“حَظر تجوُّل”.. إشكالية المسْكوت عنه في المجتمع

يعدّ فيلم “حظر تجول” أحد أبرز أفلام السينما المصرية في الآونة الأخيرة وأكثرها قيمة، نظرًا لجرأته في الطرح واقتحامه لأحد التابوهات التي يصبح الاقتراب منها محفوفًا بالمخاطر، وبالتالي يستحق الإشادة والاحتفاء، إذ يتناول واحدة من أهم القضايا الاجتماعية حساسية وهي قضية التحرش الجنسي. لاسيما أن الأفلام التي ناقشت هذه المشكلة قليلة جدًا على الرغم من انتشار هذه الآفة في أغلب المجتمعات، ما يجعلها قضية كبرى وتحدٍ جديد يواجه الإنسانية ويحثّ على ضرورة اعتناء الفنون، والبحث العلمي في حقول علم النفس، والتربية، وعلم الاجتماع، وغيرها. من أجل إيجاد مخرج لهذه الإشكالية التي تواجه استقرار المجتمعات.
هناك قلة نادرة من الأفلام تناولت ذلك عبر ثيمات مختلفة وعلاقات متباينة مثل بعض العلاقات العاطفية غير السويّة، والتحرش، والاغتصاب، والاعتداء وقد تنتهي هذه العلاقات بالخطف والاغتصاب ثم القتل. وعبّر مخرجون ومؤلفون سينمائيون عن ذلك في بعض الأفلام مثل “أسرار البنات” (2001) من إخراج مجدي أحمد علي، و”الرغبة” (2002) من إخراج علي بدرخان، و”هي فوضى” (2007) من إخراج يوسف شاهين وخالد يوسف، و”واحد – صفر” (2009) من إخراج كاملة أبو ذكري، و”678″ (2010) من إخراج محمد دياب، و”حلاوة روح” (2014) من إخراج سامح عبد العزيز، وعلى الرغم من هذا الاهتمام المحدود؛ لم تتطرق السينما المصرية لمشكلة التحرش بالأطفال إلا نادرًا، ويحضرني على سبيل المثال فيلم “وش سجون” (2014) من إخراج عبد العزيز حشاد، حيث يتم إعدام شاب (أحمد عزمي) بسبب اغتصابه طفلة وقيامه بقتلها وهو في حالة من اللاوعي.
على الرغم من وجود حوادث مماثلة في الواقع بسبب سيطرة المواد المخدرة على المتحرشين واستفحال ذلك في بعض البيئات الاجتماعية، إلا أن السينما ما زالت تنظر للأمر بكثير من الاستحياء، ولا تولي اهتماما يتناسب وحجم المشكلة وتفشيها، حتى أصبح الأمر في دائرة المسكوت عنه نظرًا للحساسية الاجتماعية التي تحيط به.
وفيلم “حظر تجول” (2020) من تأليف وإخراج أمير رمسيس، يتناول مسألة الاعتداء الجنسي لأب على ابنته، وهي القضية التي لم تتطرق لها السينما من قبل، حتى أن بعض المخرجين اعتبرها أداة أو طريقة جيدة للعبة التشويق “suspense” في الكتابة الدرامية نظرًا لاستحالة حدوثها في الواقع، فكان تحرش الأب بابنته بمثابة صدمة درامية يكتشف المشاهد لاحقًا أن الرجل ليس أبًا وأنه مجرد زوج للأم وإنسان منفلت ومريض نفسي، وأن الابنة ليست من صلبه. أما فيلم “حظر تجول” الذي عرض لأول مرة في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في آخر دوراته (2020) فيتناول علاقة أم بابنتها، بعد خروجها من السجن بسبب قيامها بقتل زوجها إثر تعديه على الابنة جنسيًا.
يتسبب غياب الأم لفترة طويلة في فتور العلاقة بينهما، خاصة أن مشاعر الابنة قد نضبت تجاه أمها، بسبب حرمانها من حنانها طيلة عمرها، فقد تربت منذ مرحلة الطفولة والصبا وحتى الزواج في بيت الأقارب، فضلًا عن فقدان أبيها، ولذلك لا تطيقها ولا تتحمل وجودها معها في مكان واحد ولو لليلة واحدة.
التحرش.. وتوظيف المشهد
تنطلق الأحداث من همّ أساسي ومشكلة اجتماعية مُلحّة، هي الاعتداء الجنسي على الأطفال كظاهرة غريبة على المجتمع العربي، ناتجة عن أمراض نفسية واجتماعية وانتشار المواد المخدرة، سادت في الآونة الأخيرة ضمن مظاهر التحرش التي تفشت في كثير من المجتمعات وأضحت إشكالية تهدد أمن واستقرار المجتمع. وقد عبّر الفيلم بدرجة كبيرة من الوعي عن مثل هذه الحوادث، ولم يبين المخرج ذلك بشكل مباشر، بل عمل على تقديم مشهد مبهم من خلال ذاكرة البطلة/ الأم، مُبَرَرًا باستدعاء الصورة من سنين بعيدة وعلى طريقة الاسترجاع “الفلاش باك”. وارتكز الفيلم طوال مدته الزمنية وفي أغلب مشاهده على طرح أفق العلاقة بين الأم والابنة، بينما جاء مشهد التحرش عابرًا، لكنه أدي المعنى والغرض المطلوب منه فحسب، وربما تعامل المخرج في ذلك على طريقة السينما النظيفة أو سينما الأسرة وسينما العائلة وما إلى ذلك.
