الرقص بوصفه أسلوبًا تعبيريًا عن البيئة والأيدويولوجيا

“الرقص حياة”، بهذه المقولة العجلى والموجزة نستطيع الولوج إلى هذا الفن الحركي الذي ارتبط به الإنسان منذ زمن بعيد، وعبّر به عن دلالات الحياة والموت، عن صور الحياة اليومية بما تحمله من أفراح ومشقات وأعياد ومناسبات اجتماعية، والتعبير عن الموت من خلال أشكال الرقص الجنائزي قديمًا، والقصص الراقصة في فن الباليه حديثًا. ومما جعل لهذا الفن حضوره الراقي والطاغي؛ إنه اختزل العديد من الفنون البصرية والمرئية كالتشكيل والنحت، والمسرح والسينما، فضلًا عن فنون سمعية وقوليّة كالموسيقى والشعر.
ارتبط الرقص عند الإغريق بفن الشعر والموسيقى، وقد وصفه أفلاطون بأنه: “الرغبة الفطرية في شرح الألفاظ بحركات الجسم كله”. وقال أرسطاطاليس إن الرقص “تقليد الأعمال، والأخلاق، والعواطف، بطريق أوضاع الجسم والحركات الإيقاعية”، وكان سقراط نفسه يرقص، وهو يمتدح هذا الفن لأنه يهب الصحة لكل جزء من أجزاء الجسم، وتؤكد المراجع التاريخية على أن قدماء المصريين هم أول من عرف هذا الفن، حيث ظهرت في النقوش الموجودة على جدران المعابد كثير من أشكال الرقص التي حمل كل منها سمات دلالية ورمزية معبّرة عن طقوس ومناسبات مختلفة من بينها ما يحثّ على المروءة والتّسامح كرقصة التحطيب التي انتقلت إلى الحضارات الأخرى، وانتشر هذا الفن الحركي بهدف إشاعة البهجة والسرور، وعدّه القدماء فنًا راقيًا مقدسًا. ووصفت الباحثة إيرينا الكسوفا في كتاب “الرقص المصري القديم” أن النقوش الموجودة تكشف عن ارتباط القدماء بفنون الرقص الأكروباتي، والرقص الحركي الخالص، والرقص الهادئ الذي تقوم به السيدات فقط، وهو أكثر أشكال الرقص انتشارًا. وهناك رقص المحاكاة الذي يقوم على محاكاة الراقصين لحركات الحيوانات أو الظواهر الطبيعية. كان الرقص يعبّر عن أفكار معينة، فمثلًا الرقص الجنائزى بأنواعه الثلاثة: الطقسي، والحزين، والدنيوي يهدف إلى تحقيق أهداف ترتبط بالطقوس الجنائزية والترفيه عن روح الميت، بينما كان الرقص الحربي وسيلة من وسائل التسلية للقوات العسكرية في وقت راحتها. وهكذا كان لكل شكل من الأشكال أهدافه.
فن الباليه ورقص الدراويش
تطوّر الرقص على مر العصور وانتشرت في مدن العالم أنماط ومدارس الرقص وتنوعت أشكاله، لكنها تبحث جميعًا عن حرية ما، ربما حرية الجسد المثقل بالأوجاع والهموم، أو المقموع الذي يعاني الاستبداد والقهر، الجسد المتشبث بالأرض، والذي ربما يبحث عن حرية التواصل مع الآخرين بغض النظر عن اختلاف اللسان أو اللغة، لأن للرقص لغة أخرى تتجاوز الجغرافيا والأبجدية. وعلى الرغم من أن مدارس وفرق الرقص تعبر عن اتجاهات فنية متباينة؛ إلا أنها جميعاً تعمل على توظيف الجسد والاستفادة القصوى من مكوناته، مثل طول وحركة الساعد والساق، واتساع الخطوة أو تكرارها، وإيماءة الرأس، وحركة الراقصين على المسرح… إلخ. وهو ما يجعلنا نفرق بين فن الباليه مثلاً ورقص الدراويش.
مع تطور فن الرقص وتعدد أشكاله، تعددت المدارس والاتجاهات، فظهرت عروض الباليه وفرق الرقص الحديث التي تتميز بإبداع جسدي وحركي غير مسبوق، وإخراج عبقري يجعل أجساد الراقصين كالفراشات، وهم يتمايلون ويحلّقون ويدورون في خفة ورشاقة تخلق الفراغات في فضاء المسرح ودون التعلق بجاذبية الأرض، وهذه كان جمهورها من النخبة والطبقة الأرستقراطية، حيث يتطلب عرض الباليه بمختلف مدارسه مثل الكلاسيكية والرومانسية.. وغيرهما؛ إمكانيات خاصة يجب توفرها في المسرح.
