علاج

كتب بواسطة سماح ممدوح حسن

تأليف:ليديا دايفس

ترجمة: سماح ممدوح حسن

 أنتقلتُ إلى المدينة قبل عيد الميلاد، كنت وحيدة، والوحدة كانت أمراً جديدًا عليّ تماما. أين ذهب زوجي؟ كان يعيش فى غرفة صغيرة عبر النهر، في حي المستودعات.

انتقلت من الريف إلى هنا، حيث البشر الشاحبين البطيئين ينظرون إليّ على أني غريبة، وحيث لا محاولات كثيرة للتحدث فيما بيننا.

بعد عيد الميلاد، غطت الثلوج الطرقات. ثم ذاب الثلج، ورغم ذوبانه وجدت صعوبة في المشي فوقه، وبعد عدة أيام أصبح المشي فوقه أسهل. انتقل زوجي إلى حيّنا، حتى يتسنى له رؤية ابننا أكثر.

 هنا في المدينة، ولوقت طويل، لم يكن لدي أي أصدقاء. في البداية، كنت أبقى في البيت جالسة على كرسي ألتقط الشعر وأنفض الغبار عن ملابسي، وأظل أقف وأتمدد ثم أجلس مرة أخرى. أقضي الصباح في شرب القهوة والتدخين، وفي المساء أشرب الشاي وأدخن، وأسير إلى النافذة وأرجع، أدخل إلى غرفة وأخرج منها إلى أخرى. 

أحيانا، وللحظة، أفكر أنني قادرة على فعل شيء ما. وتمر هذه اللحظة وأنا أريد أن أتحرك لكني لا أستطيع. عندما كنت في الريف، في يوم ما، عجزت عن التحرك. وحينها، في البداية، كنت أجبر نفسي وأجرها للتحرك فقط في جنبات البيت، وبعدها تحركت من الشرفة إلى ساحة البيت الأمامية، ومنه إلى الجراج، حيث، وأخيرا نشط عقلي ودار مثل ذبابة. وهناك وقفت فوق بقعة زيت، قدمت لنفسي سببا لمغادرة الجراج، لكن السبب لم يكن كافيا.

 حل الليل، هدأت الطيور، توقفت السيارات عن المرور، وانسحب كل شيء إلى قلب الظلام، وحينها تحركت. 

كل ما أستطيع استدعاءه من ذاك اليوم، هو قراري بعدم أخبار بعض الأشخاص عما حدث معي. بالتأكيد أخبرت شخصا واحد، لكنه لم يكن مهتما. هو لم يكن مهتما بأي شيء يخصني عموما وبمشكلاتي خصوصا. 

 في المدينة، ظننت أن بإمكاني العودة إلى القراءة مرة اخرى. كنت قد سئمت من إحراج نفسي وإرباكها. وحينها، عندما بدأت في العودة للقراءة، لم تكن القراءة فى كتاب واحد، بل عدة كتب فى الوقت نفسه، حياة موزارت، دراسة عن تغيرات البحار، وكتب أخرى لا استطيع تذكرها الان.

 كان زوجي يشجعنى على مثل هذه النشاطات، كان يجلس ويتحدث إليّ، يتنهد في وجهي حتى أتعب، أردت أن أخفي عنه مدى صعوبة حياتي. 

ولأني لا أنسى ما قرأت سريعا، ظننت أن عقلي أصبح أكثر قوة، بدأت بتدوين الحقائق التى صعقتني، على أنها حقائق لا يجب علي نسيانها. استمريت في القراءة طوال ستة أسابيع وبعدها توقفت.

في منتصف الصيف، فقدت شجاعتي مرة أخرى، وبدأت في زيارة طبيب، وفورا، شعرت أني لم أكن سعيدة مع هذا الطبيب، وقررت البحث عن طبيب آخر، بل طبيبة سيدة. وفكرت أني لن أكمل مع الطبيب الأول.

مكتب الطبيبة في شارع باهظ، بالقرب من حديقة”جريمارسي بارك”. قرعت جرس الباب، وتفاجأة بأن الباب كان مفتوحا، ليست الطبيبة من فتحته لكنه رجلا يرتدي رابطة عنق. غضب الرجل للغاية لأني قرعت جرس الباب.

