ترجمة وإعداد: محمد زين العابدين
By: ©Brian King-2019
يتساءل كاتب المقال عن الأشياء المتفردة في العقل البشري، بالمقارنة مع الحيوانات الراقية الأخرى..
*دماغ البشر المعقد، وأدمغة الحيوانات:
هناك مقولة مبتذلة، مشتقة من أرسطو؛ مفادها أن “الإنسان هو الحيوان العقلاني”. ففي حين أن جميع الحيوانات لديها أحاسيس، وشهوات، ومخاوف؛ يقال إن البشر فقط لديهم القدرة على التفكير. سادت فكرة أن العقل البشري يختلف اختلافاً جذرياً عن عقل أي حيوان آخر، لأكثر من ألفي عام. ثم تم التشكيك فيها منذ منتصف القرن التاسع عشر، من خلال التفسيرات الطبيعية التي ظهرت مع ظهور نظرية التطور، وعلم الرئيسيات، وأخيراً علم الأعصاب.
ذهب التفكير الجديد إلى أن هناك فرق بين العقل البشري، وعقل الشمبانزي -على سبيل المثال- ولكنه اختلاف في الدرجة، وليس في النوع. هل هو اختلاف جوهري أكثر من الاختلاف بين عقل الشمبانزي والبابون؟ هل هناك شيء مختلف جذرياً، يمكن للبشر فعله بعقل لا تستطيع أي حيوانات أخرى فعله؟ هل عقول البشر مختلفة بدرجة عن أذهان أقرب أقربائنا التطوريين من الأحياء؛ الشمبانزي والبابون؟
في بعض الأحيان، تنقطع عملية التطور التدريجي، عن طريق القفزات المفاجئة، وتشير الأدلة الأحفورية إلى حدوث مثل هذه القفزة فيما يتعلق بالدماغ البشري. فقشرة الدماغ البشرية (الطبقة الخارجية من الدماغ)، وعلى وجه الخصوص الفص الجبهي، أو القشرة المخية الحديثة، تطورت فجأة من الناحية التطورية. ويبدو أن هذا الجزء من الدماغ هو مقر العقل. وستدعم بعض الأرقام أيضاً هذا الادعاء؛ ففي حين أن دماغ الفأر يحتوي في المتوسط على 75 مليون خلية عصبية، ويحتوي دماغ الشمبانزي على 7 مليار خلية عصبية، فإن متوسط عدد الخلايا العصبية في الإنسان يبلغ 86 مليار خلية عصبية.
ومن الجدير بالذكر أيضاً، أن كل خلية عصبية في دماغ الإنسان، بها تشعبات (أسلاك تربط الخلايا العصبية) أكثر بكثير عما في أدمغة الحيوانات الأخرى، وبالتالي درجة مختلفة من الترابط بين خلايا الدماغ. يوجد في الأمخاخ البشرية أكثر من 125 تريليون نقطة اشتباك عصبي (وصلات خلايا الدماغ)، أي أكثر من عدد النجوم الموجود في 1500 مجرة!
والمفاجأة في هذا التطور يمكن رؤيتها من خلال مقارنة أحجام الدماغ لأنواع مختلفة من البشر الأوائل؛ فبينما كان إنسان(الأسترالوبيثكس)، منذ 4 ملايين سنة يبلغ متوسط حجم دماغه حوالي 500 سم مكعب، فإنه في سلالة (الإنسان المنتصب)، قبل 1.8 مليون سنة كان متوسط حجم الدماغ أقل قليلاً من 1000سم مكعب. أما بالنسبة للإنسان العاقل (Homo sapiens)، فقد بلغ متوسط حجم دماغ الإنسان البالغ في معياره الحالي 1500 سم مكعب منذ حوالي 200 ألف عام.
وتقريباً كان كل هذا النمو في الطبقات الخارجية من الجمجمة، وخاصة في قشرة الفص الجبهي؛ والتي تتعامل مع التفكير المجرد، واتخاذ الخيارات الاجتماعية/ الأخلاقية، والتعاطف، واللغة؛ حيث تعمل نسبة كبيرة من نقاط الاشتباك العصبي، تقدر بالتريليونات، هنا في هذه الطبقات.
نريد استخدام هذه النقاط كنقطة انطلاق لمعالجة مسألة ما إذا كان يمكن أن يكون هناك وصف للفرق بين البشر، والحيوانات الأخرى؛ يحافظ على مبادئ التطور، ومع ذلك يحافظ على تميز البشر. وللقيام بذلك نريد أن نلقي نظرة على قدرة عقولنا على استخدام المجازات، والتفكير بشكل متكرر.
حان وقت الاستعارة:
تمكّننا المجازات من رؤية أشياء من نوع ما، لها علاقة بأشياء من نوع آخر، حتى يمكن تحسين فهمنا. على سبيل المثال: فإن العبارة الإنجيلية “الرب هو الراعي لي” قد تعزز فكرة علاقة المرء بالله. لكن كثيرين (مثل جورج لاكوف، وإيان ماكجيلكريست)، جادلوا بأن المجازات أكثر جوهرية من ذلك بكثير.
