بقلم: فاليري كايوت غيوتو
ترجمة: محمد گزّو
المصدر:
«Changer la vie pour la vieillesse»
Valérie Cayouette-Guilloteau
Docteure en philosophie et professeure au cégep Limoilou
Le Devoir de philo/Histoire – 12 juin 2021
تعريف الكاتبة: فاليري كايوت غيوتو، حاصلة على الدكتوراه في الفلسفة وأستاذة بـ cégep Limoilou، وهي مؤسّسة تعليمية جامعية في مدينة كيبيك بكندا، تأسست عام 1967.
“هل يعدّ كبار السّنّ من شريحة الإنسانيّة؟ بالنظّر إلى الطّريقة التي يتعامل المجتمع بها معهم، يُسمح للمرء أن يشكّ في ذلك”، كان ممكنًا إدراج هذه الجملة في التّقرير المرحليّ الذي قدّمته ماري رينفريت، أمينة المظالم في كيبيك، التي كشفت عن الحالة المأساويّة للأوساط المعيشيّة لكبار السّنّ خلال الموجة الأولى من الجائحة، حيث نقرأ فيه ما يلي: “نقص الموظّفين، استنفاذ القوى العاملة، قلّة العمّال المؤهَّلين، الطّبيعة المتداعيّة للمباني؛ لقد تجلّت هذه المشاكل بقسوة أكثر من المعتاد، علمًا أنّها كانت موجودة، وكثيرًا ما تمّ الإبلاغ عنها في العقود السّابقة”. ولكن، يجب بالأحرى إسناد هذه الجملة إلى سيمون دو بوفوار Simone de Beauvoir، التي كتبتها في إصدار لها سنة 1970 نشرته Gallimard، بعنوان: الشّيخوخة.
كانت الفيلسوفة تبلغ من العمر اثنتين وستّين عامًا عندما نشرت هذا الكتاب، وكانت بالفعل مشهورة عالميًّا بالتزاماتها السّياسيّة وأعمالها؛ مثل: “الماندرين” (جائزة غونكور سنة 1954)Les Mandarins) )، و “قوّة السّنّ” Force de l’Age)) سنة 1960، وأيضًا “تبدأ الشّيخوخة على غرار الجنس الثّاني” (La vieillesse débute à la manière du Deuxième sexe) سنة (1949)؛ من خلال تقديم المعرفة حول الموضوع المختار على المستوى الفيزيولوجيّ، والإثنولوجيّ، والتّاريخيّ، وأيضًا الاجتماعيّ.
الحقيقة، إنّها تؤكّد على الأحكام القيميّة المتأصّلة في تعريف الشّيخوخة من وجهة نظر بيولوجيّة. لذا كتبت أنّ الشيخوخة، في الواقع، هي “عمليّة تدريجيّة لتغيير غير ملائم، ترتبط عادة بمرور الوقت، وتصبح ظاهرة بعد النّضج، وتؤدّي دائمًا إلى الموت”. وهذا يعني أنّنا سنشهد تراجعًا بعد أن عشنا نوعًا من الذّروة، ولكن كيف يحدث كلّ هذا؟ هل على المستوى الأخلاقيّ، أم الجسديّ، أم الفكريّ، أم الاقتصاديّ، أم الاجتماعيّ؟ هذا يعني أنّنا نفترض أهدافًا معيّنة لحياة الإنسان، ولكن ما هي؟ وهل هي مقبولة؟
بعد ذلك، تعمل البيانات الإثنولوجيّة التي تقدّمها، سيمون دو بوفوار، على إظهار إلى أيّ مدى تعتمد حالة الشّيخوخة على السّياق الاجتماعيّ. وغالبًا ما تكشف الطّريقة التي نتعامل بها مع كبار السّنّ، عن مبادئ وأغراض منظّماتنا الاجتماعيّة، وصورتها حول الشّيخوخة في المجتمعات التّاريخيّة، كما تكشف عن تحليل مادّيّ للمسألة التّاليّة: هنا كما في أيّ مكان آخر، تحمي الطّبقات المهيمنة مصالحها.
وعليه، يتمّ تقدير خبرة وحكمة الشّيخوخة عندما تكون القوّة ملكًا للمسنّين، بينما يتمّ تقديمها على أنّها ملَكات متضائلة عندما يكون الأمر عكس ذلك. على سبيل المثال، في الإمبراطوريّة الرّومانيّة، دافع شيشرون وسينيكا عن الدّور الأساسيّ لأعضاء مجلس الشّيوخ المسنّين، بينما في العصور الوسطى، كان النّظام الإقطاعيّ يفضل القوّة البدنيّة؛ هذه هي الطّريقة في سياقنا التّقنيّ والصّناعيّ، حيث تنتمي القوّة للابتكار، ولوتيرة الإنتاج المتسارعة، وتصبح الشّيخوخة مرادفة لكونها عفا عليها الزّمن. بالإضافة إلى ذلك، تعني نظم التّضامن الاجتماعيّ لدينا، أنّنا ننظر أحيانًا إلى المسنّين، على اعتبار التّكاليف التي يولّدونها عالة على النّظام. وأخيرًا، أدّى انهيار نموذج الأسرة التّقليديّ أيضًا إلى استبعاد كبار السّنّ عن المجتمع.
العلاقة بالزّمن
بعنوان “الوجود في العالَم”، يعدّ الجزء الثّاني، من كتاب سيمون دو بوفوار، أقلّ وصفًا وفلسفة، إذ نجد تطبيقًا للمنهج الفنومينولوجيّ، أي تحليل يركّز على موضوعات التّجارب الحيّة: نعني هنا الشّيخوخة، كما نرصد أيضًا داخل الكتاب مفاهيم مُهمّة للوجوديّة مثل الحرّية، والمسؤوليّة، والقلق، والعبثيّة. ممّا يعني في المقام الأوّل، إنّ موضوع الشّيخوخة يجعلنا حتمًا نفكّر في علاقتنا بالوقت، وهذه كمسألة وجهة النّظر، التي تقول: سنتان للطّفل أطول من سنتين بالنّسبة لشخص بالغ. ولكن ماذا عن شخص مسنّ؟ إنّه يدرك أنّ الوقت خلفه أكثر ممّا هو أمامه، إنّه لا يعرف متى سينتهي، لكنّه يعلم أنّه لم يكن بهذا القرب قط، وهذا حتمًا له تداعيات كبيرة. فكلّنا نرفض التّفكير في أنفسنا أنّنا وصلنا لمرحلة الشّيخوخة، حتّى لا نضطرّ إلى الاستسلام لها، لأنّ الإدراك بمرور الوقت يجلب القلق للإنسان الفاني. وهكذا يمكننا تفسير الصّدمة التي شهدتها الصّيغة الشّهيرة لـ: “ابق في المنزل!” الموجَّهة من رئيس الوزراء، إلى الأشخاص الذين تزيد أعمارهم عن سبعين عامًا، خلال الموجة الأولى من الجائحة.
وفي السّياق ذاته، ما هو تأثير ظاهرة الشّيخوخة على الهوّيّة؟ غنيّ عن القول بالنّسبة للفلسفة الوجوديّة، إنّ الوجود يسبق الجوهر، وهذا يعني إنّ هويتنا يتمّ تحديدها بواسطة أفعالنا في العالَم، بمعنى ممارساتنا العمليّة، والحقيقة فكلّ شيء يجب أن يبنى؛ هذا بالضّبط ما نفعله نحن، وبه موجودون في العالَم، لأنّ الآخرين يدركون أنّنا جديرون بأفعالنا وإنجازاتنا. غير أنّ الحال ليست كما هي بالنّسبة للمسنّين، لأنّ معظم أعمالهم الجبّارة قد نفذت تقريبًا، وبالتّالي فالاعتراف بهم من قِبل الآخرين يأتي متأخّرًا دائمًا، وشيئًا فشيئًا، يعيشون في الذّكريات.
ولكن بعد ذلك، عندما تتضاءل ذاكرتنا (ذكرياتنا أو ذاكرة المجتمع عنّا)، فماذا عن الهوّيّة؟ بشكل عامّ، تعزلنا الشّيخوخة رسميًّا وتُبعدنا عن العالَم رويدًا رويدًا. إذ لطمأنة نفسه، يختبئ الشّخص المسنّ تدريجيًّا، فيقلّل علاقاته الاجتماعيّة، ويخرج نادرًا إلى العالَم الخارجيّ، وتتخلّل أيّامه العديد من العادات الصّغيرة، التي تستجيب له كمعايير، وتساعده على أن يتذكّر من هو.
بناء على ما تقدّم، تصف سيمون دو بوفوار العادات اليوميّة، بأنّها “أمان وجوديّ” للشّخص المتقدّم في السّنّ. ومع ذلك، لا يتطلّب الأمر سوى تغيير في الجدول الزّمنيّ أو النّظام الغذائيّ أو المناظر المرئيّة، حتّى يتمّ تهديد هذا الأمان، ممّا يؤدّي أيضًا إلى القلق وفقدان النّقاط المرجعيّة.
