مصطفى سليم: صفعة الواقع أيقظت لديّ موقفاً نقدياً من الحياة

كتب بواسطة فيصل رشدي

رصد تاريخ «المناظرة» ورافق الكوني مع «الأسلاف والأخلاف» وتلاعب مع الذاكرة في «نفق سري»

حاوره – فيصل رشدي

تفتّح وعيه المبكر على «دنيا الناس وصراعهم من أجل معركة الخبز، قرأ عيونهم وغاص في حكاياتهم، وتلمّس الحقائق على ما تبّدت له، من واقع الشوارع والباصات قبل أن يقرأ ويكتب عنهم وعنها في الكتب».

هو الكاتب المصري مصطفى سليم، الذي صدرت مؤلفاته الأربعة، حتى الآن، في وقت متأخر نسبياً قياساً على انتهائه منها، إذ ظل بعضها حبيس الأدراج لما يزيد على سنتين وامتدت أخرى لـ 8 سنوات وسط عروض درامية غريبة، إلى أن قُدّر لها أن ترى النور مصادفة! ومؤخراً يترقب ميلاد رواية جديدة على وشك الانتهاء منها، ويعكف على مشروع يعمل عليه منذ سنوات يرصد فيه «آفاق النقد العربي الحديث».

حصل على الماجستير في الأدب العربي القديم عن أطروحة «أدب المناظرة في العصر العباسي الأول (132 – 232 هـ)» 2011، ونال الدكتوراه عن سداسية «الأسلاف والأخلاف» لإبراهيم الكوني في 2018، تحت إشراف الدكتور صلاح فضل. تناول فيها عوالم أديب بثقل الكوني بـ«لغته الكلاسيكية، الأقرب لتلك التي كتب بها كبار المتصوفة أسفارهم بخيال ثري»، وفقاً لسليم، الذي احتاج سبع سنوات كي يحسم أمرها ويحصل عليها بعد أن كفر بالشهادة العلمية لفترة من الزمن.

تتنوع كتاباته بين النقد والإبداع، والصحافة فقدم «المناظرة والحـِجاج» في 2019. و«السلطة والحرية.. بنية السرد في سداسية إبراهيم الكوني» في العام ذاته. لـ«سليم» أيضاً إسهام إبداعي بدأه بروايته الأولى «سِفر المرايا» التي حصلت على جائزة دبي الثقافية عام 2013، وصدرت في 2015، كذا مجموعة قصصية حملت عنوان «نفق سري» (2020)، وتنتمي لتيار الكتابة النفسية الذي يغويه، واتخذ لها قالباً تجريبياً ممثلاً في القصة القصيرة جداً، الذي يحتاج للغة وبنية مكثفة ومركبة، محتذياً نهج شيخ الحارة نجيب محفوظ في «أصداء السيرة الذاتية» على سبيل المقاربة لا المقارنة بالطبع. وأخيراً يعمل صحافياً في «اندبندنت عربية» يقدم فيها عدداً من البورتريهات، التي تعتني بالجوانب الإنسانية لكبار الكتاب كإدوارد سعيد ومحمود درويش وغيرهما.

صفعة الحياة والحدس النقدي

سألناه عن البداية، فأخبرنا: «لم تكن لديّ رفاهية أن أقرأ خارج الكتاب المدرسي إلى أن بلغت سن الثامنة عشرة تقريبا كان هذا قبل ما يقرب من عشرين عاماً، بعدها انطلقت ماكينة القراءة، في النهاية بدأت علاقتي بالكتب وعوالمها بمرحلة متأخرة على ما يبدو. وبالأساس، أظن أن وعيي تفتّح على الحياة عبر الواقع بمشاهد ومواقف دارت في فلك العجز والانكسار والجبر، الذي ربما راوغتُه قدر ما استطعت، ولكن يقيناً لم أستسلم إليه. عملت في مهن متعددة مع من يكبرني سناً على الدوام، تمثّلتُ تجاربهم فعشتُ أكثر من حياة قبل أن أقرأ وأكتب عنها».

عن أثر هذا الأمر في منجزه الكتابي، أخبرني: «الأمر أشبه بحرب شوارع، قانونُها يُدرَك بنظرة عين، ويعني ببساطة أن توقظ حواسك من الغفوة وتنير وعيك على الدوام؛ كي تحمي جسدك الضعيف وتستطيع الوصول إلى مرادك بأقل الخسائر».

