“غرباء” يتطرفون أقصى اليمين وغرباء يتطرفون أقصى اليسار والتائهون بين بين

كتب بواسطة سماح ممدوح حسن

  في مشهد الافتتاح لفيلم “غرباء” يتنفس الصباح على وجه “ناديه، سعاد حسني” العائدة من عملها، وتستمع إلى خبر في راديو سيارة الأجرة التي تستقلها عن نجاح العلماء في تخليق أجنة خارج أرحام الأمهات في أنابيب صناعية (كان ذلك يعد إنجازًا علميا جديدًا في هذا الوقت) وأضاف الخبر أن العلماء لا يستبعدون مجيء يوما يخلقون فيه بشرا خالين من الأمراض الوراثية بفضل التقدم في العلوم الجينية. 

يصبح هذا الخبر باعثا على الفرح والسرور الذي يظهر على وجه البطلة “ناديه” لكن في المشهد الذي يليه، مباشرة، ينقلب الوضع إلى العكس تماما. عندما يكون “أحمد، شكري سرحان” أخو “نادية” المتدين حتى التطرف، الذي لا يتلفظ بقول ولا يُعلق على ما يسمع من أي شيء سوى بقوله (حرام، إلحاد، وكفر).

 في هذا المشهد يدخل شكري سرحان المسجد مهموما ويحكى لأحد الحضور عن سبب الضيق الذي يظهر عليه (والذي سيكون سمة وجهه من بداية الفيلم إلى نهايته) ويكون السبب في ذلك أنه تشاجر وأخته كما حدث مرات عدة عندما اعترضت على ملئه لحائط البيت بآيات العذاب والوعيد “إن بطش ربك لشديد” وإنها تريده إن أحب تعليق بعض الآيات فليختار آيات الترغيب، آيات عن الجنة والنعيم والغفران. فالقرآن كما يحتوي على الوعيد يحتوي على الترغيب. ليصفها الأخ بعدها بالكافرة، بل ويخبر والدهم الذي سيتدخل في الشجار، بأن ابنته تتعلم (الكفر) على حد تعبيره، من مقالات “فؤاد عبيد” أستاذ الفلسفة الآتي من بعثة دراسية في أوروبا مأخوذا بكل مظاهر التقدم والحضارة الأوربية الحديثة، الأستاذ الذي فتّح عينها وعقلها على العلوم والفنون والتقدم الذي حرمت منه شعوبنا.

 يُمثل “أحمد” التطرف الديني (أقصى اليمن) حيث كانت تلك هي الفترة الأولى لبدء توحّش الأفكار الدينية المتطرفة، فالقصة تُحكى في سبعينيات القرن الماضي، حيث قويت حينها شوكت الجماعات الدينية والتي أخرج كثيرا من أعضائها من السجون التي كانوا معتقلين فيها، ليُضرب بهم النظام الموجود حينها من الجماعات اليسارية والناصرية، فتم إطلاق أيديهم وأفكارهم بكامل الحرية، ومما زاد الطين بلة، السنوات القليلة التالية التي بدأ المصريون يخرجون أفرادا وجماعات للعمل في الخليج بعد تفجر النفط في كل أراضي تلك المنطقة، ورجع المصريون بأفكار لا تقل غرابة وتشددا من أفكار تلك الجماعات.

“أحمد” الأخ العاطل عن العمل، ولا يدرس شيء أيضا، جُل حياته، وكل همه من العالم، يدور حول ملابس الأخت التي يعتبرها فاضحة، وتكفير كل العلوم التي تُحدثه عنها، وعملها الذي يصفه بالكفر عينه حيث كانت تعمل نادلة في مقهى أحد الفنادق الكبرى في وردية ليلية تنتهي صباحا. على عكس والده الذي كان منفتح العقل ومتفهم لعملها الذي يأتي بأموال في شهر واحد أضعاف راتبه بعد عمل 35 عاما في وظيفة حكومية، لكن ورغم أن الأب قال ردا على سؤال أحمد إذا كانت المسألة مسألة نقود؟  (أيوه طول عمرها حكاية فلوس) إشارة من الأب إلى باطل الابن، لكن أيضا كان هناك سببا آخر وأن الأب لم يصبه الهوس الديني الجديد ربما لأنه أصبح أكبر من أن يغتر أو ينقاد بسهولة أو رعونة. 

