من كنوز مقبرة الكتب المنسية: رواية سجين السماء للمؤلِّف كارلوس زافون

كتب بواسطة سريعة سليم حديد

قد تتعدد أماكن السجون بشكل عام، فربما تكون في الأقبية المظلمة أو في غرف عادية أو في أماكن أكثر قسوة، ولكن أن تكون السماء مكاناً للسجن فهذا أشد غرابة وأوسع مكاناً وأجمل إطلالة!
“سجين السماء” عنوان لرواية قام بتأليفها الأديب “كارلوس زافون”
ــ كارلوس رويث زافون (1964 – 2020) روائي إسباني اشتهر بكتابته للسلسلة الروائية “مقبرة الكتب المنسية” التي تتألف من أربع روايات ترتبط معاً عبر الشخصيات والموضوعات المتعددة، إلا أن كل رواية منها مستقلة عن الأخرى ولها عالمها الخاص، وهي: رواية (ظل الريح) و(لعبة الملاك) و(سجين السماء) و(متاهة الأرواح).
وقد كتب بعض الروايات لليافعين منها: (أمير الضباب) و (قصر منتصف الليل).
ــ رواية “سجين السماء” تبدأ بلمحة موجزة جداً عن مقبرة الكتب المنسية، وهذه الرواية هي إحدى تلك الكتب الأربعة، وقد نبّه الكاتب إلى ضرورة قراءة السلسلة حتى يتمكن المتلقي من اكتشاف تلك المتاهة وحلِّ ألغازها. علماً أن كل رواية مستقلَّة عن الأخرى ومكتفية بذاتها.
ــ الرواية مقسَّمة إلى خمسة فصول معنونة، وكل فصل قد جُزِّئ إلى أقسام عدَّة مرقَّمة، وغالباً ما كان يوضع تاريخ للأحداث، وينتهي كل قسم بنهاية مشوِّقة، تشد المتلقي إلى الاهتمام والمتابعة.
ــ الفصل الأول: بعنوان “حكاية من أجواء عيد الميلاد” يبيِّن فيه الراوي “دانيال” حال مكتبة والده التي ساءت أحوالها كثيراً، وصارت شبه متوقفة عن بيع الكتب، وقد اقترب عيد الميلاد. وكان من المفاجأة أن يدخل المكتبة رجل فقير ويطلب شراء كتاب غالي الثمن، وهو بعنوان “الكونت دي منتكريستو” وكان قد دقق النظر كثيراً برفوف المكتبة المزخرفة الجميلة. فلما اشترى الكتاب كتب على الصفحة الأولى اسم المهدى له “قيرمين” الذي هو صديق دانيال ويعمل في المكتبة نفسها.
ــ يضع الكاتب “زافون” المتلقي في تفاصيل دقيقة وكأنه يعرض فلماً سينمائياً، وقد صوّر أشخاصه بطريقة وكأنها تتحرَّك أمام المتلقي تماماً، إضافة إلى تعدد الشخصيات بشكل كبير وتشابك الأحداث، ولكن ليس من الصعب تتبعها وخاصة أنها تحمل كمَّاً كبيراً من التشويق. فيتساءل سائل: مَنْ ذلك الرجل الأعرج المقطوع اليد وأصابع اليد الأخرى ذو الهيئة الفقيرة الذي أهدى “قرمين” الكتاب؟ ولماذا يعود خطيب “بيا” السابق ليلاحقها، وخاصة بعد أن ولدت طفلاً، وهي زوجة “دانيال” حالياً؟ ولماذا غيَّر “فرمين” اسمه، وقد أخذ اسم رجل ميِّت، وهو الآن بصدد الزواج، ولا يستطيع ذلك بسبب اختلاف اسمه؟ والعديد من الأسئلة التي تتوضَّح إجاباتها كلما تقدَّم المتلقي في القراءة.
ــ يعمد الكاتب إلى ذكر العديد من الأحياء والطرق وأسماء المطاعم، حتى تفاصيل المنازل، فيرسم بذلك خريطة مضيئة، يستطيع المتلقي السير بالاستعانة بها وملاحقة تحركات الشخصيات حيثما ذهبت.