إلى قانون «يقظة الحواس وإنارة الوعي» يرجع الدور الرئيس لموقفه المبكر من الحياة وتشكُّل الرؤية النقدية لديه. ألهمته مراوغات وألاعيب الحياة سرّ الحكي وسلطتَه، وأمست لديه حافزاً للإبداع والكتابة في محاولة لفهم ما يدور حوله من ألغاز فقبِل التحدي، وكانت الكتابة أنيسه في غابة السرد كي يصنع للحياة معنى.

الإبداع في مرآة النقد

عن تقييمه للإبداع اليوم، يرى أن «الإبداع العربي يخضع في مجمله تحت سطوة المنتج التجاري، وكثير منه صار سلعة على نحو أوسع مما كان في الماضي لدرجة مستهلكة صارت معياراً. يحدث هذا في الكتابة والدراما والسينما، شأنها تماماً شأن زوايا متعددة في دروب الحياة، التي صار جُلّ الأمور والأشياء فيها سلعة تباع وتشترى، حتى الإنسان ذاته صار يباع ويشترى؛ أفكاره ووقته وأحياناً مشاعره، باختصار عمره بالكامل تحت قيد السلعة والاستئجار».

يتابع: «وفق هذه الرؤية، إن صحت بالطبع، تستطيع أن ترى الإبداع؛ بعض الأعمال والكتابات الأدبية والنقدية صارت تخضع تحت باب الصنعة أو الحرفة الرديئة؛ قالب أو نمط لا وقت لدى أصحابه أن يطوروه أو يتحركوا نحوه على ضوء موهبة ولو كان خافتا. حتى أنك لا تستطيع أن تستعرضها مقارنة بمدرسة (الصنع والتكلف) التي عُرفت عن كلاسيكيات الأدب العربي القديم في الشعر والنثر، إذ كانوا يمهلونها لتنضج عاماً (حَولاً) أو أكثر وعُرف أصحابها (شعراء الحوليات). لم يعد هناك وقتٌ لدى أصحاب الصنعة الرديئة هذه كي تنضج على نار هادئة في موقد الأيام أو معمل التجربة، بينما نعيش في عصر السرعة أو زمن الوجبات السريعة (التيك أواي) إن صح التعبير. أشياء كثيرة مبهرة تنجز في وقت خاطف لا أصالة فيها، ولا قيمة جمالية لها. إنجاز قصير المدى، يموت في اليوم الذي يليه؛ تماماً كظاهرة الترند التي تغزو عالم التواصل الاجتماعي، تموت قبل أن تولد بآخر جديد يحاك ليلا».

يتابع: «صنف ثانٍ من الكتابة بإمكانك أن تلمح فيه ثمة موهبة؛ بيت شعر جيد، صورة فنية مبتكرة ومنحوتة من وحي الواقع أو الخيال، مشهد في رواية عبقري بحق، لكن أيضاً لأن أصحابها لا وقت لديهم، وربما بإيعاز من أصحاب الذوق المتدني، الذين يشبهون الدِّيكة يملؤون دنيا الأدب بالصياح دون أن يبيضوا! تخرج هذه الأعمال للجمهور أو القارئ مبهرة، ومشمولة بالدعاية سلفاً عبر (الوكيل الأدبي) أو (سماسرة الأدب)، وهو توصيف لمهنة من الباطن يعلم أصحابها الكواليس جيداً، لكنها مليئة بالعيوب والثغرات الفنية. ربما لو صمتت الديكة قليلاً وتركوا أصحابها يعملون على نضجها لكان لهذه الأعمال شأن فني آخر على خريطة الأدب المعاصر، وكم من أعمال تجد فيها ثمة موهبة يفسدها من هم في كواليس المشهد لحسابات ومصالح شخصية أن يبقوا في الصدارة، ويظلوا سماسرة!».

يضيف: «صنف ثالث تلمح لديهم الموهبة، لكن لقمة العيش لا تمهلهم أن يجلسوا إليها، ويبنوا لها معبداً يليق بعشيقتهم هذه؛ يروي أو ينظم لنا من هناك، ويملأ العالم بالترانيم الأصيلة. الأمانة تقتضي أيضاً أن ندين هؤلاء، فكثير منهم سقط في دوامة الحياة أو دفع نفسه إليها كي يجد لعشيقته (الموهبة) تبريراً يمكنه من خلاله الفرار من مسؤولياتها كي تتلمس له العذر، ولو تمرس هؤلاء قليلاً على الجلوس في محراب ذواتهم، لكان لخريطة الإبداع شأن آخر”.