كما أدّى هذا التطور أيضًا إلى ظهور فرق ورقصات لها أبعاد مختلفة فظهرت فرق الرقص التي تتوجه للبسطاء والمهمشين وحتى الدراويش، تقدم أشكالا راقصة وحركات معبرة عن البيئات الشعبية وتفاصيل الحياة اليومية خاصة في العمل. أصبح لهذه الفرق سماتها الخاصة في التعبير، لاسيما انها رفضت أن يكون اتجاهها الفني خاوياً أو مجرداً إلا من حركة الراقصين؛ بل ذهبت إلى آفاق أبعد، فتجلت في أعمالها ظواهر فنية لافتة ترتكز على أبعاد متباينة وتتجذر بيئياً أو أيدويولوجياً، ومنها تلك العروض الفنية الراقصة التي تحاكي يوميات البسطاء والحرف الشعبية التي يعملون بها، أو اهتماماتهم الدينية مثلما يتحول الرقص إلى وسيلة للتقرب ووسيلة للفناء في حضرة المحبوب.
الرقص.. تعبيرا عن البسطاء
يمكن أن نتوقف عند ثلاثة أشكال من الرقص قدمتها فرق معنية بالبسطاء والمهمشين، هي الرمزي، والأيدويولوجي، والبيئي (المعبّر عن العمل) ولا يمكن أن نرصد أيا من أشكال الرقص الأخرى الموجه للبسطاء والمهمشين خارج هذه الاتجاهات، باستثناء ما قد يبدو من رقص الصبية والفتيات في الاحتفالات والمناسبات الخاصة وتكون عبارة عن أشكال ارتجالية لا يعتد بها.
يلاحَظ أن الاتجاه الرمزي يكرّس لقيمة البطل الشعبي ويعبر عن التسامح والانتماء، وقد انتشرت في عالمنا العربي عديد من الفرق الشعبية التي تعمل على هذا الاتجاه، مثل رقصة التحطيب التي تعدّ أحد أشكال الفلكلور المصري، حيث نشأت في مصر الفرعونية وتطورت في الصعيد جنوب مصر، ثم انتقلت إلى كثير من الحضارات، مثل: الكيندو الياباني، والمبارزة القديمة في معظم الحضارات الغربية، التي تتشابه طقوسها وأخلاقياتها مع الجذور القديمة للتحطيب الفرعوني، وهي تعبير عن قيمة البطل الشعبي الذي يواجه التحدي ويحقق الانتصار للجماعة وليس لشخصه، وهي أيضا رياضة لها أخلاقياتها، إذ تعتمد على بث الروح القتالية بالهجوم والدفاع، وتدعو في الوقت نفسه إلى التسامح والإخاء، فضلًا عن أنها تضفي على المنتصر صفات الشهامة والمروءة. ويمكن استيعاب المعاني والقيم التي تحملها من خلال السير الشعبية وخاصة سيرة بني هلال، بما تحويه من مفاهيم الفروسية والبطولات الشعبية وارتباطها بالخير المطلق. ووفقًا للمراجع التاريخية، فقد ظهرت التحطيب في مصر كونها رياضة بالعصا يمارسها الشباب من جميع طبقات المجتمع، وبدلًا من العصي الخشبية كانوا يستخدمون لفافات البردي الكبيرة حتى لا يصاب المتبارين بالأذى، وكان اللاعب يستخدم لفافتين بدلًا من واحدة وتصاحبهما خلفية موسيقية مناسبة. وجاء تطور التحطيب باختزال اللفافتين إلى واحدة ثم تحويلها إلى عصا بتطور استخداماتها في مجال الدفاع عن النفس. وتشترك الثقافة البدوية مع الصعيدية فى تقديم شكل خاص للتحطيب حيث يمتطي رجلان الخيل ويرقصان على الطبل والمزمار ثم تبدأ المنافسة.
العرضة الخليجية وقِيَم الفروسية
