاط في الاعتماد على منظور الشخص الثالث عن الأحداث التي وقعت في الماضي لدى الغرب، أو الحاضر لدى العرب، لاختلاف درجة المعرفة وطبيعة الثقافة السائدة كيفما يشير كوهين وغينز Cohen & Gunz, 2002 إلى أن الثقافات الشرقية تعزز بشكل أكبر الترابط الذاتي وتشجع الناس على مراقبة كيف يكون سلوكهم من منظور الشخص الثالث ذي المكانة الاجتماعية، بينما لدى الشعوب الغربية بشكل أكبر عندما يتعلق بالماضي، هذا ويضع ريشارد 2013م فكرة مبسطة هى أن الشخص الأول لديه صورة تمثل المعلومات العرضية التي أخذها من موقف، ولكن الشخص الثالث هو من استخدم الصور التي تمثل دلالة على معلومات وليست هي المعلومات.([1])
بل وتؤكد دراسات أقدم تلك الحقيقة، وإن كانت تحت مسميات أخرى، كدراسات بندورا Bandura (1977) بأن الناس تتعلم داخل سياق اجتماعي، لذا شددت نظرية التعلم الاجتماعي على أهمية مراقبة النماذج وتقليد تصرفات ومواقف ومشاعر الآخرين (أي ما يعني البحث والانقياد لنموذج الشخص الثالث)، بجانب التركيز على أن العوامل البيئية والمعرفية تتفاعل مع الإنسان وتوثر في التعلم والسلوك، ومن ثم فهنالك ثلاثة عوامل مهمة تحدد التعلم عبر نموذج معين (كالشخص الثالث) وهي : (1) الناس تحب النموذج الأعلى في الرتبة والمكانة (2) الفرد أكثر تصديقًا للنماذج السلوكية التي يحتاجها لحالته أو مهاراته أو تعزيز مكانته وقيمته(3) عظمة مكانة الشخص وقيمته تبنى على سلوكه، ولهذا يأخذ الشخص نموذجًا لتنفيذه، ولهذا يشير وونج 2009 إلى خطورة وسائل الإعلام التي جعلت المرأة تعتقد أن التدخين يجعل مظهرها أفضل، بما يمكن القول إنها ثقافة إعلامية غرزت السلوك كأنه نموذجي.([2])
يحدث ذلك جراء استغلال وسائل الإعلام لوظيفتها في إضفاء المكانة Status – Conferral Function، حيث تضفي المكانة بإثارة الانتباه نحو شخص أو قضية، كإحدى الوظائف الثلاث للاتصال الجماهيري التي وضعها ميرتون(*) والهادفة إلى إضفاء الشرعية على آراء وأفعال، ويشرح ميرثرون ولازرسفيلد Merton, Lazarafeide كيفية إضفاء المكانة عبر تركيز الانتباه بما يجعل الجمهور يعتقد أن هذا المرء هامًا بالفعل في الواقع لأنه موضع اهتمام الإعلام، كتأييد وسائل الإعلام للمرشحين سياسيًا عبر تناولهم في افتتاحيات الصحف بما يعطيهم مكانة النخب، مما يصنع الأحداث الزائفة (الوهمية) Pseudo Events جراء أن إضفاء المكانة على فرد ما يدفع الآخرين إلى تقديره واعتباره مهما، لذا يقترن الإعلام بالسعاة للسلطة، ولهذا يقول بورستن Boarstin إن الأحداث الزائفة عمدية وليست عفوية، بل ومخططة كالقيم الإخبارية، لأن لها أهدافًا تتسق مع الأجندة الموضوعةAgenda Setting لتوجيه الاهتمام بأشخاص أو قضايا دون أخرى، وتشكيل الحقيقة وتعليم الجمهور مقدار الأهمية التي يجب منحها لقضية مقرونًا بالتركيز الذي تحظى به في الإعلام، بما يؤثر في التغيير المعرفي وبناء العالم لنا.([3])
لهذا تقول دراسة هوفلاند وويس 1951م إنه بغض النظر عن صحة المعلومات أو منطقيتها، يحدث تغيير الاتجاهات لدى الجمهور وذلك لارتباطه طرديًا مع درجة المصداقية، وأن التغيير في الاتفاق مع القائم بالاتصال عبر الزمن يميل للتزايد مع الدرجة العالية للمصداقية – بغض النظر عن صحة المعلومات، لهذا أكد دراسو الإقناع على أهمية تضافر عدة عوامل معًا، وهي المصداقية والجاذبية والقوة بالإضافة للحيوية والانتماء الاجتماعي والسلطة والثقة، وهو ما اتفقت عليه دراسة مشتركة لكل من كليمان وهوفلاند 1953م من ارتفاع درجة الاتفاق مع القائم الاتصال مع درجة المصداقية، ومن ثم توصلت دراسات بيرنوم وستيجنر 1979م إلى أن القائم بالاتصال الخبير أكثر تأثيرًا في الإقناع عن غير الخبير، بل والخبرة تزيد من التأثير حتى مع المصدر المتحيز.([4])