يستدرك بالقول: «الإبداع المعاصر ليس كله على هذا النحو من السوء، فهناك أصوات قيّمة ورصينة تشع جمالاً، وتدرك كيف تصنع عالماً فنياً ساحراً في قلاع الفن العتيقة، خذ (ساق البامبو) نموذجاً. لكن على الناحية الأخرى ليس لكل الأعمال حظ (البامبو). فهناك أعمال قيّمة بحق ولأن أصحابها ليسوا من ذوي (الياقات البيضاء)، إن جاز لنا أن نستعير التعبير من ردهات السياسة، فيكون حظها دور نشر ليست بالشهرة ولا الإمكانيات المطلوبة، فمهما علا شأنها فنياً وجمالياً لا تستطيع أن تقاوم ترسانة الدعاية المدشنة للمنتج الرديء الذي يُلقَى على مسامعنا وأمام أعيننا آناء الليل وأطراف النهار، فيكون أقصى طموحها أن تكتب شهادة ميلاد أو احتراف لصاحبها دون أن يتحقق لها الصدى الذي يحفّزه على مواصلة الإبداع، لكنه يواصل المسير لا لشيء سوى لأن المسير قدره الذي يدركه. وإما أن يحالفه الحظ فيتحقق أمر ذيوعه بالتراكم، أو يظل هكذا في الظل».

ينهي المسألة بالقول: «في النهاية لا أحد يستطيع إنكار أن ثمة تطوراً مذهلاً في تقنيات وأساليب الكتابة العربية المعاصرة، لكن المجتمع والجمهور بحاجة إلى أن يفسح لها الطريق ويعطيها فرصة ومنافسة عادلة عبر معايير واضحة وحقيقية تعيد الأمور إلى نصابها، فيتصدر الجيد ويتراجع الرديء. الأمر كله رهين موقف إنسان هذا المجتمع، فإما أن يُدخل القيمة الجمالية في ضوء المنافسة أو يصمت إلى الأبد ولا نسمع صوت إدانة لأي جريمة فنية تُجرى تحت مزاعم مشبوهة يروّج أصحابها (ألا قانون أو معيار يحكم العملية الإبداعية)، ولا ينسحب هذا الحديث بالطبع على (لعبة التجريب)، أو التمرد على الأشكال الفنية».

يوضح: «أن المروجين لغياب المعيار يُغيّبون حقيقة مهمة على سبيل التضليل، تتمثل في أن واقع التمرد والتجريب الأصيل، وأغلب عظمائه، لم يتمردوا سوى لأنهم تشبّعوا بقوانين الإبداع التي وجدوا أن أساليبها وتقنياتها لم تعد تحتمل ما ينشدونه، كما أنها لن تستوعب طاقاتهم الفنية، فكان عليهم أن يجدوا طريقتهم الخاصة. ولأنهم يتقنون اللعبة ويعرفون حدودها استطاعوا أن يفجروها من الداخل، ويُقيموا قلاعهم التي صمدت في تاريخ الحركة الأدبية، ولم يكن صنيعهم مجرد قفزة في الهواء تستهدف لفت أنظار المارة؛ خذ نموذج شعراء التفعيلة صلاح عبد الصبور وأمل دنقل وشعراء العامية المصرية حجاب والأبنودي، وغيرهم، بل حتى شعراء قصيدة النثر كالماغوط وأدونيس وبعض منجز محمود درويش. لم يكن لكل هؤلاء وغيرهم أن يكسروا القاعدة ويمسوا مجددين سوى لأنهم أدركوا القوانين، فتمكنوا من تجاوزها بوعي وتثوير أصيل. أما أن تصير الخواطر شعراً ورواية، تحت زعم فليصنع كلٌ ما يريد وتُسوَّق هذه الجريمة على أن هذا هو الفن، فهذا هو الهُراء بعينه، لتصير النتيجة ما يقرأه ويسمعه ويراه الجميع وينهال عليه بالسخرية. ومع الوقت نعتاد عليه فينتزع هذا الهراء شرعيته ويصير معياراً».

