يحيى الذي فر من الموت عند الميلاد ليلقاه شابا

كتب بواسطة سماح ممدوح حسن

  يشاع بين الناس أن التاريخ لا يعيد نفسه، لكن هل هذا صحيح أم خطأ؟ ربما الإجابة منوطة بمعرفة القائل بما كان، وما هو كائن وتخمين سليم لنتائج تأتي بها المقدمات عما سيكون. ربما هذا هو السبب الرئيس والذي يغري الكّتاب بالكتابة التاريخية، والتي على اختلاف الأزمنة التي تتناولها، وعلى اختلاف الكّتاب ومأربهم وأهوائهم، نجد أن الرواية التاريخية على الأغلب تنال أكبر الحظوظ في النجاح.

نتناول في هذا المقال رواية “يحيى” للكاتبة الأردنية سميحة خريس. والتي تحكي فيها عن “يحيى” وسمى كذلك للفوز بالحياة بعد موت مؤكد عقب الميلاد.

 “يحيى الكركي” والذي أتى إلى العالم مع انعدام الأمل في عيشه أكثر من ساعات. فقد جاء يحيى إلى الحياة في عام يسيطر فيه الموت بعد اجتياح الطاعون وحصاد أرواح الأحياء من غير عدد، وكان “يحيى” هو الذكر الحادي عشر بعد عشرة ذكور ولدوا لـ”عيسى الطحان” ومات جميعهم بعد ولادتهم بسويعات، فكان الجميع ينتظر أن يلقى “يحيى” نفس المصير (ولد الفتى فلنحفر له مقبرة بجوار أخوته السابقين) لكن “يحيى” عاش وماتت أمه التي أهلكها شظف العيش وكثرة المواليد الذين لم ينجُ منهم سوى يحيى، وأخته مريم التى أضحت له أم بدلا من أمهم المتوفاة.

  تسرد الحكاية زمن مضى عليه أربعة قرون، نهايات عصر المماليك وبداية عصر العثمانين. أما عن مسرح الأحداث فكان باتساع رقعة العالم العربي بدءا من جلجول بالكرك سوريا مرورا بسيناء ومنها إلى مصر المحروسة والعودة للكرك مرة خرى والنهاية فىي دمشق الفيحاء.

عندما نقرأ بداية حكاية “يحيى الكركي”، نجد أنها بداية عادية كما الكثيرين من البشر، لكن وبالتوغل في الرواية ستتكشف تلك المكانة التي ستكون للبطل في نهاية حياته وبعد موته، وعلى الرغم من أنه لم يتمتع بذلك الصيت والشهرة التاريخية كالتي تمتع بها هؤلاء ممن أغرم بهم وبسيرتهم وفكرهم وكان علمهم كالقمر المضيئ له فى دجى الجهل، إلا أنه استطاع أن يحفر لنفسه مكانة وسطهم، ويذكر اسمه وسط تلك الأسماء التى تتخم بها الرواية، من أولئك الذين ظلوا يجاهدون لبث القيم الإنسانية والسمو البشري النبيل في نفوس من حولهم، آملين في أجيال تأتي من بعدهم يكونون بكامل الرقي الذي خلق الله عليه النسان. وفي سبيل ذلك دفع الكثير منهم حريته ثمنا، كما دفع الأكثر حيواتهم فى سبيل الجهاد الفكري والتنويري كما حدث مع يحي الكركي.

  كثيرة هي الروايات التاريخية التي تحكي عن الشخوص الذين شغفوا بالمعرفة والعلم حبا، وخرجوا من ديارهم واختاروا سبلا أوسع لنشر المعرفة والعلم واكتسابها، بعكس يحيى الذي كان يشعر منذ وعيه على العالم، ومنذ أن كان (يغمس إصبعه فى دواية الحبر الأسود ليكتشف كيف يخرج منه الحرف، ومنذ أن كان يتلاعب بالضوء المتسلل من شقوق سقف بيته) عرف أن هناك أكثر من هذا العالم الماثل للبشر على الشكل البسيط الذي نراه، عرف أن وراء الوجود وجود لا يمكن أن نراه إلا بالسير حتى نهاية الرحلة.

 لكن “يحيى” لم يخرج من دياره مخيرا، بل هرب من ظلم حدّق به واحتوى على هلاكه. ورغم الآسى الذي شعر به في الخروج إلا أنه اكتشف أن ذلك هو النعيم، عندما توسع عالمه بعد خروجه إلى صحراء سيناء ومكث فيها قدر ما كُتب له، وهناك اكتشف ما كان مخبوء له وعرف أنه من هؤلاء الاشخاص الذين يتحول التراب في أيديهم الى ذهب.

مكث في صحراء هو غريب عنها ولم تطأها قدمه، وكان حري به الضياع في جنباتها وشعابها، إلا أنه، وهو لم يعرف كيف له هذا، وجد نفسه مرشدا في صحراء التيه يرشد الحجيج سواء كانوا هؤلاء الرهبان الذين يصعدون إلى دير سانت كاترين، أو الحجيج القاصدين مكة الآتين من المغرب العربي.

ومن سيناء إلى المحروسة، عمل أيضا في مهنة لم ترد عليه قط. تشكيل وزخرفة النحاس، ومرة آخرى تتحول المادة الصماء في يده إلى أجمل التحف الفنية والتي كان أمهر الصناع يلتفون حولها لمشاهدتها والتعجب من صانعها الذي لم يكن خَبر هذه الصنعة من قبل.