في نفس الاتجاه الرمزي، ظهرت في منطقة الخليج العربي في فترة مبكرة رقصة “العرضة” أحد أنماط الرقص الشعبي البدوي، وتؤديه الكثير من الفرق طوال العام، لاسيما في المناسبات الاجتماعية والأعياد، وتحمل رقصة العرضة بعداً رمزياً ودلالياً للكثير من المعاني، مثل قيم الفروسية، والانتماء للوطن، والدفاع عن الأرض، وتتميز بالرقص بالسيف وارتداء الزي الخليجي. أما البعد الأيديولوجي فيتجلى في الرقص الذي تؤديه فرقة التنورة للفنون الشعبية في مصر، وفرقة المولوية التركية، وهما تبحثان عن أقصى درجات الصفاء والخفة الروحية، حيث يرسم الراقصون أو الدراويش أو أتباع المولوية أشكالاً لها دلالاتها التي تتماهي مع حالات الوجد، حيث يصبح الفضاء أكثر اتساعاً والأشياء أخف وزناً.
في رقص التنورة والمولوية نجد الراقص سابحًا في عالمه الخاص، وكأنه يمارس طقسا دينيًا، حيث يقوم بالدوران حول النفس طوال مدة العرض، يتصاعد إيقاع الموسيقى ويبدو وكأنه نسى الأرض وتعلق قلبه بالسماء.. هي حالة من الوجد الكامل. وللرقص المولوي طقوس خاصة، تبدأ عادة بالدوران حول النفس، ربما لساعات، يتصاعد إيقاع الموسيقى ويزيد دوران الراقصون حتى ليكاد الزي الذي يرتدونه يحملهم عن الأرض.. هي حالة من الوجد الكامل يتخلصون فيها من مادية الأرض ويتحدون جاذبيتها، قالت عنه المستشرقة الألمانية آن ماري شيمل في تقديمها لكتاب “الرومي ودراويش المولوية” لشمس فريدلاندر: “العشق يعني الذوبان في الذات، من أجل البعث في المعشوق، ويمكننا أن نفسر رقصة دراويش المولوية علي هذا النحو، أنهم يدورون حول مركز الشمس، شمس العشق الإلهي، إنهم يذوبون كالشمعة التي تنصهر بالنار حتى تضيء لآخر قطرة شمع”. وتعود رقصة المولوية إلى مؤسسها الشيخ جلال الدين الرومي الفارسي الأصل والمولد، هاجرت أسرته إلى مدينة قونية التركية هرباً من المغول، وتأثر بشيخه شمس الدين التبريزي، درس القانون لكنه أدرك أن دراسة القانون لن تأخذ بيديه إلى أعماق الفلسفة، وقد كان يرقص السيما وهو ينشد شعره، وعرفت الرقصة باسم المولوية نسبة إليه.
استلهام البيئة الشعبية
يرتكز البعد البيئي على استلهام الفنون والمهن كما عند فرقة رضا للفنون الشعبية، وقامت عروضها على محاكاة البيئة الاجتماعية متمثلة في الأعمال والحرف الشعبية، فقدمت أعمالاً عن البيئات الاجتماعية في الريف والسواحل والجنوب، وغيرها، برؤية مختلفة للرقص الشعبي، مستعينة بملابس معبرة عن البيئة الشعبية، فجاءت أعمالها من الواقع حيناً ومن استحضار التراث الشعبي لتلك البيئة حيناً آخر. وتجلت في العروض الفنية قدر الارتباط الحميم بروح المكان وعادات الناس وتقاليدهم المهنية، فظهرت إيماءات الصيادين بسواعدهم وأجسادهم وهم يرمون الشباك، وبدت حركات الفلاحين والبدو في بساطة وتلقائية. وتعدّ فرقة رضا أعرق فرق الرقص الشعبي في الوطن العربي، فقد استطاعت منذ تأسيسها في خمسينيات القرن الماضي أن تحدث نقلة نوعية في فن الرقص الشعبي، واستطاعت أن تغيّر من نظرة الجمهور إلى هذا الفن، إذ أنها انطلقت من البيئة الشعبية بكل فئاتها وبيئاتها إلى العالمية، فحققت ريادة غير مسبوقة، كما دخلت إلى عالم السينما الروائية من خلال ثلاثة أفلام لاقت نجاحاً كبيراً، قدمت فيها الدراما ممتزجة بالاستعراض واللوحات الفنية الراقصة.

مصدر الصورة: https://2u.pw/UUK7h

https://2u.pw/UUK7h

أدب الثاني والعشرين بعد المئة العدد الأخير ثقافة وفكر

عن الكاتب

طارق إبراهيم حسان