مغالطات وأوهام المشهد النقدي المعاصر

عن الشروط الواجب توافرها في القراءة النقدية الحقة، ومعايير اعتماد الناقد الأدبي، وإسقاط هذا الأمر في ضوء ما يقع على أرض الواقع، أخبرنا سليم بالقول:«اسمح لي أن أستهل حديثي هنا في عجالة بمد خريطة النقد الأدبي ومراكزها أمامنا كي تتضح الرؤية، ولا نتخبط بالقارئ خبط عشواء، بدايةً هي رحلة طويلة وشاقة يطول شرحها، أبحث فيها منذ سنوات بعيدة في محاولة لرصد آفاق خطابه في النقد العربي الحديث عبر تطور مسيرة النظرية الأدبية. في المجمل يعود التاريخ المبكر للمدونة النقدية إلى ما قبل كتابات أفلاطون وأرسطو عند الإغريق وهوارتيوس عند الرومان، على غير ما هو معهود لدى كثير من الباحثين، وثمة من يرى أثراً لهذا لدى حضارات مصر وبلاد الشرق القديم في ضوء الجديد المكتشف عن الجذور الأولى لها، (بالإمكان مراجعة ما سجله رائد الدراسات الكلاسيكية اليونانية واللاتينية الدكتور أحمد عتمان في تقديمه للجزء الأول من موسوعة كامبريدج «في النقد الكلاسيكي»)، مروراً بالمنعطفات الكبرى عبر الحقب الزمنية المختلفة؛ تحديداً منذ القرن السابع والثامن عشر الميلادي، وتزاوج الأدب بالفلسفة، وتداعيات هذا الارتباط على المشهد النقدي عالمياً؛ متجسداً في مناهج الحداثة وما بعدها وأثرها في الفكر النقدي والنظرية الأدبية الأوروبية والأمريكية، وانتقال ثورة المناهج هذه إلى الثقافة العربية طوال القرن العشرين، وما أثارته من جدل دار في فلك (الحداثة والتراث) وإشكالية تطبيق (المرجعية المستعارة) على النص العربي بين المحافظين والمجددين منذ عشرينيات القرن التاسع عشر حتى أوائل الألفية الجديدة».

تابع: على أي حال، دعنا نبدأ من المشهد المعاصر كي نحدد الشروط التي يجب توافرها في الناقد الأدبي من واقع تجربتي. النقد الأدبي اليوم في عالمنا العربي لم يعد كسابق عهده، لعل أبرز ملامح التغيير تتمثل في دخول الجمهور كشريك فاعل على خط النقد والنقاد، صحيح أن نقد ما بعد الحداثة أَولى المتلقي أو (القارئ) عناية خاصة، لكن المقصود في إشارتي هنا مختلف عن المعنى الأكاديمي إذ أعني أن مركزية النقد لم تعد تتمثل في الناقد فحسب. أضف إلى هذا سقوط الحدود الجغرافية بين البلدان العربية عقب ثورة المعلومات، وما أتاحته من متغيرات وانفتاح القارئ العربي على النصوص المترجمة والمبدعين والنقاد العرب من كافة البلدان والتيارات والمرجعيات، بالإضافة إلى توفير مواقع التواصل الاجتماعي منصةً للتعبير، بصرف النظر عن مدى الدقة، أو العشوائية، أو الفوضوية، التي تتسم بها.

“كل هذه العناصر أثرت في الخطاب النقدي العربي المعاصر، في بنيته إن وجدت ولغته، والمنظور والمعالجات أو القراءات التي تُطرح. إذ لم يعد الجمهور يلقي بالا للنقد الأكاديمي وما شابه. الأمانة تقتضي القول إن هذا حدث منذ فترة طويلة، تقريباً تعود لمنتصف الثمانينيات، وأظن أن كثيراً من النقاد، وبينهم الشيوخ، بخاصة من يكتب للصحف، انتبهوا للأمر، وتخلوا عن غموض المصطلح النقدي واللغة الأكاديمية الجافة، وطوروا لغتهم؛ الوعاء الذي يقدمون فيه أطروحاتهم للجمهور”.