ــ بالانتقال إلى الفصل الثاني الذي بعنوان “من عالم الأموات” يسترسل المؤلِّف في سرد الأحداث التي يبدأ تعقدها رويداً رويداً، بعدما يجلس “فيرمين” و”دانيال” في المطعم ليقصَّ “فيرمين” متذكِّراً ما حدث معه في السجن في قلعة “مونتويك”. فتفاجأ “دانيال” وهو راوي الأحداث بأن يتطرق مدير السجن “فايس” إليه، فقد توقَّع أنه ليس ابن والده “سيمبيري” بل هو ابن “مارتين” ذلك الكاتب السجين الذي أمعن “فرمين” في تعذيبه، واتهمه بحب “إيزبيلا” أم دانيال.
لقد أوكل “فايس” إلى “فيرمين” إقناع “مارتين” العنيد بتحرير الكتاب الذي كتبه “فايس” نفسه كي يصبح كاتباً مشهوراً. كذلك طلب منه أن يسترسل في الحديث مع صديقه “سالغادو” ليعرف منه أين وضع الأموال التي سرقها من منزل عائلة “بيلا خوانا” بائعة المجوهرات. كذلك أوكل إلى “فرمين” معرفة مكان مقبرة الكتب المنسية من خلال استدراج “مارتين” للاعتراف بذلك.
وكان مدير السجن أيضاً قد أمر طبيب السجين “سانا واخا” بمهمة الاعتناء بـ “مارتين” كي لا يموت من التعذيب، وعندها يكتشف القارئ سبب تسمية الرواية بـ “سجين السماء” نقتطف:
“مع مرور الوقت، بات الطبيب “سانا واخا” يكنًّ المودة لـ “مارتين”. وذات يوم قصَّ على “قرمين” حين كانا يتقاسمان إحدى السجائر، كل ما كان يعرفه عن حكاية ذلك الرجل الذي لقبه أحدهم ساخراً بتخاريفه وبوصفه غريب الأطوار المعتمد رسمياً في السجن، لقَّبه بـسجين السماء” ص 109
ــ لقد برع الكاتب في الاسترسال بذكر طريقة هرب “فرمين” من السجن، وفق خطة مقتبسة من كتاب “المونت دي مونتكريستو” الخطة التي شجَّعه عليها “مارتين” ذلك الكاتب الذي حاول مدير السجن استغلال مواهبه الإبداعية لتحرير ما يكتبه، وقد دفع “مارتين” ثمن رفضه لهذا الأمر كثيراً.
ــ هرب “فرمين” من السجن بعد أن وضع المخدِّر على قطعة قماش وضغطها على أنف “سالغادو” كي يبدو ميتاً، فجاء الحارس بصرة لوضعه فيها، فاستغل “فرمين” هروب الحارس من رائحة الصرة، فدخل هو فيها بشكل محكم، وبعدها حمله الحرس إلى المقبرة الجماعية، حيث لاقى الأمرين في سحله ونقله في سيارة خاص، ومن ثم قُذف في الوادي وأهيل عليه غبار الكلس.
ــ بالانتقال إلى الفصل الثالث الذي بعنوان “ولادة جديدة” نجد أن جسم “فرمين” قد بدأ يستعيد حيويته، بعدما نُقل إلى أحد الأكواخ، وتم علاجه من قبل النسوة العجائز. وراح يتنقَّل بشكل خفي بين الشوارع، ومن بين الذين التقى بهم الأب “باليرا” الذي أحسن معاملة “فرمين” بالإضافة إلى الفتاة “روسيتو” ولكن لقاءه المميَّز كان بالمحامي “بريانس” محامي “مارتين” صديقه في السجن، وقد أعطاه عنوانه “أرماندو” الشخص الذي اهتم به أثناء مرضه.
ــ طغت على الرواية الأجواء الرومانسية على الرغم من خوضها الكثير من المواقف المؤلمة، وخاصة أثناء رحلة هرب “فرمين” من السجن، فقد صوَّر الكاتب تلك المعاناة بطريقة رشيقة جذَّابة، تجعل المتلقي يتابع القراءة بحماس زائد، كما تدفعه إلى توقعات عديدة لم يحسمها سوى تلك المفاجأة الأخيرة غير المتوقعة، وهي أن يهيل من نقل “فرمين” إلى المقبرة غبار الكلس عليه.
