حتى نربّت بأيدينا على الطفل الذي كناه

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

قراءة مجموعة الرفّة الفاتنة للنجم 

للشاعر عبدالله البلوشي

الصادر عن دار نثر للنشر ٢٠٢١م

“لكننا نبدأ عادة بالبداية أي الخروج بكل ما نملكه من الصدق نحو الفريسة التي ستقودنا إلى قلب المعنى لأن المعنى دائمًا هناك يدخّن صابرًا في نهاية القصيدة منتظرًا وصولك وهو يبتسم باحتقار”

سركون بولص 

إذا كنت نائمًا في مركب نوح

في البداية:

في البداية نبدأ بعتبة العنوان: الرفة الفاتنة للنجم، تعدنا كلمة الفاتنة بجمالية فتنة شعرية، فهل يصدق الوعد؟ 

مجموعة الرفّة تتشكل من سبع قصائد طويلة، أولها ينكت الجذر الناطق للشمس الذي تبدأ هكذا:

هناك قريبًا من البحر/ أرخيت أذرعي/ أتعلمُ أيها الطائر المتعثّر/ كم أنك أنت تشبهني. ص٧

البحر والذراع والطائر، يدعونا النص للتحليق معه من البداية؛ تغمر نظرة الشاعر كل ما يراه بمياه شعرية، يؤكد لنا النص هنا الشبه بين الشاعر والطير، لكن أي طير؟ الطير الذي يتعثر بداية تعلمه الطيران، والنص يدعونا نحن كذلك لنتبع هذا الطير. فلنتبع الطير..

من الصفحات الأولى، في البداية، تظهر الروح على سطح النص:

روحي العطشى في تجددها المهول. ص٨

ونرى كذلك هناك الطفل الرضيع وقبضته على النص:

الطفل تحت السدرة بقبضته التي هي ترقوته الظافرة كالسهم يناغي الكون. ص٨

لا ذكر في النص للثغة الرضع، لكن الصورة حاضرة، رضيع يناغي الكون، كأن لثغة الأطفال مناغاة للكون، هذه صورة بديعة، قبض صادق، يزرع فينا الشوق لنلاقي كل هذه الثيمات والصور، ونتبع النص الذي يقتادنا جميعًا بقوة التذكر الشعرية الى منطقة تسقط عادة من ذاكرتنا، طفولة المهد، وهنا في مثال هذا الطفل الرضيع الذي هو الشاعر نفسه وهو يستعيد نفسه عبر النص الشعري من بئر الطفولة.

لنتفقد الطفل، دمية هذا الطفل دمية شعرية، مختلفة عن دمى وألعاب الطفولة:

وشاح السماء دميته الأثيرة. ص١٠

ضباب الأبدية:

نصادف الأم، لأول مرة على خشبة هذا النص، أم الطفل والشاعر، وفي أول ظهور لا يستعيد النص ذكرى الأم من مناخات الطفل، بل من مناخات الشاعر الآن، تأكيدًا لقوة الجرح، مثلما سنراه لاحقًا في نص غواية الهضبة:

أمي تلك الدمعة التي سبقتني إلى الله. ص١١

نجد كذلك جزءًا من الأم، ذراع الأم، في صورة شعرية أخرى ونحن بالحقيقة نمضي خلف الصور الشعرية، وبذراع الأم نلتفت إلى أن واجبنا ليس الالتفات للأم ككل وحسب، بل تعلم التثمين الحقيقي لكل جزء، لكل طرف من أطراف الأمومة:

راقص يتدلى من على غصن شجرة منثنٍ كذراع أمي. ص١٧

يقتادنا النص في رحلتنا التي تتبع ذلك الطفل، في تعرفه على الوجود داخله وخارجه، نجده يرى دمعة الشمس الخجلى، التي تذكرنا بدمعة الأم التي سبقت الى الله:

الشمس الكلمة الساحرة والدمعة الخجلى. ص١١

كما نجد هذا المشهد الفريد العائد للطفولة:

كانوا يحيونني كما الطفل في مدرج براءته الكاملة

لكنها الأبدية

كانت تنضح قبالتي كثيفة كضباب لا يناظره في الرقة شيء/ وكان يطوقني كالنصر المؤزر حتى حدود خاصرتي. ص١٤

تتجلى الأبدية في هذا النص بصورة ضباب كثيف رقيق يطوق الطفل حتى خاصرته، هذه هي الأبدية التي قصدها سمير الحاج شاهين في كتابه لحظة الأبدية، والتي يكتب عنها وعن اكتشاف الجمال:

“متى نكتشف الجمال؟ عندما نتحرر من الزمان ونعيش في الأبدية. أي عندما ننظر الى الكون لا بعين جسدنا بل بعين روحنا. الأدب اذن هو الحياة الحقيقية الأصيلة، بما أنه خادم الروح التي هي وحدها وجود وكل ما عداها عدم.”

ص٦٠، لحظة الأبدية، المؤسسة العربية، عمّان ١٩٨٠.

نلاقي الروح ثانية في النص، ونتذكر الروح العطشى التي رأيناها بداية المجموعة، ولكننا نرى الروح هنا مجردّة حتى من ردائها، نجدها حين يظهر الشاعر بنفسه مجددًا على ربى النص ص١٦ مصرّحًا بسعادته:

سعيد أنني على هذه الأرض.. لا بجسد هش بل بروحي المجنحة عاليًا فوق هذه الربى.