فطن “يحيى” إلى شغفه بالعلم والمعرفة منذ أن كان صبيا يحفظ القرآن في زاوية جلجول، ولم يحفظ فحسب لكنه لم يكن يكف عن السؤال والاستفسار حتى تفوق على معلمه وصار ندا له، أحيانا كان معلمه يعجز أمام أسئلته. في ذلك اليوم الذي أهداه “مقبل” الراعي الذي كان يريد أن يتعلم كتابة اسمه، والذي سيرافق يحيى حتى النهاية، هداه كتب الفلسفة التي وجدها ولم يصدق “يحيى” أن بحوزته هذا الكنز، وعكف على دراسته ليل نهار ونقل ما فيه من علم لتلاميذه. وعندما صار مرشدا في سيناء أنعم عليه رهبان الدير بأكبر جائزة حظي بها عندما سمحو له بدخول المكتبة المحرمة على غيره. ومنذ ذلك الحين لم يتوقف عن تتبع ما خُط ودُوّن بيد علماء عصره أو علماء سابقين.

ترصد الرواية المتغيرات السياسية والاجتماعية والمادية التى تطرأ على الشعوب، ليس فقط في زمن الرواية قبل أربعة قرون فحسب إنما ماي ماثلها من أحداث في كل زمان. فالقارئ عندما يقرأ هذه المتغيرات في الرواية ربما ينسى إنها تحكي عن قصة عمرها أربعمائة عام، بل سيرى إنها تحدث في تاريخنا المعاصر.

فكم يوجد من هؤلاء الحاقدين الظالمين الذين تأمروا على “يحيى” منذ البداية وأخرجوه من دياره مستندين إلى قوتهم المادية وكثرة عددهم وتقربهم من السلطان، ودفعهم للرشى للإزاحة الفتى عن طريقهم وزجه فى صفوف عسكر العثماني في حروبه مع النمسا، ولمّا لم يكن ينطبق عليه شرط التجنيد لكونه وحيد أبويه، نسجوا له حجة جديدة بغرض إلحاقه بصفوف الجيش لتعليم الجنود القرآن. أيضا عند العودة، وبعد مضى سنوات وموت أبيه، تآمروا عليه أيضا عندما حشد “يحيى” الناس ضد ظلمهم بعدما انتهزوا فرصة خلاء البلاد والدور من أهلها على أثر اجتياح أمراض الحمى التى اضطر فيها الناس للفرار بحياتهم، رجع يحيى ليطالب ببيته الذى استولوا عليه فتآمروا عليه للمرة الثانية واتهموه بالسرقة ليهرب بعدها لدمشق.

يتجلى الظلم السلطوي والذي لا يفرق بين الأزمنة قديمها وحديثها في مشاهد المحاكمة في الفصل الأخير من حياة يحيى، المحاكمة التى على أثرها أعدم (وقطعت رأسه) يحيى الذي تعلّم في زاوية شيخه طفلا ثم طالب في الأزهر بمصر، وبعدها معلما في الجامع الأموي في دمشق.

 فنرى أن ما حدث منذ قرون أربعة، يحدث الآن. إلصاق تهمة ازدراء دين أو التطاول على الذات الإلهية وإضلال العامة بعد الهدى، فقط لأن أحدهم يتحدث بطريقة مختلفة، يفهم الأمور بعقله ولا يأخذها على علاتها أو كما جاءت في الكتابات القديمة والتي تخبر الناس بأن كل شيء قد تحدد وتم تفسيره مسبقا، وليس عليهم سوى الحفظ والإذعان لما جاء به الأولين أي إعمال للعقل تكون عقوبته الحبس والموت.

 ككل الروايات التاريخية تتقاسم البلاد والجغرافيا البطولة مع شخوص العمل، فتصير الأماكن تمتلك حيوات كالبشر. فترى البطل يجول ويتعلم، يُنصف ويُظلم، يكوّن مريدين وأعداء، يعشق ويُعشق، يحيا بين جلجول والكرك وسينا ومصر ودمشق.

في رواية يحيى يتزاحم أعلام الصوفية وشعرائها مثل ابن عربي، ابن الفارض، وأيضا الفلاسفة كابن سينا. وتُعزف مقولاتهم وشعرهم على طول الرواية.

تشابهت الأوضاع السياسية والاجتماعية في كل الأمصار (سوريا، مصر) والتي كانت تحت الحكم العثماني. نفس الظلم والفقر والاستبداد السياسي الذي جعل من بعض الناس بشرا لهم كل الحقوق، وآخرون مستعبدون بمجرد مطالبتهم بالمعاملة الأدمية بل ويُعد ذلك حلما. ربما كانت هذه السمة الأساسية التي تجعل من الرواية التاريخية ملحمة يمكنها التعبير عن المنغصات التي تمرّ في كل زمان ليجد القارئ ذاته وواقعه ومعاشه فيها، بل وتعبر عنه. ربما هذا من أهم عوامل نجاح الروايات التاريخية ومنها رواية “يحيى” لسميحة خريس.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

مصدر الصورة: https://2u.pw/sbAmg

أدب الثاني والعشرين بعد المئة العدد الأخير

عن الكاتب

سماح ممدوح حسن