ــ لقد جعل المؤلِّف “فرمين” المتحدِّث عبر الذكريات مع “دانيال” ولولا هذا الأسلوب لكان احتمال توقع موته من قبل المتلقي أكثر حدوثاً، فذلك السحل والقذف في السيارة ومن ثم إنزاله منها وسحله على الأرض المليء بالصخور والحفر والمياه الآسنة، ومن ثم قذفه في الهاوية بين الجثث المتعفنة والرعب الذي أصابه وإهالة الكلس عليه، كل هذا كفيل بتوقع موته لا محالة.
ــ أتقن المؤلِّف دمج المتلقي في خضمِّ الأحداث، فجعله يلهث ويشعر بالخوف، وينفعل، ويصاب بالدوار نتيجة القسوة التي تعرَّضت لها الشخصيات، وخاصة في السجن، وفي حادثة هروب “فرمين” وفي خروج “دانيال” خلف خطيب زوجته السابق.
ــ “تموت “إيزبيلا” والقاتل هو “فايس” مدير السجن. من هنا تبدأ مرحلة التفكير في الانتقام من قبل “دانيال” الذي ساوره الشك في أنه ليس ابن “سيمبري” بل هو ابن “مارتين”.
ـ غالباً ما كان المؤلِّف يبدأ أجزاء الرواية بشيء من الرومانسية أو ينهي بعضها بالرومانسية أيضاً، على الرغم من قسوة المشاهد وفظاعتها لتكون بمثابة التهيئة النفسية للشخصيات.
ــ كان العنصر اللافت في الأحداث امتلاك بعض الشخصيات روح الدعابة على الرغم من قسوة المشاهد التي تمر فيها، هذا ما أضفى جوا من المرح، وبدد شيئاً من توتر المتلقي أثناء مروره في مواقع مؤلمة.
ــ استطاع المؤلِّف أن يسرد نهاية “سالغادو” بطريقة تفصيلية شبه غامضة في كيفية الوصول إلى خزانة المجوهرات، وموته عندما رأى الحقيبة فارغة، علماً أنه استطاع الحصول على المفتاح من “فرمين” ولكن السؤال الذي يطرح نفسه: كيف استطاع “فرمين” الاحتفاظ بالمفتاح أثناء هربه من السجن، وقد سرقه من جدار زنزانة “سالغادو” وخاصة أنه كان شبه ميت أثناء عثور الناس عليه، وقد بدلوا له ثيابه، وظل في شبه غيبوبة لمدة طويلة؟! هذا السؤال لا وجود للإجابة عليه في الرواية.
ـ يحاول المؤلِّف الإمساك بكل خيوط الرواية بمهارة، فلا يترك خيطاً إلا ويحكم نسجه في ثوب الرواية، وذلك في التنقل برشاقة بين أعوام الأحداث.
ــ في الفصل الرابع الذي بعنوان “الشك” يعود المؤلِّف لإثارة شك “دانيال” في زوجته “بيا” فليهث المتلقي خلفه حتى يصل الفندق الذي نزل فيه “كاسكوس” خطيب زوجته السابق، فيتفاجأ بأن من كتب الرسالة لزوجته هو “فايس” مدير السجن. هذا المدير الذي أراد “دانيال” الانتقام لأمه منه. فقد أدرك أن زوجته بريئة، ولا داعي لشكوكه.
ــ فصل “اسم البطل” هذا الفصل الذي احتوى خاتمة الرواية بالوصول إلى مكان “مقبرة الكتب المنسية” هذا المكان الذي وجد فيه “دانيال” و”فرمين” كتاب “مارتين” الذي كتبه في السجن وأوصله إلى حارس مقبرة الكتب المنسية حارسها “بيو”.
ــ لقد أحكم المؤلِّف عوامل ربط خيوط الدهشة في موقف “دانيال” وهو يقرأ رسالة مارتين المذيلة باسم “دانيال”، فيكتشف أن “مارتين” ترك له كتابه الذي بعنوان “لعبة الملاك” ليكون دليله على كل تساؤلاته. وفي نهاية الفصل يختم المؤلِّف بعرس “فرمين” الذي حصل أخيراً على اسمه بشكل قانوني.
ــ الرواية بشكل عام، تعتبر مسرحاً لأحداث غريبة ومتشابكة حيث تمتد خيوطها السحرية إلى باقي الكتب المنسية مسجلة بذلك عقدة لا سبيل لفكِّها إلا بالمطالعة الدقيقة الوافية تاركة بذلك متعة كبيرة في نفس المتلقي.
الرواية “سجين السماء”.
عدد الصفحات: 359
الكاتب: كارلوس زافون.
المترجم: معاوية عبد الحميد.
دار النشر: الجمل. بيروت ــ بغداد 2019

أدب الثاني والعشرين بعد المئة العدد الأخير ثقافة وفكر

عن الكاتب

سريعة سليم حديد