فن التحطيب الصعيدي

كتب بواسطة أحمد مصطفى

مدارس وتراث في مواجهة تحديات العولمة

قد يكون التحطيب رياضة أو لعبة أو رقصًا شعبيًا أو فنًا مرسوم على جدران المعابد الفرعونية القديمة، لكن هو في جميع الحالات تراث مشهور عربيًا، يتمتع بشعبية وجماهيرية، بفضل أخلاق عربية تحترم الشجاعة، وإن تبدلت من السيوف إلى العصا، وتؤمن بالتسامح وعدم التجبر، فالأفضل أن يخرج اللاعبان متساويين.

أما فن التحطيب الشعبي، فهو رقصات لها شهرة وشأن لشعبيتها والاهتمام بحمايتها، ففي مصر تقع ضمن قطاع الفنون الشعبية بوزارة الثقافة، وتعمد هيئة قصور الثقافة لاستمرارية فرق تمارس التحطيب عبر المحافظات وخصوصًا صعيد مصر الذي احتفظ بالرياضة واللعبة لقرون طويلة، بل وبعض الجمعيات الأهلية تسعى ليصير لها فرق تحطيب مثل عشرات الفرق التي لدى وزارة الثقافة.

بينما رياضة التحطيب تحديدًا، تعني المبارزة بالعصي، أو بالشوم، أو النبوت “يختلف الأسم حسب حجم العصا ونوع الخشب”، وتتم بين شابين أو رجلين في محيط دائرتين، إحداهما: ذات قطر 3 متر، تليها دائرة: ذات قطر 5 متر.

تمارس بواسطة لاعبين وبعدة جولات، ومهمة المحكم قياس النقاط لكل طرف حسب نوع الضربة وطريقتها، وكذلك احترام القوانين المتبعة، فهو يشابه رياضة الشيش لكن أكثر جمالاً وروعة لكونه يتم علي أنغام التراث الشرقي الأصيل، حيث المزمار والطبل البلدي، وأكثر إنسانية لمبادئه في الدفاع عن النفس دون عنف.

التحطيب في مصر.. الميلاد والتقدم والانحسار.

لو تحدثنا عن التحطيب في مصر تحديدًا، سنجد أن نشأة رياضة التحطيب تعود إلى أبعد من ثلاثة آلاف عام، منذ الحضارة الفرعونية، وتحديدًا الأسرة التاسعة عشر، 1300 قبل الميلاد، وهناك رسومات توثيقية لممارستها على جدران معابد الأقصر، والأهم أنها ظلت تمارس كظاهرة شعبية للآن، ربما ساهم في زيادة انتشارها ما بعد الوجود العثماني لإشغال الشباب في تفريغ طاقتهم بعيدًا عن السلطة، كما ساهم في تدهورها أحوال سياسية خارجية، مثل نكسة يونيو 1967م والتي تسببت في خفض الاهتمام الرسمي والشعبي بمختلف الفنون والرياضات بطبيعة الحال، بل وكان للنكسة تأثيرات أخرى ثقافية لا متناهية.

للتحطيب مكانة اجتماعية:

لكن خدم استمرار وجود التحطيب عبر القرون هو ما يحتله من مكانة اجتماعية لدى أبناء الصعيد، سواء لشغف الممارسة أو المشاهدة، بهدف الترفيه أو المنافسة الرياضية، ليبدو واضحًا انتشاره بالموالد والأفراح أو الاحتفالات الاجتماعية بجانب إقامة مناسبات خاصة للتحطيب، بل وتكاد لا تشاهد عرس في محافظات الصعيد إلا ويتم فيه رقصات التحطيب التي تلقى إعجاب الجمهور واهتمامه.

بل والاهتمام التاريخي ساهم في استمرار التحطيب، كاهتمام بعض باشوات العهد الملكي بتدشين حلقات للتحطيب بالقرى، ويدعون إليها أشهر رجال التحطيب، ومن هؤلاء الباشوات عبدالرحمن باشا، وهو أحد باشوات قرية النخيلة بأسيوط، الذي كان يستدعي عياد السقا وهو أفضل لاعبي مصر حينها، ومن خلال ممارسته تمتد الممارسة لبعض المعجبين، حيث يعلمهم إياها بدون مقابل.

أما في عهد الرئيس الراحل جمال عبد الناصر فتم إقامة أول بطولة للتحطيب، بجانب تسجيل وممارسة التحطيب مع لعبتي الحوكشة وشد الحبل الفرعونيتين أيضًا، وكانت تلك الألعاب في مظلة اهتمام وزارة الشباب والرياضة حينها، وإن توقفت كما أشرنا في أعقاب نكسة يونيو 1967م.