يمكن استخدام المجازات لوصف فعل ما من منظور آخر؛ على سبيل المثال: “دافع عن موقفه بقوة، وفاز في المناظرة”، كما لو كانت المناظرة معركة. ويمكن أن تصف المجازات أيضا علاقة، أو بنية ما، ذات صلة بنظيرتها الأخرى؛ لذلك نتحدث عن “مدار الإلكترونات حول نواة الذرة”، كما لو كانت الذرة عبارة عن نظام شمسي مصغر.
في الواقع، يمكن استخدام المجازات (الاستعارات) للتعبير عن أي فكرة من منظور آخر، وعلاوة على ذلك، فهي سائدة طوال حياتنا اللفظية. في كثير من الأحيان لا ندرك حتى أننا نستخدمها. على سبيل المثال، قد نقول: “الوقت يقترب عندما نحتاج إلى المغادرة”، كما لو أن الوقت كان شيئاً قادماً نحونا.
نحن أيضاً غالباً ما نصور الوقت على أنه خط، يمكننا من خلاله التحرك في خيالنا، للأمام، وللخلف على حد سواء، ويمكن أن يكون إحساسنا بالوقت في الماضي، والمستقبل مدعوماً من خلال هذه الاستعارة المكانية البسيطة. أو قد نقول: “أرى ما تعنيه”، كما لو كان الفهم شكلاً من أشكال الرؤية؛ أو”التقّطتُها”، كما لو كان الفهم شكلاً من أشكال الظفر، أو الإمساك بالشيء، أو “يمكنني أن أتبَع خطك في النقاش”، كما لو أن الحجة هي نوع من المسار.
عند التفكير، أو الاستنتاج؛ يبدو أننا غالباً ما نستخدم نوعاً من المساحة التخيلية. كما أننا نميل أيضاً إلى رؤية الأشياء المجردة، بطرق ملموسة، أو فيزيائية، مثل “لقد شدد موقفه”، كما لو كانت المواقف أشياء مادية؛ أو “أنت بحاجة إلى أساس متين لهذه الحجة”؛ كما لو كانت الحجج كالهياكل المادية. بشكل عام، يتم توصيل الأفكار المعقدة بسهولة أكبر، وبعبارات أبسط.
وعلى سبيل المثال، قد نشير إلى “الصراع بين القوى المحافظة، والثورية في حزب سياسي؛ والذي قد يمزقه”، كما لو كان الحزب مخلوقًا هشاً. تجعل الاستعارة فكرة ضعف الحزب السياسي مفهومة بشكل أوضح، ونحن نفهمها بسبب تجاربنا الإنسانية المشتركة. يمكن إذن ملاحظة أن ما تشترك فيه الاستعارات اليومية (على عكس الشعرية)؛ هو وصف شيء ما من حيث علاقته بشيء مألوف أكثر.
والأشياء الأكثر شيوعاً التي نتعرف عليها؛ هي الإحساس المكاني البسيط، وخصائص الأشياء، وأجسادنا، ومشاعرنا. ولذلك، فإن الفكر النظري المعقد متجذر في تصوراتنا، وخبراتنا الحيوانية الأكثر شيوعاً، أو الأساسية؛ عبر الاستعارة. يجادل (لاكوف) و(ماكجيلكريست)، وآخرون؛ في نظرية (لاكوف) العصبية للاستعارة (2008) -على سبيل المثال- أنه بهذه الطريقة، تعد الاستعارات جزءاً أساسياً من الفكر.
تمكّننا الاستعارات من التفكير فيما وراء تجاربنا المباشرة، وبالتالي تطوير الفكر المفاهيمي، المستمد مجازياً من تجاربنا المادية، أو الجسدية البسيطة، كما في الأمثلة السابق ذكرها. فلا يمكن فهم الأشياء المجردة بسهولة، إلا من منظور الأشياء الأخرى، التي نعرفها بالفعل.
وإذا كان كل تفكير يعتمد على رؤية الأشياء، من منظور الأشياء التي نفهمها بالفعل؛ فلن تكون الاكتشافات، والأفكار الجديدة؛ في تلك الأطر القديمة الراسخة. ربما لهذا السبب قال الفيزيائي (ريتشارد فاينمان) عن ميكانيكا الكم؛ أنه إذا كنت تعتقد أنك تفهمها، فلن تفهمها.
وما كان يقصده على الأرجح، هو أن فيزياء الكم غريبة جداً، ومنفصلة جداً عن خبراتنا الطبيعية بالنسبة للعالم؛ بحيث لا توجد استعارات، أو نماذج يومية، يمكن أن تساعدنا في فهمها. وبخلاف ذلك، فإن ميكانيكا الكم هي نظرية مشتقة رياضياً، تصف عالماً لا تشبه سلوكياته خبراتنا المعتادة.