نقص في العاطفة
على الصّعيد نفسه، يأتي الرّفض من المجتمع أيضًا، عند نهاية الحياة العمليّة للأشخاص. فبعد تقاعدهم، يظلّ الكثير منهم مشغولين ومشاركين في مشاريع مختلفة، لكن العمر يعني حتمًا أنّه، شيئًا فشيئًا، يصبح إنجاز العديد من الأنشطة أكثر صعوبة أو يُخشى منها أصلًا. بينما من السّهل وصول الشّاب إلى قوّة كبيرة، ولكن على الشّخص المسنّ أن يُجَنِّب نفسه العمل الشّاقّ بالضّرورة، وأن يخطّط لوقت أطول للتّعافي، ويتوقّع مواقف أكثر خطورة كانت بسيطة فيما مضى كـ: (أرصفة سيّئة التّنظيف، انخفاض الإضاءة، السّلالم، وغيرها). بالإضافة إلى إمكانية فقدان الاهتمام ببدء مشاريع جديدة، عندما يحسّ باقتراب النّهاية. ومع ذلك، كتبت الفيلسوفة قائلة: “إنّ غياب العاطفة هو قصورنا الذّاتيّ الذي يخلق الفراغ من حولنا”، ومن هنا، يؤدّي الملل إلى تخفيض قيمة الذّات الذي يؤدّي، في الوقت نفسه، إلى عدم القيمة في نظر الآخرين. وعليه، يمكن أن يغزونا شعور سخيف، لأنّ أفعالنا صارت دون معنى، وعليه فمن الخطورة، بما كان، الانغماس في نوع من اللّامبالاة الفكريّة أو العاطفيّة، والعلاج الوحيد لذلك هو التّحفيز المستمّر والمتجدّد.
هذه هي الطريقة التي تقترحها المؤلِّفة، مذكّرة إيّانا، بأنّ الحلّ هو الاستمرار في إقامة المشاريع، مهما كانت صغيرة، للعمل بطريقة تخلق المعنى، والحافز لمشاركة المسنّين في المجتمع. لذلك، فالاستعداد للتّقاعد لا يعني فقط توفير المال، بل هو أيضًا تنميّة الشّغف وتنويعه، والحفاظ على فضول التّجديد، والإبقاء على العلاقات الاجتماعيّة بخلاف العلاقات المهنيّة. ويتّضح هذا كلّه، بالمثال الذي قدّمته السّيّدة جانيت برتراند بفضل شعبيّة في إعداد ورشات الكتابة الموجَّهة لكبار السّنّ. علاوة على ذلك، هناك سبب آخر هو الحفاظ على نظام تعليم إنسانيّ، لا يقوم بتكوين العمّال فقط: لأنّنا في يوم من الأيّام سنكون متقدّمين في السّن، ولن نكون قادرين الاعتماد على أجسادنا، كما كان الحال من قبل، فمن الضّروريّ إذًا تنميّة فضولنا.
مطلب جذريّ
لنلاحظ، ماذا سيخبرنا هذا النّصّ عن قضيّة إسكان كبار السّنّ؟ يوجد في كيبيك أكثر من مليون ونصف شخص تبلغ أعمارهم خمسة وستّين عامًا أو أكثر، أو بصيغة أخرى، ما يقرب من واحد من كلّ خمسة أشخاص، ويُتوقّع ارتفاع العدد إلى ما يقارب ثلاثة ملايين بحلول 2061 (المصدر: كبار السّنّ من كيبيك، بعض البيانات الحديثة، 2018). ومن بين هؤلاء، خمسة وخمسون في المائة من النّساء وتتّسع الفجوة مع تقدّم العمر، لأنّ سبعة من كلّ عشرة أشخاص فوق التّسعين سنة هم من النّساء. ويبلغ دخل هؤلاء سبعين في المائة من دخل الرّجال، في الفئة العمريّة نفسها. بالإضافة إلى ذلك، ما يقرب من ستّين في المائة من مقدّمي الرّعاية هم من النّساء. وفي النّهاية، فالغالبيّة العظمى من الأشخاص الذين يعملون مع كبار السّنّ هم من النّساء. وفي هذا القطاع كما في غيره، تكون ظروف عملهنّ أكثر خطورة، ولكن أجورهنّ أقلّ من تلك التي تُصرف للرّجال. وعليه يقودنا المنظور النّسويّ، المستوحى من سيمون دو بوفوار، إلى أخذ الموقف على محمل الجدّ، وسيكون للوباء ميزة واحدة على الأقلّ: إنّه سيجعل من غير المرئيّ مرئيًّا لنا. في الواقع، هذا ما ختمت به أيضًا سيمون دو بوفوار كتابها، قائلة: “هذا هو السّبب في دفن السّؤال في صمت منسّق، فالشّيخوخة تندّد بفشل حضارتنا كلّها (…)، إذ يهتمّ المجتمع بالفرد فقط بالنّظر لمقدار ما يدفع، والشّباب يعرفون هذا جيّدًا؛ إنّ قلقهم عندما يقتربون من الحياة الاجتماعيّة، متماثل مع قلق كبار السّنّ عندما يتمّ استبعادهم (…). فعندما نفهم الحالة التي يعيشها كبار السّنّ، لا يمكننا أبدًا الاكتفاء بالدّعوة إلى سياسة شيخوخة أكثر سخاء، وزيادة في المعاشات التّقاعديّة، وتوفير إسكان صحّيّ، وتنظيم أوقات الفراغ بأنشطة مناسبة؛ إنّها اقتراحات ونظام كامل مازال قيد التّشغيل، لم يفعّل بعد، بل من الواجب علينا أن يكون الطّلب جذريًّا لا محالة، وهو: نحو تغيير جذريّ للحياة”.