“بيت القصيد أصبح للجمهور أو القارئ رأي لا ينكره عاقل، ومما يؤسف له، واستناداً إلى فكرة (تسليع الأدب وترويجه)، أنه تم استغلال هذه الفكرة على مستويين مرتبطين؛ إذ روجت بعض دُور النشر لعدد من كتّابها، تتنوع موهبتهم بين المتواضعة والمتوسطة على أحسن تقدير، على أنهم في صفوة الأدباء، بصرف النظر عما يقدمونه بعدما صنفتهم بـ(الأكثر مبيعاً)، الذي راج حقاً وباطلا فتحقق لهم الأمر وفق ظاهرة ثقافية نالت مع العقل والذائقة العربية بحقنة هواء تتمثل في (صناعة الكاتب) أو تصنيعه، إن شئت الدقة.

ومما يؤسف له أن جريمة الشرعنة أو التقنين هذه تمت عبر بعض محرري الصحافة الثقافية، وهنا يأتي المستوى الثاني المتمثل في أن هؤلاء المحررين، على تواضع مستواهم بالأساس واعتمادهم على الانطباعية الفارغة، أعني غير المعتمدة على تراكم ومورث معرفي بأصول ما يكتبون. ومع الوقت خُيل إليهم أنهم سلطة ثقافية بإمكانهم تحريك الجموع نحو كاتب أو كتاب بعينه، وللأسف تحقق لهم الأمر نسبياً في غفلة من الزمن. صحيح أنه مؤخراً بدأ القراء يفتشون بدقة في ترشيحات أمثال هؤلاء لكن لا يزال صخبهم عالياً.

دعني أزيدك من الواقع مآسي أخرى التقت مصلحة بعض دور النشر مع أهواء محرري الثقافة هؤلاء، وتمت الصفقة بثمن بخس، أغلبها هدايا في شكل كتب وإصدارات مجانية، أو تكفل بإصدار كتاب، أشياء من هذا القبيل! وبين هذا وذاك راجت البضاعة الفاسدة. فضلاً عن أنها صارت مهنة، وتطورت مع مستجدات ثورة المعلومات لدى بعض صانعي المحتوى الثقافي على اليوتيوب (اليوتيوبر)، الذين يستهدفون مبتدئي القراء لتتمثل رموزهم في هذه الظواهر الفارغة من المضمون التي تشبه (العملة المزيفة) المصنوعة بعناية ودقة من حيث الشكل، الأمر الذي أحدث قطيعة ثقافية مع الأجيال المؤسسة، بينهم رواد الرواية المصرية وتلامذتهم من جيل الستينيات، فتقادموا وصاروا كلاسيكيين، وبدا الأمر أننا نتحدث عن مجاهل التراث العربي القديم كالأصفهاني والجاحظ وابن سلام الجمحي، والتوحيدي، وغيرهم.

أضاف: زاد الطين بلة أننا نتابع من وقت لآخر حملات أو «حفلات استعراضية» فجة، تهاجم قامات في وزن نجيب محفوظ وغيره، وتتعالم بجهل فاضح للسياق التاريخي والاجتماعي على سبيل المثال لا الحصر، (مع الإقرار بالطبع بحق النقد)، لكن بلا معايير!

هنا الأمر يشبه الخروج عارياً في وضح النهار. وإن كان هناك من شروط معتمدة لدى القائمين على هذا الحفل فقد نجده يتمثل في أنه قرأه على سبيل المصادفة بالأساس، في مزاج غير رائق فلم يعجبه! فقرر حفله الفاضح لجهله، دون دلائل، أو براهين، أو قرائن في إطار الأحكام المطلقة، التي أصبحت نوعاً من المفاخرة والمباهاة، ويضلل فيزين الأمر على أنه من قبيل تحطيم الأصنام!

 على كل الأحوال، إن كان ثمة شروط ومعايير نقدية لتقديم قراءة ناضجة وواعية فأراها تتمثل في التراكم المعرفي بشأن القضية موضوع الحديث قديمها وحديثها، أعني التمرس المتواصل على فعل القراءة الذي يكفل لصاحبه ذائقة نصيّة أو فنية ثرية، والقراءة عن طبيعة تاريخ الفن الذي بصدده، وتطوراته، ورواده وقضاياه، ونظرة واسعة وبانوراميه على المنهج المستخدم وتطورات نظريته بالطبع. ومع افتراضية تحقق هذه الأدوات قد لا تتوفر للناقد القدرة على تقديم قراءة ثرية، فالأمر الفصل في رأيي أن يكون جوهر تكوينه العقلي مؤهَّلاً على التفكير النقدي القائم على الأسس والرؤية، وإلا لقدمت برامج الحاسوب الخاصة بشأن البيانات هذه المهمة على نحو أكثر دقة، ولصار الحاسب الآلي شيخ نقاد عصر التكنولوجيا بلا منازع!