ما علاقة كل هذا بعلم الأعصاب؟
أظهر علم الأعصاب أن الروابط العصبية تنشأ مادياً، عندما ترتبط الأفكار في الفكر، إما بشكل سببي، أو منطقي، أو مجازي. ويشير تعقيد نصفي الكرة المخية، إلى أن الترابط هو المفتاح لقدرتنا العظيمة على فهم العالم؛ أي قدرتنا على تصوير الأشياء المعقدة، بمصطلحات مألوفة لنا باستخدام الاستعارة.
ويتم استخدام الكلمات مثل الحاويات، أو الحقائب؛ للإشارة -ليس فقط إلى الأفكار البسيطة- بل إلى مجموعات معقدة من الأفكار، هذه الإمكانية لتحميل الأفكار المعقدة على وحدات، أو أفكار لفظية بسيطة؛ والتي بدورها يمكن استخدامها في تفكير أكثر تعقيداً، والذي يمكن من ثم تبسيطه لفكرة، أو كلمة واحدة، وهكذا؛ مما يعني أنه لا يوجد عملياً نهاية لإمكانية دمج الأفكار، داخل بعضها البعض.
ويمكن أيضاً تقديم حجة، مفادها أننا نفهم الأعداد الأكبر، من خلال التفكير فيها على أنها مجموعات من وحدات أصغر. ومن المثير للاهتمام أنه لا يمكننا التفكير في أعداد أكبر بدون لغة؛ حاول التفكير في الرقم “147” دون أي استخدام للغة/ الإشارات (العلامات الرياضية هي شكل من اللغة)، في حين أن مفاهيم “واحد” أو “اثنان” أو “ثلاثة” ربما تكون واضحة بما يكفي للتخيل، دون استخدام الكلمات.
لذا فإن التطبيق المتكرر لاستخدام الكلمات (تعشيق الكلمات)، هو جانب من جوانب اللغة، أو الفكر؛ الذي يمكن القول إنه يميز البشر عن غير البشر، ويمكن أن يسمح لنا بهيكلة تفكيرنا. إن التفكير المعقد ليس شيئاً واحداً، يتلوه شيء آخر فحسب، بل شيء واحد، موجود في شيء آخر، مثل الدمى الروسية. يمكننا أن نقول: “غروب الشمس جميل”، و”يعتقد (جون)، أن غروب الشمس جميل”.
لقد وجد (راما شاندران) دليلًا على أن المسارات العصبية المتقاربة جداً في الدماغ، تُستخدم لبناء الجمل، والتفكير المنطقي، وللربط بين الأشياء المادية معاً، مثل الأدوات. ويبدو أن هناك أساساً عصبياً لكل من الاستخدام المتكرر للكلمات، والمجاز التخيلي؛ وهو يشمل مناطق دماغية لم يتم تطويرها في الرئيسيات الأخرى، وبالتالي فهي سمة بشرية مميزة. ومع ذلك، لا يزال هناك سؤال حول ما إذا كانت اللغة ضرورية لهذا النوع من التفكير. من الواضح أنه حتى لو لم تولد هذه القدرات في البداية؛ فإن اللغة تسهل بشكل كبير من قدرتنا على التفكير بطرق تكرارية، ومجازية.
*ما الذي يميز البشر؟
إذن، هل يميزنا استخدامنا المتكرر، والمجازي المعقد للغة، عن جميع الحيوانات الأخرى؟ -لا سيما بالنظر إلى المهارات المعرفية المتقدمة لحيوانات مثل الشمبانزي، والدلافين، لديهم بالتأكيد القدرة على التعلم، والتعرف على عدد غير قليل من العلامات (الكلمات) للأشياء، أو الاحتياجات، أو الأنشطة- لتكوينها بطرق مختلفة ذات مغزى (استخدام القواعد)، واستخدامها لنقل نوع من المعنى.
ومع ذلك، فإن محدودية استخدام المفردات، والقواعد (البشرية) في هذه الحيوانات؛ تعني أن لغتها (البشرية)، ضعيفة جداً، مقارنة بلغتنا. والأهم من ذلك، أن عدم قدرتها الواضحة على استخدام اللغة الإسترجاعية، أو المجازية؛ ربما تعني أنها لا تستطيع استخدام اللغة لأي شيء، مثل التفكير الرمزي، أو المجرد المعقد.
ويشير كل هذا، إلى أن البشر يختلفون عن الحيوانات الأخرى، في الطرق الفريدة التي يمكن بها استخدام المجاز التخيلي، والإسترجاع للكلمات، لتطوير المعتقدات، والأفكار؛ بما يتجاوز المستوى الذي يمكن أن تفكر فيه الحيوانات الأخرى.
مصدر المقال: (Philosophy Now Magazine- March 2019)
مصدر الصورة: https://2u.pw/EWTkX