وتستعرض أمينة خيري حيل الفضائيات في انتقائية من لديهم الكاريزما وقدرة الإبهار والإقناع، وعبر عدة أدوات وملكات، منها الشكلي كالمحلل الصحفي الذي يرتدي بدلة متواضعة برابطة عنق لتدل على أهميته، والمحلل الرياضي ذي الكتفين العريضين وقميص لعلامة رياضية شهيرة، وهو يحلل أزمة الشرطة وتقدم داعش وتحركات التحالف وكأنها مباريات الدرجة الثالثة، وكذا المحلل الثوري الشاب بالكوفية الفلسطينية والشعر المنكوش والنظرة الفوقية لما حوله، وهنالك المحلل المسؤؤل السابق وغالباً من المغضوب عليهم من النظام السابق، لأن جزءًا من عملية التسويق الذاتي إضافة إلى المظهر هو بطاقة العمل، حيث “خبير الحركات الإسلامية” أو “اختصاصي الفترات الانتقالية”، أو الخبير الإستراتيجي أو الفوسفاتي، وهي مسميات- فهذا محلل كيميائي ولم يدرس علم الكيمياء، ومنظر فيزيائي ولم يقرأ كتابا في الفيزياء، وخبراء علميون درسوا الأدب والفنون وليس الفيزياء والكيمياء، وهم متعددو التوجهات، فهنالك خبير بنبرة ثورية وآخر بلهجة فلولية وثالث بتوجهات دولية وآخر منزوع الأيديولوجية، بل وهي ظاهرة عابرة للقارات، فقنوات الغرب لديها في الشرق جيوش من الخبراء من أصحاب الميول المرجحة لكفة الغرب، وتلميع صورة الغرب لدى العرب، وتشويه صورة العرب لدى الغرب، بل وخبير يعمل لصالح دولة معينة كحشد الرأي العام لاستحسان الضربات الأمريكية لـ “داعش” ويصب غضبه على الضربات الروسية.([5])
كما يمكن للكاتب أن يضرب عدة أمثلة أخرى لإنجاز صناعة الشخص الثالث، وذلك عبر استضافة خبير حقيقي لكن غير متخصص في قضية الحلقة، أو خبير حقيقي في مركز أو جامعة مرموقة لكن غير موضوعي أو متعصب أو متحيز أو يمكن شراؤه بهدف الحصول على رأي يساند توجهات القناة الإعلامية نحو قضية معينة.
هذا بجانب ما يمكن أن يلاحظه الكاتب من إمكانية استضافة خبير غامض بإخفاء معلومات عن وظائف توضح تبعيته للرأي الذي تريده القناة كأن يكون مستشارا لدى الحكومة ولا تذكر القناة ذلك، وتكتفي بذكر لقبه الأكاديمي المرموق، ومن ثم تنجح في تمرير وجهة نظر حكومية مثلاً – إذا كان هدف القناة ذلك، بل وفي حالة قيام القناة بمراعاة التوازن وحضور الطرفين، فقد نرى الشخص الثالث عبر استجلاب خبير له مكانة اجتماعية راقية في مقابل أن الطرف الآخر ضعيف المكانة.
أو أن يكون الشخص الثالث هو المذيع/ مقدمة البرنامج، وفي ذلك استضافة سيدات فقيرات تمتدحها، وتذكر مآثرها الأخلاقية، والخيرية السلوكية، كتقديم المذيعة لأموال ساعدت أسر المحرومين، وهو أمر متعمد تم وضعه بعناية من فريق الإنتاج، حتى تبدو كلمة المذيعة فيما بعد هي الكلمة العليا، ومن ثم تتحقق أهداف المعلن أو الممول أو الحليف الأساسي لهذا البرنامج أو القناة.
بل وقد يكون الشخص الثالث فنانًا أو ممثلاً محبوبًا أو لاعب كرة قدم له شعبية، وهنا ندرك طبيعة ضعف الوعي والتعصب وغياب ملكة النقد، أو التفرقة بين حب شخصية منتجة لعمل مميز في مجال معين يستحق التقدير، وبين رأيه في مجال آخر وأهدافه من هذا الرأي.
([1]) Richard P. Eibach,, The Role of Visual Imagery in Social Cognition, In : D.E. Carlston (Ed.), The Oxford Handbook of Social Cognition. (New York: Oxford University Press: 2013), p18 – 20, 38.
([2]) Ashley Evans, Female Body IMAGE And THE Mass Media: A Content Analysis OF Prime Time Television Advertisements And How They Lead To Body Dissatisfaction In Women, Master of Arts in Communication Unpublished, (Gonzaga University: Faculty in Communication and Leadership Studies: May 2014), p11, 12.
(*) الوظائف الثلاث هي (التشاور وتبادل الآراء، تدعيم المعايير الاجتماعية، التخدير (الخلل الوظيفي) ويقصد بالثالثة أن تحدث نتائج عكسية من كثرة المعلومات وجرائها تصير حالة اللامبالاة من كثرة أحداث وقضايا ومشاكل الخارج والداخل، ما يخصنا وما لا يخصنا.
([3]) بسيوني إبراهيم حمادة، وسائل الإعلام والسياسة.. دراسة في ترتيب الأولويات، ط 1 (القاهرة: دار مكتبة نهضة الشرق، 1997م)، ص: 261 – 262.
([4])محمد عبد الحميد، نظريات الإعلام واتجاهات التأثير، ط 1، (القاهرة: عالم الكتب، 2000م)، ص: 95 – 97.
([5]) أمينة خيري، الخبير الاستراتيجي.. عصامي صنع مجده بنفسه، مجلة شؤون عربية الصادرة عن الأمانة العامة لجامعة الدول العربية (القاهرة)، العدد 165، ربيع 2016، ص: 151 – 158.
مصدر الصورة:https://2u.pw/eKR7v