المهرجان القومي للتحطيب: 

منذ التسعينيات وأهمية جديدة أو ميلاد جديد تمثل في إطلاق المهرجان القومي السنوي للتحطيب الذى تنظمه الهيئة العامة لقصور الثقافة، لكن بشكل غير منتظم، فدورته التأسيسية في الأقصر 1994م، والدورة الثانية 1995م، ورغم نجاحهما إلا أن الدورة الثالثة انعقدت في 2007م، بينما الرابعة في 2010م، والخامسة في2011م، والسادسة في2013م، والسابعة في2014م، والعاشرة في الأقصر 2019م.

التحطيب وقائمة التراث العالمي والتجديد: 

تطور التحطيب وانتشر، ولم يعد قاصرًا على الصعيد أو أن يمارسه أبناءه.

لنقول: إن الصعايدة أسهموا في نقل وانتشار وحماية التراث، حتى وصل إلى العالمية بنجاح الجهود الرسمية وغير الرسمية المصرية وتمكنها من تسجيل التحطيب بقائمة التراث العالمي غير المادي بقائمة منظمة اليونسكو في 30 سبتمبر 2016م. 

بجانب التجديد المستمر الذي يطرأ على التحطيب، مثل دخول النساء للعبة التحطيب وللمرة الأولى في تاريخها بالعام 2017م، كما تم اعتماد أول مدربة للتحطيب وهي الأسيوطية رانيا شوقي (بنت صدفا)، وإن كنا لا نعلم، هل سيكون لذلك أثار إيجابية أم سلبية على تعداد الممارسين، والنظرة الشعبية للتحطيب؟

هذا، بجانب تأسيس عادل بولاد لرياضة التحطيب كرياضة يتم ممارستها بجمعية الصعيد للتنمية.

فضلا، عن اهتمام الجمعيات الثقافية الأخرى بتدشين ورش لتعليم التحطيب كضمن الموروث الثقافي، وفي ذلك جهود المركز الثقافي لجمعية اصدقاء أحمد بهاء الدين بقرية الدوير بمركز صدفا بأسيوط، حيث وسط صعيد مصر، والتي استهدفت 40 طالب من تلاميذ المدارس (من عمر 8- 18 سنة) من أجل أن ينشأ معهم التحطيب منذ الصغر.

التحطيب رياضة غير عنيفة: 

تتعدد فوائد التحطيب، سواء كرياضة أو فن، منها دعم الثقة في النفس بجانب إنمائه لليونة الجسم وسرعة الحركة، ورفع التركيز، وله فوائد أخلاقية في تعليم الصبر وإقرار المروءة واحترام التقاليد.

أما لو تحدثنا عن كونه رياضة، فهي رياضة لا ترتبط بالعنف كما يشاع لأن الأفضل أن يخرج اللاعبان متعادلين. 

بل ويذكر أن الفراعنة كانوا يصنعون عصا التحطيب من نبات البردي المعجون بحيث لا تؤذي أيا من الخصمين، ثم تطورت إلى شجر الدوم لتدريب الجنود على القتال استعدادًا للحروب، وصولًا إلى الخيزران الخفيف حتى لا تحدث ضررًا.

وحاليًا يستخدم عدة أنواع منها الخيزران ومنها أشجار العتم الصلبة، أو خشب الأبنوس، أو خشب الزان، وأحياناً تجهز العصا بمقابض خاصة من جلد حيواني، أو طلاء معدني، وحسب قوة العصا يعرف نوعها، فلو كانت ضخمة ومؤذية كالشوم الغليظة يطلق عليها العصا الغشيمة، في حين لا تسمي إلا بالعصا فقط إذا كانت من الخيرزان الخفيف.

التحطيب والآلآت التراثية: 

للتحطيب أهميته تجاه الموسيقا وآلالات التراثية، حيث يصاحب اللعبة المزامير والطبل الصعيدي والنقرزان وآلة الرباب، وهو ما يعد حماية لهذه الآلات من الإندثار، بجانب نشر الاهتمام بهذه الموسيقى الشرقية الأصيلة في مواجهة أنواع أخرى من الموسيقى الغربية.

التحديات المتزايدة:

لكن ومما لا شك فيه ورغم الجهود الرسمية الكبيرة المبذولة وغير الرسمية، إلا أن التحطيب يقل عدد ممارسيه سنويًا، خصوصًا مع الطبيعة المادية للثورة الجديدة، واقتصاره على الممارسات المحلية، إلى جانب التحديات الثقافية والغزو الثقافي.

العدد الأخير العدد الرابع والعشرين بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد مصطفى