هكذا بنفس هذه الروح يدرك الشاعر سعادته، التي يصرح بها النص، هو الذي ولد من هذه الأجنحة الروحية، في هذهالسعادة، حين تصل الروح للارتواء، نشهد نحن لحظة خاصة هي لحظة القصيدة، ونحن مدعوون الآن لاتباع الأجنحة فيهذه اللحظة الخاطفة، سعيدٌ هو من يقبض لحظة من الأبدية، موجة سرعان ما تتبدد من الوجود الشعري.

في هذه اللحظة السعيدة يعلن النص عن حلم الشاعر: 

لم أكن أحلم بغير قلب متسع تخفق مواقده بمحاذاة قلبي الصغير. ص١٧

وهنا يعود الشاعر لعطش الروح ويجعله علامة: 

يا لعطش هذه الروح.. ص١٨

ونراه يتذلل لروح عظيمة: 

إنني أتذلل إليك أيها الوله العظيم.. الموت المائل.. أتضرع أيتها الشجرة.. أيها الكون..

روح غامضة عظيمة، سدرة هائلة، شجرة، ثيمات وصور نتعرف فيها روح الحياة مرئيًا من جهة الموت، الموت المائل، يتذللالشاعر، لكن لأي شيء يتذلل وما الذي يريده؟

إنه يبغي شيئًا واحدًا فحسب: 

فلتدم هذه اللمسة الخالدة محنتي للأبد. ص١٨

لحظة انعتاق ثمينة، اللمسة الخالدة لحظة الأبدية، إنها الظل الذي يشتهيه الشاعر، بل النور، هناك حيث لمس الشاعرالسعادة وصرح بها، وكتبها.

فلنتوقف أكثر عند هذا الموت المائل، لأن النص يريد أن يفصح لنا عن قصيدة الشاعر كذلك، القصيدة المضمرة، أم القصائد،ونتذكر تأكيده من قبل في الصفحة ١٤ يؤكد:

أريد أن أتحدث عن موتي الناقص لا غير.

هل نعرف نحن هذا الموت الناقص؟ هذا الموت الذي لم يكتمل؟ قد نقول إن هذا الموت ليس الا الحياة نفسها، هذا الموتالناقص سنجده يكتمل في خضم نصٍ تالٍ هو نص طفل الداخل. لأن هذه اللمعة الشهابية لهذا النص قد ابتعدت الآن فيالفضاء عن مدى ادراكنا البصري.

هضبة الأم:

بعد النص السابق نجد نص غواية الهضبة، وهو نص مركزي، مؤلم، عن تجربة الفقد الجارحة، لكنه أيضًا عن الصمود فيوجه الفقد، عن هذه التجربة الإنسانية الجذرية، أن ينجبنا من سنفقده ونصمد، هكذا نرى هضبة عزيزة على قلب الشاعر:

يا للمسة تلك اليد التي حطت على صلبي/ لحظة انحنيت منكسرًا عند اقدام أمي.. ٢٣

إنني أستعيد خبرًا، سمعته من صديق مشترك هو الروائي والكاتب سعيد الهاشمي، ووجدت الخبر شائعًا بين الناس فيقريّات عن الشاعر، فيبدو لي الخبر بحذافيره هنا، في المقبرة زائر أسبوعي، لا يوقفه حر ولا برد، يقضي سحابة يومه لائذًابالقبر، لا تطرده سياط الشمس ولا الومد، روح الأم هذا الوفاء، ليتني انا كذلك، لو أن هذا الوفاء يمكن تقاسمه، لكن للنصعدوى، والنص يشرح لنا الصمود كذلك أمام هذا الفقد الفادح، يبسط لنا التشافي فنصغي لصوت الشاعر النصي يقول:

لقد تعلمت الصمود من الأرض/ من الهامة الرائعة للشجرة.. 

ويعدد الأشياء التي تعلم الصمود منها، من الارتواء الزاهد، ومن محاقات الشمس، الدمعة الخجلى، خيوط المياه، من الثمرة،من استدارة القمر، بل ويغني ذلك الصمود:

يا لصمودي الذي ارتشفته كما الموت ٢٥

ويخاطب أمه من وراء الغيب بصوت الابن المفتخر أمام والدته لأنه حقق لها ما يظنها تريده: 

انظري كيف أن دمعتي باتت تدور في مظانها ولا تسقط. ٢٥

يتذكر الشاعر وفي تذكره نكتشف كنه الهضبة: لكم تقاطرت دمعتي على هذه الأرض

ويطلب عون الليل: لتعينني أيها الليل على محنتي/ حين يعلن القمر عن فض حجابه الناعس في الغرب/ ويدفع بي للحبونحو المضجع الوادع هناك.. / انه الواجب.. / المواساة الرائعة للحزن الطليق. ٢٧

بهذا الفقد يسمح الشاعر بالموت يوافق أن يستسلم لموته القادم، هكذا يتفق الشاعر مع الموت ويجدان منطقة مشتركة بعد أنكانا ضدين كما سنرى فيما بعد. يقول النص: 

فلتنفذ هذه الروح إذن.. / ميسّرة كما القبّرة للأعلى/ لتعبر مثلما الظلال في رتابة زوالها/ تلك المهمة العاتية في اجتيازهاالرخو-/ نحو كنف حوصلة طائر يهذي/ أو في تلك اللمعة الغامضة مثلما كنت أبصرها من على سطح الأرض المباركة/ كخيطهلاميٍ واهٍ متقطرًا من نجمة كانت تعلق هناك/ في الأعلى/ وهي تتكتم على دموعها بحرص بالغ. ص٢٧

أدب العدد الأخير العدد الثالث والعشرين بعد المئة

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد