التفرد القصصي وسبر الحالات النفسية في أدب أنطون تشيخوف

كتب بواسطة سريعة سليم حديد

“أنطون تشيخوف” اسم لمع في فضاء الأدب العالمي مظهراً القدرة الكبيرة على فنية السرد والتقاط الموضوعات المتميزة ساعده على ذلك العيش وسط طبيعة جميلة وامتلاكه حس مرهف وثقافة ثرية

الكتاب: مجموعة قصصيَّة بعنوان: “الأرض المنخفضة” ويتألف من مجلدين.

في المجلَّد الأوَّل تظهر براعة الكاتب في وصف الطبيعة بتفاصيلها التي تندمج مع الحالة النفسيَّة لشخصيات قصصه في حساسيَّة بالغة الدقة واستغراق في الرومانسيَّة، فيصف الطبيعة بأسلوب يضفي على القصَّة الكثير من الجمال والمتعة، ويكشف امتلاكه وسائل الوصف الخلاقة. من قصَّة بعنوان (خوف. قصَّة صاحبي) الشخص الذي أحبَّ زوجة صديقه، نقتطف: “نظرت إلى القمر الأرجواني الضخم الذي طلع، وتصوَّرت امرأة شقراء طويلة هيفاء شاحبة الوجه متأنقة دائماً، يفوح منها عطر خاص شبيه بالمسك، وقد كان مبهجاً لي أن أظن أنها لا تحبُّ زوجها”. ص44 

يبدو بروز القمر بشكل طبيعي في العديد من قصص الكاتب مما يوحي، كم هو مغرم به! فكم يتسلل إلى قصصه عن طريق اللاشعور، وكم له معه قصص وحالات فريدة!

قصَّة (المغفلة) تعلوها شفافيَّة الموقف الحساس الذي يظهر مدى بساطة الشخصيَّة في عالم مليء بالقسوة وحب الذات. في القصَّة يتوحَّد جمال الفكرة مع رشاقة السرد المتصاعد عبر الدهشة إلى ذروة التعجُّب! فما سكوت الفتاة المربيَّة للأطفال عن حقها، وقبولها (بالروبلات) القليلة، ومن ثم شكرها لصاحب البيت بعدما سلبها أموالها أمام عينيها، دون أن تبدي أية شكوى، ما سكوتها إلا عرض لشرائح كبيرة في المجتمعات التي من السهل على الكثيرين اقتيادها واستغلالها كيفما يشاؤون. هذا ما يجعل العنوان يقترب نحو لقب مسكينة أكثر من كون الفتاة مغفلة. 

 إن اللعب على سبر الحالة النفسيَّة لأبطال القصص، يجعل المرء يدرك تماماً أية حساسيَّة يمتلكها الكاتب حتى وصل به الأمر إلى هذا الإخراج اللافت في إظهار الشخصيات على هذه الدرجة من التشريح النفسي العميق.

وما قصَّة (وفاة موظَّف) إلا حالة مفعمة بالحساسيَّة. ماذا يعني أن يعطس موظَّف، وقد أصاب برذاذه صلعة رجل مهم كان يجلس أمامه؟ أليس الاعتذار في وقته يكفي لتبرير الموقف؟ لم يقتنع الموظَّف بالاعتذار لمرَّات عدة. لقد شعر أن فعلته فظيعة قد تستوجب عشرات المرَّات من حالات الاعتذار. مما جعل صاحب السعادة يقوم بإهانته. هذا ما أدى به إلى الموت.

كما يمتدًّ السبر النفسي إلى قصة (الدبلوماسي) فيظهر بطل القصَّة دبلوماسيَّاً يمتلك روحاً طيَّبة تنمُّ عن الشغف المطلق في تخفيف الألم عن السيِّد الذي ماتت زوجته، ولا يستطيع البطل إخباره بالأمر بشكل مباشر، على الرغم من محاولاته الكثيرة في التمهيد للنبأ. هذا الذوق في طريقة عرض الخبر بشكل مبهم مشتت، ينمُّ عن عظمة النفس المدارية لذلك الصاحب المفجوع، ولكن في كيفيَّة المداراة تكمن براعة الأسلوب. نقتطف: ” دعك من ذلك أرجوك! إني أعرفها جيِّداً، امرأة شريرة متغطرسة، خبيثة! كل كلمة سم زعاف، كل نظرة خنجر حاد، أما اللؤم الذي كان في المرحومة فشيء لا يمكن وصفه!