يعود الفيلم إلى ليلة من ليالي خريف 2013، حيث لم تنتهِ بعد توابع أحداث يناير 2011 ، والدولة تفرض حظر التجول على المواطنين. تخرج فاتن (إلهام شاهين) من السجن بعد قضاء عقوبة مدتها 20 عامًا، بسبب قتل زوجها، تضطرها ظروف الحظر المفروض إلى قضاء الليلة عند ابنتها ليلى (أمينة خليل) على أن تغادر في الصباح إلى بلدتها في إحدى المحافظات البعيدة نسبيًا عن القاهرة. لا تعرف الابنة سبب إقدام الأم على هذه الجريمة الشنعاء، فقد ظل الأمر سرًا لم يفش به أحد رغم مرور السنين، وبالتالي تتزاحم في رأسها الأسئلة والاتهامات حول فاتن فتلاحقها بحثا عن أجوبة، لكن بلا فائدة، فالأم تصر على إخفاء الحقيقة حرصًا على سلامة ابنتها النفسية وحفاظًا على ذكرى الأب. تسعى الأم إلى التقرب من الابنة باستمرار، لكن موقف ليلى الحاد كان يزعجها ويعود بها إلى نقطة الصفر، فلا تستطيع ليلى تقبّل وجود أمها التي حرمتها عن عمد حنان الوالدين بعد أن قتلت الأب وقضت حياتها بالسجن، بينما أصبحت زوجة لطبيب ناجح وأمًا لطفلة، لذلك جاءت الليلة صعبة لكليهما في تقبل كل منهما للآخر، خاصة ليلى التي لا تطيق وجودها في البيت، بينما تحاول الأم التقرب باستمرار وإزاحة جبال الجليد الموجودة بينهما، لكن المواقف الإنسانية تقرّب بينهما ولو بشكل محدود.
تطورات الحدث الدرامي
يأتي التطور الدرامي في التقارب بينهما عميقا ومبررا، فقد استطاع الفيلم أن يوجد مبررات درامية مقبولة لدى ليلى لتقبل أمها ولو بتحفظ للتأكيد على محدودية العلاقة، فالأحداث التي مرت بهما في هذه الليلة كفيلة بذلك، فقد مرضت ابنة ليلى وأصرت فاتن على تحمل المسؤولية والذهاب بهما إلى المستشفى رغم حظر التجول المفروض، كما أن ليلى التي تغار على زوجها من ممرضة حسناء بالمستشفى، استطاعت أمها أن تنهي الأمر بتهديد مغلف بروح إنسانية خفيفة الظل، لتحافظ بذلك على استقرار أسرة ليلى. وقد شعرت ليلى بوجود سند لها حينما واجهت فاتن مجموعة الشباب البلطجية الذين يتناولون موادًا مخدرة ويزعجون السكان بأصواتهم فوق السطح.
لذلك فإن تطور الشخصيات ارتبط بتطور الحدث الدرامي والوصول إلى ذروة الحبكة من خلال التقارب التدريجي بين الشخصيتين، حيث عرج المخرج على بعض المواقف الإنسانية التي تعرضت لها ليلى وابنتها، ليكون ذلك مبررا لفاتن للوقوف بجانبهما. فقد سارت الأحداث من البداية على أساس أن الأم تسعى للتقرب، بينما تبتعد ليلى باستمرار، وفي النهاية تندهش فاتن بأن بعض الجيران وزوج ليلى يعلمون سر ارتكاب الجريمة لكنها لم تبح به لأحد.
استطاع المخرج أن يرسم بذكاء ملامح شخصية فاتن لكي يتعاطف معها المشاهد وتكون مقنعة من ناحية الأمومة والإنسانية والرومانسية، فتقاطعت مع مأساتها سواء في علاقتها المأزومة بابنتها، أو في جريمة قتلها لزوجها، قصص أخرى مثل حبها القديم لجارها يحيى (الفنان الفلسطيني كامل الباشا) الذي يقيم في البناية نفسها، أو في علاقتها الحنونة بليلى رغم ما تلقاه منها من معاملة جافة، أو في علاقتها الطيبة بالجيران…، وغيرها. فقد قامت الخطوط الدرامية للفيلم على التأكيد على إنسانية فاتن، وذلك لتعظيم السبب الذي دفعها للقتل.
أثر البُعد الرومانسي على الأحداث
أما الحالة الرومانسية التي وظفها المخرج بين فاتن ويحيى فقد أضفت مناخًا من البهجة على أجواء الفيلم وأضافت عمقا آخر للأحداث، لاسيما أن هذه الثنائية استطاعت أن تنشئ خيطًا دراميًا وحالة من الرومانسية، فـ “يحيى” لا يكف عن سماع أغاني عبد الحليم حافظ العاطفية، وهو شخصية محبة للحياة لكنه عاجز عن الحركة بسبب ساقه، لم يزر فاتن في السجن أحد غيره، وهو أحد القليلين الذين يعرفون سر جريمتها، وما زال يحبها رغم تغيّر الزمن وفوات الأوان، حتى في موته كان رومانسيًا في مشهد من أجمل مشاهد الفيلم، فقد كان المذياع يبث أغنية “أهواك” لحليم وهو يجلس إلى الطاولة وقد فارق الحياة، بينما فاتن تصغي إلى صوت حليم قرب الباب وتتردد في طرقه وتفضّل الرحيل بهدوء، وكأن كلمات حليم رسالة من يحيى إليها. هذه العلاقة الرومانسية البريئة خففت من العالم الكابوسي لفكرة الفيلم وكذلك علاقة ليلى بزوجها (أحمد مجدي) أيضا ساهمت في التخفيف من فجاجة الجريمة وحالة الاعتداء الجنسي على طفلة. وقدّم الفنان الشاب محمود الليثي دورا كوميديًا مميزا لشخصية الشاب العاطل سائق التوك توك الذي يتعاطى المخدرات ويقضي أوقات حظر التجول فوق سطح البناية يغني ويتعاطى المخدرات ويزعج السكان بصحبة أصدقاء يشبهونه، وقد أضفى الليثي بأدائه جوًا من الكوميديا والضحك.
تناغم التصوير مع الموسيقى
هناك تناغم واضح بين عناصر العمل، لاسيما بين التصوير المشهدي، ولغة الموسيقى المعبرة عن الأحداث، والديكور الذي عبر عن الوسط الطبقي لأسرة فاتن أو ليلى من جهة، واختلاف المرحلة الزمنية من جهة أخرى. فجاءت الموسيقى التصويرية لمؤلف الموسيقى وعازف البيانو تامر كروان منسابة ورومانسية أحيانا وبها حذر وتوجس في أحيان أخرى، فقد استطاع كروان أن تكون موسيقاه معبرة عن أجواء الفيلم فتوزعت بوعي تبعا لروح المشهد، واستطاعت كاميرا مدير التصوير عمر أبو دومة أن تكون معبرة في نقل الكادر والحركة مع الشخصيات، وتجلت في رؤيته التصويرية عديد من الكادرات والتكوينات المختلفة التي تعبر عن موقع الشخصيات من الأحداث وسياقها الدرامي، كما عبر الديكور عن وعي حقيقي باختلاف الزمن حيث أن بيت فاتن كان مؤثثا قبل أن تدخل السجن، أي قبل 20 عامًا، وبالتالي فلابد أن الأثاث سيكون مرتبطا بمرحلة زمنية مختلفة نسبيًا. ولذلك نلاحظ اختلاف المطبخ والغرف والصالة وما بالشقة من أثاث وديكور مع المرحلة الآنية للأحداث. وذكر أمير رمسيس مخرج الفيلم انه كانت هناك حالة تقدير للفيلم من قِبل الجمهور لأنه لم يخدش الحياء، ولم يتم تصوير مشهد التحرش الجسدي بطفلة حرصًا على السلامة النفسية للممثلة. وأشار إلى أن المروجين لفكرة السينما النظيفة لم يهاجموا فيلمه، وأوضح أنه لا يصنع فيلما جيدا لأنه لا يحتوي مشاهدا خادشة، لأنها كانت ضرورة أخلاقية نظرا لسن الممثلة الصغير. وقد حصد فيلم “حظر تجول” عديدا من الجوائز، منها جائزة أحسن ممثلة لإلهام شاهين من مهرجان القاهرة السينمائي الدولي في دورته الـ 42 عام 2020، وجائزة الجمهور من مهرجان مالمو للسينما العربية وقيمتها 25 ألف كرون سويدي، كما حاز –مؤخرا – أربع جوائز من مهرجان المركز المصري الكاثوليكي للسينما في دورته الـ 69 التي عقدت في يونيو الجاري2021 ، وهي أفضل فيلم، وأفضل مخرج، وأفضل ممثلة (إلهام شاهين)، وجائزة الإبداع الفني للفنان الفلسطيني كامل الباشا. كما عرض الفيلم في كثير من المهرجانات الدولية حول العالم.

الثاني والعشرين بعد المئة العدد الأخير سينما وأفلام

عن الكاتب

طارق إبراهيم حسان