خرجت الطبيبة من مكتبها وكلا الطبيبان بدءا يتجادلان، كان الرجل غاضبا لآن مرضى الطبيبة دائما يقرعون جرس الباب. وقفت هناك بينهم، وبعد إنهاء تلك الزيارة لم أعد مرة أخرى.

لأسابيع لم أخبر طبيبي إني أحاول تغيره بآخر، فكرت بأن هذا سيجرح مشاعره. لكني كنت مخطئة، ففي تلك الأيام أزعجني أنه سمح لنفسه بأن يسيء إليّ ويهينني طالما أستمر فى دفع أتعابه. أعترض وقال” أنا أسمح لنفسي بأن أكون مزعجا فقط إلى حد معين”

بعد كل جلسة معه أفكر بألا أعود مرة أخرى. ولدى أسباب كثيرة لذالك. فمكتبه في بيت قديم، مختفيا وسط الشارع بين المباني الأكبر والأحدث، ووسط حديقة مليئة بالممرات الصغيرة والبوابات وأحواض الزهور. من حين لآخر، بينما أكون داخلة أو خارجة من هذا البيت، ألمح هيكلا غريبا على السُلم أو يختفي عبر المدخل. كان الهيكل لرجل قصير قوي البنية، بشعر داكن فوق رأسه، وقميص أبيض مقفل الأزرار حتى العنق فى الأعلى. كلما مر بي نظر إلي، لكن وجهه لا يظهر منه أي شيء، على الرغم من وجودي هناك على السُلم تماما. 

أزعجني هذا الرجل أكثر، لأني لا أفهم على وجه اليقين ما هي علاقته بطبيبي. في منتصف كل جلسة كنت أسمع صوت رجل ينادي بكلمة واحدة من أسفل السلم ويقول”جوردون”

السبب الآخر الذي يدفعني لعدم الاستمرار في رؤية طبيبي، أنه لا يدوّن ملاحظات. أعتقد بأنه يجب عليه أن يدوّن الملاحظات ويتذكر الحقائق عن عائلتي. مثلا عن أن أخي الذي يعيش وحيدا في غرفة في المدينة، وأختي الأرملة ولديها بنتان، وأبي الذي كان رجلا عصبيا للغاية ومتطلبا ويسهل عليه الإهانة، وأمي التي تنتقدني بشدة حتى أكثر من أبي. وظننت أنه يجب على طبيبي أن يدرس كل هذه الملاحظات بعد كل جلسة، بدلا من أن يلحقني ركضا على السُلم ليصنع لنفسه فنجان قهوة في المطبخ. وأظن أن هذا التصرف عَكس عدم جديته في العمل معي. 

 يضحك طبيبي عندما أخبره بأشياء معينة. لكن عندما أخبره بأشياء اخرى أظنها مضحكة فهو حتى لا يبتسم. قال بعض الأشياء الوقحة غير المهذبة عن أمي، وهذا جعلني أرغب في البكاء من أجلها ومن أجل بعض أوقاتنا السعيدة في طفولتي. والأسوأ من كل هذا، أنه دائما ما ينزلق للأسفل في كرسيه ويتنهد ويبدو مشتتا.

اللافت للنظر، أني فى كل مرة أخبره بشيء يجعلني أشعر بعدم الارتياح والتعاسة، هذا يجعلني أحبه أكثر. وبعد عدة أشهر، لم أكن مضطرة لاخباره بهذا أكثر.

 فكرت بأن أترك وقتا طويلا يمر بين الزيارات وحينها سأود زيارته مرة أخرى. مر أسبوع واحد فقط، لكن يحدث الكثير في أسبوع. مثلا، أوشكت على الشجار مع أبني فى يوم ما، ومالكة منزلي كانت تستعد لإرسال أمر بالاخلاء لي فى الصباح التالي، وبعد ظهر نفس اليوم تحدثت أنا وزوجي حديثا طويلا مليئ باليأس وقررنا بأنه لا يمكننا التصالح أبدا. 