فاتسعت عينا (كوفالدين) وهو يسأل:

ـ ماذا تعني بالمرحومة؟

فاستدرك (بسكاريوف) محمرَّاً:

ـ وهل قلت المرحومة؟ أبداً، أنا لم أقل ذلك.” ص116

تلوح القناديل مضيئة جوانب وعواطف إنسانيَّة مهمة في قصَّة (المصيبة) التي لم تأخذ ذلك البعد في الانتشار والإعجاب كما أخذته بعض قصص “تشيخوف”. فهي تحمل كمَّاً هائلاً من القدرة على إبراز الألم والخيبة وسط الضباب والثلج والجو القارس والنفس المتسارع، وبطرق لافتة مدهشة.

 العربة وسط الثلج والطريق الصعب والزوجة تعاني الألم، والزوج يجاهد في إيصالها إلى المشفى، لكن موتها يسبقه إلى الطبيب، فيتجلى ملك الموت للزوج بهيئة طبيب، مما يجعل النهاية تصل إلى ذروة الدهشة وعمق الإحساس عندما يرجو الزوج الله أن تحيا زوجته ليقدِّم لها المعاملة الطيِّبة، لكن هيهات، لقد فات الأوان.

ولا يمكن إلا المرور على قصَّة (وحشة، لمن أشكو همِّي) الحوذي الذي مات ولده منذ أسبوع لم يكن يجد من يفضي إليه بأحزانه أمام الكثيرين الذين التقى بهم، هذا ما يدفعه إلى أن يحكي أحزانه للحصان الذي أخذ يستمع إليه، وكأنه يقدِّر مشاعره، ويواسيه على فقدانه ابنه.

لقد استطاع “تشيخوف” إقناعنا برهافة حس الحصان مقارنة بالإنسان. هل هذا واقعي؟ وللأجوبة خفايا قد يمكن الاحتفاظ بها!

تمتدُّ المقدرة الرائعة على سبر الأحاسيس العاطفيَّة في مشكِّلة حالة حبِّ غريبة، تدفع بالشخصيَّة البطلة “نادنكا” لأن ترسم الحب وسط جو من المغامرة التي قد لا يفصل بينها وبين الموت بالنسبة لها قيد شعرة. هي لحظة حبٍّ تبحث عنها “نادنكا” في رياضة التزحلق إلى أسفل الجبل، فهناك هوَّة مرعبة لا قرار لها.

لحظة الحب هذه تأتيها محمَّلة على خصلات جدائل الريح، فتسمع “نادنكا” جملة واحدة: “أحبُّك يا ناديا.” ص227 هي من تدفعها باستمرار إلى تحمُّل رياضة التزحلق رغم كل مخاوفها التي تكبتها في قلبها الصغير، عندما تهوي بالزحافة إلى الأسفل: “سرعان ما تتعوَّد “نادنكا” هذه الجملة كما يتعوَّد المرء الخمر أو المورفين، ولا تستطيع أن تحيا دونها.

صحيح أنها ظلَّت تخاف الهبوط من التلِّ، لكن الخوف والخطر أصبحا يضفيان سحراً على كلمات الحب، هذه الكلمات التي بقيت كما كانت لغزاً يثير الأشجان، والشك ما زال محصوراً في اثنين: أنا والريح، من منا الذي يبوح لها بحبِّه” ص230

تأتي الخاتمة لتكشف سرَّ ذلك الحب القافز من أعلى الجبل إلى الوادي السحيق بزلاجة الرغبة، فهو عبارة عن مزحة فقط، وهذه المزحة قد احتلَّت عنوان القصَّة المدهشة.

هذا النفس الوجداني يزداد حرارة في كل جملة تلهث بها السطور، فيشكِّل في النهاية قصَّة أعمدتها من رخام الكلمات، وسقفها مرصَّع بشذرات الوصف الشتوي الثلجي، أما أبوابها ونوافذها، فتفتح على سهل تربته متنوِّعة التضاريس غنيَّة بهواء عاطفي شفيف.

إن تنوُّع الموضوعات ظاهرة ساطعة الضوء وسط الكم الكبير من القصص. في قصَّة (في البيت) تعرض مشكلة قد لا يخلو بيت من المرور بها، مشكلة التدخين لدى الصغار. كيف للأب أن يعالج هذه المشكلة؟ تبدو وجهات النظر التي يطرحها الكاتب في قصَّته منطقيَّة بلا شك: رفض العقاب، التحدث بلغة الطفل ذاته، الأسلوب اللطيف، محاولة الأب إقناع طفله بعدم التدخين من خلال قصَّة اختلقها مرتجلاً إياها، وقد حمَّلها كل قناعاته ورغباته في محاولته لإبعاد ابنه عن تلك العادة السيِّئة.

يبرز موضوع اللحظة الحرجة في قصَّة (الأعداء) الطبيب توفي ابنه وفي الوقت ذاته يأتيه رجل يطلب منه الذهاب معه للكشف عن زوجته التي أُصيبت بمرض قلبي مفاجئ.

إن انعدام المقدرة لدى الطبيب والعجز عن القيام بعمله نتيجة موت ابنه لم يكن مقنعاً لدى الزوج الذي ظلَّ مصرَّاً حتى حمل الطبيب بعربته إلى المريضة. هذا التشتت العاطفي والحزن وصعوبة القيام بالواجب المهني جعل الطبيب يعيش في دوَّامة لا حدود لها من الضياع والتشرُّد الحسي. هنا تكمن براعة الكاتب في ذلك الحوار الذي تجاوز حدود الأدب عندما اكتشف الزوج أن زوجته قد ادَّعت المرض لتتيح لنفسها فرصة الهروب مع من تحب.

يبدأ المجلَّد الثاني بقصَّة عنوانها (القبلة) هذه القصَّة تندرج تحت عدد من القصص التي تتحدَّث عن الحالة الوجدانيَّة لدى أحد الضباط الذين يعيشون حياة عاطفيَّة مهمَّشة، فيحصل على هزَّة عاطفيَّة وسط غرفة مظلمة يقوده إليها القدر بمحض الصدفة، فتأتي فتاة مجهولة تحيطه بذراعيها، وتقبله.

 القبلة العابرة تغيِّر نظرته إلى الحياة والناس، يعيش في تفاصيل الحدث فيشكِّل في خياله صورة للمرأة المجهولة التي قبَّلته من خلال صور متعددة لنساء أمضى معهن السهرة.

أما قصَّة (كاشتانكا) فتجري على ألسنة الحيوانات بالدرجة الأولى. بطلتها الكلبة (كاشتانكا) هنا تتوضَّح مقدرة (تشيخوف) على سبر مشاعر الحيوانات، وجعلها تطفو على السطح، مبيِّناً مدى تفاعل الحيوان مع من مثله، ومع الإنسان.

(كاشتانكا) تضيِّع طرق العودة إلى بيت صاحبها، تلجأ بالصدفة إلى مدرِّب في السرك، فتأتي النهاية المفاجئة، عندما تترك الكلبة صالة السرك، وتتجه إلى صاحبها الأوَّل.

هنا يؤكِّد الكاتب على قضيَّة الوفاء لدى (كاشتانكا) التي تترك الرفاهية، وتتجه نحو الحياة العاديَّة. هنا عودة أخرى إلى التأكيد على الحس العاطفي أو لنقل الأخلاقي لدى الحيوان.

إن فنيَّة وصف الشخصيات وافرة جداً في قصَّة (الحسناوان) الفتاة التي التقاها بطل القصَّة تتمحور صفاتها في مقطع جذَّاب يختصر فيه الكاتب كل محاسن الفتيات، نقتطف:

 “ولو نظر فنان إلى جمال هذه الفتاة الأرمنيَّة لاعتبره جمالاً كلاسيكيَّاً صارماً كان بالضبط الذي يدخل تمليه في قلبك، وأن الشَّعر والعينين والأنف والفم والعنق والصدر، وكل حركات هذا الجسد الشاب، قد اتحدت في نغمة هرمونيَّة متكاملة، لم تخطئ الطبيعة خطأً صغيراً واحداً..” ص73

قصَّة بعنوان: (حكاية مملَّة) (من مذكرات رجل عجوز) قد ينعكس العنوان على الجو العام للقصَّة فتبدو مملَّة بشكل فرضي، حين تتوالى الصفحات العديدة تشحن النفس بغيمة كثيفة من الأحداث المتوالية، تكشف تفاصيل ثانوية لشخصيات القصة، حيث يتم انتقال لافت من عرض لشخصَية ما إلى شخصيَّة أخرى بشكل سلس لا تكلف فيه. ولكن ما يبدد الملل بعض الشيء ذلك السرد المحكم البناء والمهارة في تغيير الأحداث.

كم يحترم (تشيخوف) مشاعر القارئ، ووقته، وفكره! يبدو هذا من خلال ذلك الجذب الرهيف في عوالم إبداعه، يتسلل برقة إلى مشاعر المتلقي، مما يدعوه ليقرأ همساً خشية جرح الصمت، وحتى يكاد يسمع صرير القلم على الورق المندَّى بأنفاس حرارة أفكار الكاتب، وهو يتابع إلقاء جمله على الورق بكل لطف ومتعة وراحة بال.

الكتاب: مجموعة قصصيَّة بعنوان: الأرض المنخفضة. مناهل الفكر العالمي.

المجلَّد الأوَّل والثاني من أنطون تشيخوف، مؤلفات مختارة. ترجمة د. أبو بكر يوسف.

مصدر الصورة: https://2u.pw/RnnpW

أدب الثاني والعشرين بعد المئة العدد الأخير ثقافة وفكر

عن الكاتب

سريعة سليم حديد