أقول: لو حدث وكان لدى الناقد مَلكة الحدس النقدي هنا نحن أمام موهبة نقدية فذة، وهم كثر بالمناسبة (بالإمكان مطالعة منجز رواد النقد العربي طوال القرن العشرين)، فيستطيع بلورة كل هذه الأدوات عبر عناصر واضحة بلغة ثرية ورشيقة قائمة على البراهين والقرائن العلمية والمنطقية، تقدم طرحاً جمالياً وإنسانياً خلاقاً بحق.

إبراهيم الكوني سيرة ومسيرة

اختار سليم أن تكون أطروحته للدكتوراه عن الكاتب الليبي ذي الأصول الأمازيغية إبراهيم الكوني، سألناه لماذا الكوني دون غيره، فأخبرنا أن منجز الكوني حتى وقت قريب، تقريباً قبل الثورة الليبية ضد القذافي عام 2011، على غزارة إنتاجه كان أشبه بقارة مجهولة بحق بما تحمله من تاريخ الصحراء الكبرى، وأزعم أنه شخصياً تدثر بالغموض؛ إذ كان ظهوره في وسائل الإعلام يكاد يكون منعدماً، باستثناء مقالاته التي كان يكتبها، فهو لا يحب الإعلام كثيراً بحسب علمي ومن واقع تجربة. في وقت لم تكن هناك معلومات كافية تتوفر عنه آنذاك. مؤخراً تغيرت النظرة بالكلية، فمنذ سنوات قليلة، تقريباً بين عامي (2014– 2015) توافر الكثير عنه عبر شبكة الإنترنت، وصار كثير من مؤلفاته متاحاً بصيغة رقمية، وعنه مقالة مطولة نسبياًفي موسوعة ويكيبيديا، وكثير من الصفحات على التواصل الاجتماعي التي أنشئت من قِبل محبيه، كل هذا صعّب مسيرتي في عوالمه منذ البداية.

عن البداية يقول:بدأت علاقتي بنصوص إبراهيم الكوني عام 2009، مع طرح رواية (من أنت أيها الملاك)، وهي عمله رقم سبعين في قائمة مؤلفاته، الآن بلغت أعماله ما يقرب من التسعين مؤلفاً أذكر أن آخرها (تجديف في حق الجذور) الصادر بالعربية في 2020.

السبب الرئيس لانشغالي بمنجزه أن نصوصه لامست روحي منذ تعرفي إلى نصوصه، وحينما بحث عنه وجدته كنزاً مجهولاً، فقررت أن أخوض معه رحلة معرفية، وكانت المفاجأة أنهرغم المكانة العالمية التي وصلت إليها نصوصه لدرجة ترجمت إلى أربعين لغة، فقد كان شبه مجهول لدى القارئ العربي آنذاك، فأردت أن أسلط الضوء عليه في محاولة لاقتحام هذا المجهول وخوض مغامرة بحثية تضيف جديداً في عوالم الرجل.

أضاف: المفاجأة أيضاً أن شأن الباحثين لم يختلف كثيراً عن القراء، فبلغة/

 الأرقام بلغت الدراسات حول نصوصه 6 دراسات فقط حتى 2018، تناولت 12 رواية فقط من جملة 81 نصاً آنذاك، ومع هذا فقد وقع أغلبها في فخ التكرار، على سبيل المثال حظيت «رباعية الخسوف» بـأربع دراسات منها، ناهيك عن روايته الأشهر «التبر»، الأمر الذي يعني أن النصوص التي سُلط عليها الدرس والتحليل من جملة إنتاجه لا تتجاوز نسبة الـ15 في المئة، وهي نسبة فقيرة جداً، تؤكد أنه لم يُقرأ عربياً كما ينبغي له، لا على مستوى القراء ولا الباحثين، بل يسلم كثير من النقاد بأهميته الروائية، ربما تفادياً لمناقشة مشروع سردي جوهره يتأسس على تنوع مظاهر السرد؛ أسلوباً وبناء ودلالة، ويستند إلى جملة من المعارف الفلسفية والدينية والميثولوجية التي تصعّب مهمة الباحث في منجزه.