بت الآن أمتلك القليل من الوقت لأقول كل ما أريده في كل جلسة. كنت أريد أن أقول لطبيبي بأني كنت أظن أن حياتى مرحة. أخبرته كيف أن مالكة منزلي خدعتني. وكيف أن لزوجي حبيبتين، وكيف أن هاتان المرأتان كانتا تَغيران من بعضهن البعض وليس مني أنا. وكيف أهانني أهل زوجي عبر الهاتف، وكيف تجاهلني أصدقاء زوجي، وكيف واصلت التعثر في الشارع والسير مستندة على الجدران. كل شيء قلت جعلني أريد الضحك. لكن قرب انتهاء الساعة أخبرت طبيبي كيف أعجز عن التحدث مع شخص آخر وجها لوجه. وكيف أشعر دائما بوجود جدار بيني وبين الأخرين فسألني فجأة “وهل يوجد جدار بيني وبينك؟” لا لايوجد ببننا جدران بعد الآن.

رآني طبيبي ونظر إلى ماضيّ. سمع كلماتي، وفي الوقت عينه سمع كلمات أخرى، فبعثرني ولملمني في نمط آخر وأظهر هذا لي. ووجدت ما فعلت، ووجدت سبب اعتقاده أني فعلت ما فعلت، ولم تعد الحقيقة واضحة بعد الآن. بسببه لم أعد أعرف بما أشعر. سرب من الأسباب طار حول رأسي يطن. أصمني طنينهم، وكنت دائما مشوشة. 

 في أواخر الخريف، تباطأت وتوقفت عن الكلام. وفي أوائل العام الجديد فقدت معظم قدرتي على التفكير. تباطأت أكثر حتى أصبحت بالكاد اتحرك. سمع طبيبي لصوت قرقعة خطواتي على السلم، وأخبرني أنه سأل نفسه ما إن كنت أمتلك القدرة لتسلق الطريق للأعلى. 

 في تلك الأيام، لم أكن أرى إلا الجانب المظلم لكل شيء. كرهت الأثرياء، واشمئززت من الفقراء. أزعجني ضجيج لعب الأطفال، وأقلقني صمت العجائز. كرهت العالم، اشتقت لحماية الأموال، لكني لا أمتلك أموالا. تحيطني نساء يصرخن. وحلمت بملجأ مسالم في قريتي.

 واصلت مراقبة العالم. فلديّ عينان، لكن لم أعد أفهم كثيرا، ولم يعد لديّ كلام. شيء فشيء تلاشت قدرتي على الشعور. لم أعد أشعر بالإثارة أو الحب. ثم أتي الربيع، وكنت اعتدت الشتاء حتى تفاجأت برؤية أوراق الشجر.

 بسبب طبيبي تغير كل شيء بالنسبة لي. أصبحت أكثر صلابة، لم أعد أشعر أن الناس يستهينون بي دائما. 

بدأت أضحك على الأمور المرحة مرة أخرى. أضحك ثم أتوقف وأفكر في حقيقة أني لم أضحك طوال الشتاء، في الحقيقة أنا لم أضحك طوال العام. تحدثت بهدوء طوال العام لدرجة أن أحدا لم يفهم ما أقول. الآن أضحى الأشخاص الذين أعرفهم أقل تعاسة حين يسمعون صوتي على الهاتف. 

كنت ما أزال خائفة، لكني بدأت أتحمس مرة أخرى. كنت أود قضاء طوال فترة بعد الظيهرة وحيدة. عدت لقراءة الكتب مرة أخرى، وبدأت في كتابة حقائق معينة. بعد حلول الظلام، كنت أخرج إلى الشارع وأتوقف لأشاهد عروض واجهات المحلات التجارية، ثم أبتعد، وفي حماستي كنت أصطدم بالناس بجواري، دائما ما توجد نساء أخريات يشاهدن الملابس نفسها. أكمل السير مرة أخرى لكن اتعثر في أحجار الرصيف.

منذ أن أصبحت أفضل، فكرت أن أنهي علاجي قريبا. نفذ صبري، وفكرت، كيف سينتهي علاجي؟ ولدى اسئلة أخرى كثيرة. مثلا، إلى متى سأحتاج إلى قوتي للأستمرار يوما بعد يوم؟ لكن لم يكن من إجابة على هذا السؤال. لن يكون هناك نهاية للعلاج أو على الأقل لن أكون أنا من يحدد ذلك . 

أدب العدد الأخير العدد الثالث والعشرين بعد المئة

عن الكاتب

سماح ممدوح حسن