تابع: والحق أن الأوروبيين أكثر منا معرفة بمنجزه؛ ففي حين عدَّه بعض الباحثين والنقاد العرب «أسير الصحراء»، فما الحاجة إلى دراسته! رأى الأوروبيون في «الصحراء» وسيلته الفنية لا غايته، وأذكر أنه أخبرني في رسالة بيننا: «دائماً ما يقرأ لنا الأغراب بالإنابة ليكتشفوا كنوزنا الدفينة ويكشفونا لأنفسنا؛ حدث هذا مع طواسين الحلاج التي لم تكن لترى النور لو لم يحققها ماسينيون، وهذا ما كان سيحدث مع النفري لو لم يحققه لنا آرثر». ومع هذا فالبحث الجاد في منجز الكوني الروائي ينفي اختزاله عربياً في الصحراء، وقد كان هذا مدخلي إلى عوالم الرجل، والدليل أن سداسية «الأسلاف والأخلاف» التي أنجزها بين أعوام (2006 – 2011) أخذت منعطفاً فنيا ًمن بين رواياته، بعدما غيَّر مسرح أحداثه من الصحراء إلى البحر، ومنه دخل أبواب مدينة طرابلس.

يوضح سليم: أشبع الكوني الصحراء أسطرة وتأويلاً، وأخبرنا عن أبطالها وكائناتها؛ عن الإنس والجن، والأشباح والأرواح، والحيوانات والجمادات، وفق معالجات وبنى روائية تنوعت بين الخيال تارة والواقعية السحرية تارة أخرى، على هذا النحو أدخل الصحراء «الجدّة» وموروثها وعوالمها حرم الروية العالمية، وأبطل فاعلية مقولة أن «الرواية ابنة المدينة التي سادت في بدايات القرن العشرين» وبرهن أنها عمل إنساني قبل أن تكون حكراً على المدينة، وأتاح لها أن تسجل كلمته عبر رواياته التي وثقت سيرة الأمازيغ وقبائل الصحراء الكبرى، وبعثت تراثها من تحت ركام التاريخ، بعدما كانت عالماً مهمشاً ومنفياً، ليس جغرافياً فحسب، بل وروحياً بعد أن بسّطها العالم بنظرته السياحية، الأمر الذي أسهم في اغتراب ثقافتهم اغتراباً تراجيدياً وعمّق عزلة تراثهم.

لفت انتباهنا في حديث سليم، دخول شيخ الصحراء أبواب المدينة، وفقاً لتعبيره، فسألناه عن التفاصيل، فأخبرنا: «سداسية الأسلاف والأخلاف تدور حول مدينة طرابلس ما بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلادي، رصد فيها تاريخ خمسة أجيال من الحكام تنتمي لعائلة واحدة، استحوذ عليهم صراع بين السلطة بأركانها الثلاثة (العرش والمال والمرأة) وبين حرية ألا يكون صاحبها عبداً لأي من هذا الثالوث. ليعزف سرديته عن البيوت والمجتمع وطبقاته والمقاهي والقصر والقلعة بمدينة طرابلس حينذاك».

«اتخذ الكوني البحر مكاناً تدور حوله أحداث السداسية، لينوع من تقنياته السردية التي مكّنته من صناعة ملحمة تحمل بين صفحاتها تاريخ ليبيا طوال قرن وربع القرن، تطرقت أيضاً إلى تاريخ حوض البحر المتوسط شماله وجنوبه؛ بما في ذلك مصر عصر نابليون وعصر صراع المماليك والأتراك على السلطة فيها، كما تناولت بعداً ثقافياً وحضارياً في آن، وجدلية الشرق والغرب طوال القرن الثامن عشر وحتى أواسط ثلاثينيات القرن التاسع عشر».

من رحابة صحراء الكوني وعوالمه، تطرقنا إلى آخر ما كتب سليم في مجموعته القصصية «نفق سري»، ليحدثنا عن تجربته في عالم القصة القصيرة جداً، فأخبرنا: «أضع لعبة التجريب دوماً نصب عيني، فمن لغة كلاسيكية وخيال سماوي رحب كتبت به روايتي (سِفر المرايا)، عدت لأكتب من أرض الواقع، وعلى الرغم من أن عنوان (نفق سري) يحمل معنى مادياً ملموساً يستدعيه الذهن، فإن المجموعة في واقع الأمر تدور في عوالم الذاكرة والعقل الباطن. هي نتاج استنزاف تفاصيل الحياة اليومية لأبطالها في مقابل ما يحمله كل منهم من أحلام مهما كانت طبيعتها وسقفها، ومع انخفاض هذا السقف يوماً يعد يوم تحت وقع ضروريات الحياة، إلى حد التلاشي أحياناً، وسقوط هذه الأحلام في الطريق وبقاء آثارها وتراكماتها في العقل الباطن، ينشأ الصراع بين الجسد السائر في الشوارع نهاراً والأحلام المعلقة بالعقل الباطن لأبطالها ليلاً، وما إن يذهب الجسد إلى النوم يستيقظ العقل كمتنفس ليصوغ مفردات هذه الأحلام بطريقة قصصية. وعلى هذا النحو كان العقل الباطن في هذه اللعبة بمثابة (نفق سري) لهروب الجسد، أسفر صراعهما عن هذه النصوص القصصية القصيرة.

أضاف: «خلال المجموعة تلاعبت مع الذاكرة، واعتمدت تقنية الأحلام، ولعبة التوهمات، والهلاوس السمعية والبصرية في منامات أبطالها»، وأشار إلى سعيه لتكثيف اللغة لتتوافق النصوص مع البناء القصصي من جهة، وترصد ما يدور من معارك نفسية بين أبطالها من جهة أخرى، وبالتعمق داخل شخوصها المجهولين تماماً كأحلامهم، حولت كثيراً من تفاصيل الحياة اليومية إلى مشاهد ومواقف سيريالية، تدور في عالم موازٍ، في محاولة لرصد طبيعة القبح الإنساني الذي يتولد عن تحطيم الأحلام المشروعة أو العجز عن الوصول إليها وتداعيات هذا القبح على أبطال النفق السري».

الإبداع والصحافة

عن علاقة الإبداع بالصحافة، يروي سليم تجربته بالقول: «كشفت لي الصحافة عن أسرار الكتابة الخفية، وعن الخيط الرفيع في تناول الأفكار والموضوعات والقصص بين التعقيد الأكاديمي والسطحية الصحفية، فجاهدت لأصنع المعادلة بينهما. رغم انشغالي بالبحث الأكاديمي مبكراً عقب تخرجي من الجامعة، فإن الصحافة نبهتني للغة الغامضة والجافة وأحياناً الغرابة اللغوية التي يعالج بها كثير من الباحثين موضوعاتهم، فعملت على تجنب هذا منذ البداية. أيضاً ركاكة كثير من المعالجات الصحفية لفتت انتباهي إلى خواء مضمونها وجهل محرريها عما يكتبون، أضف إلى هذا اللغة التقريرية الفاترة التي تصب في قالب يغيب عنه الروح، بين هذه وتلك سعيت للهروب من الاثنتين، وحاولت أن أصنع معادلة الكتابة المنهجية بلغة رشيقة دون أن أعقد الأمر على القارئ، فكانت النتيجة، فيما أرى بالطبع، وقد لا أكون محقاً، أن ما أنجزه من موضوعات صحفية يندرج في مجمله تحت بند القصة الصحفية أو (الفيتشر)، على نحو ما تناولت إدوارد سعيد، ومحمود درويش، وسيد حجاب، وحجاج أدول، وصامولي شيلكه، والمداح القبطي مكرم المنياوي، والأكراد ممثلين في الكاتب والمترجم جان دوست، وغيرهم. كل هذا وغيره جعلني أنشغل دوماً بالتطوير والتجريب في لغتي ومعالجتي للقصص التي أتناولها، وعلى ما في هذا الأمر من إرهاق فإني أراه يستحق، فلا معنى لأن نكتب ما لا يُفهم، فالكتابة، بحق، هي أن تنزف روحك وتجربتك على الأوراق، وإلا تظل مجرد حروف مسطورة لا قيمة لها، وأظن أن جلال الكتابة هو ما يفرق بين كاتب وآخر، فهي لا تعطيك بعضها إلا إذا أعطيتها كلك، إذا جازت لنا الاستعارة من أهل التراث».

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصدر الصورة: https://2u.pw/6Ja0K

أدب الثاني والعشرين بعد المئة العدد الأخير

عن الكاتب

فيصل رشدي