 نأتي إلى التطرف في أقصى اليسار. أو على الجانب النقيض من “أحمد” كان الأستاذ الفيلسوف “فؤاد عبيد”. تعلّم في أوروبا، وتركت فيه الصدمة الحضارية مما رآه والفارق بين ما عاشه طوال حياته، وما رآه في الخارج أكبر الأثر. آمن أن الأساطير والخرافات والتقاليد، هي مَن تعيق الإنسان عن التطور والتقدم. متفقون على أن كل تلك الأشياء تقف في وجه العلم، لكنه تطرف في ذلك حتى تعدى اعتقاده في أسباب إعاقة العلم والتطور إلى المشاعر الإنسانية على اختلافها، فهذه أيضا بجانب الخرافات سببا لإعاقة وصول العلم وانتشاره. كره كل المشاعر الإنسانية ونقل تلك الكراهية في تعاليمه إلى تلاميذه ومريديه، كره كل المشاعر سواء كانت بين عاشقين، أو أخوة، أو أب وأم لأبنائهم، أو حتى التلاميذ لمعلمهم. وظل وحيد طوال حياته لاعتناقه ذلك المبدأ.

  لم يكن التطرف في كلا من الاتجاهين سواء التطرف الديني ل “أحمد” أو التطرف العلماني ل “فؤاد عبيد” الفيلسوف، سوى قشرة يختفي وراءها كلا منهما، حتى لا يواجها الواقع الرافضين له أو الخائفين منه.

 “أحمد” يتدرع بالدين وتشدده فيه لأنه كان محبطا، ربما لظروف البلاد في تلك الآونة التي كانت مصر تخوض فيها حربا، وخارجة من هزيمة. والمناخ السياسي والاقتصادي، فهو لا يستطيع الانخراط بأي عمل حقيقي، ليس له دخلا ماديا مستقلا، بل يعتمد على ما يوفره أبوه من مأكل وملبس وسكن. 

أما تطرف “فؤاد عبيد” ومغالاته في رفض وبُغض المشاعر الإنسانية، كان بسبب حادث في القرية التي جاء منها، عاشه في الصغر، وهذا الحادث هو ما أورثه ما أصبح عليه. حين رأى أخ يذبح أخته في جريمة شرف، دون أن يتحرك الناس، والذين اصطفوا حولهم للمشاهدة، بل وكانوا يشجعون هذا العمل ويباركوه، حتى النساء منهم. 

لم يكن تطرف الشخصيتين إلا آلية للدفاع، بدليل أن الإثنين فعلو تماما عكس ما يحرمونه ويرفضونه. ف “أحمد” المتدين انزلق في علاقة غرامية مع جارته مع أنه كان يحرم ذلك الفعل، واستجاب لغوايتها. أما الفيلسوف فقد مات وحيدا منتحرا بعدما يأس وأرهق من وهن وزيف أفكاره التي كان يتوق إلى اعتناق عكسها لكنه لا يستطيع. هذا ما لمّح به إلى “ناديه” في الليلة قبل انتحاره.

أما شخصية “ناديه” نفسها، فهي تمثل هؤلاء التائهون بين بين. فعلى الرغم من إيمانها الشديد بالعلم والتطور والتحرر والذي يتجلى في تصرفاتها، كدأبها على حضور الندوات الثقافية ومحاضرات أستاذها الفلسفية، وانبهارها بالعلوم الحديثة، مثلما كانت تشرح ل “أحمد” أنه حتى القمر الذي نراه بالسماء لم يعد قمرا! أنما هو صخور داسته الأقدام (الروس داسوا عليه). 

إلا أن تذبذب نفسها وقناعاتها، والذي كان دافعه الخوف، كان واضحا في نظراتها عندما كنت تنظر إلى أخيها وهو يعنّف أستاذها الذي كان يشرح بعض النظريات العلمية، واتهم الأستاذ بأن هذا العلم ما هو إلا كفر وإلحاد، وكان الأستاذ ينظر إلى التلميذة ناديه ورأى خوفها. أيضا أتضح هذا التذبذب في أحد المشاهد عندما كان حبيبها يقبلّها فجفلت وابتعدت عنه بعدما ومضت في رأسها صورة أخيها وهو يعلق آية الوعيد “إن بطش ربك لشديد”. كانت “ناديه” حائرة ومن مثلها، لكن فرصة نجاة هؤلاء من عبث التطرف على الاتجاهين أكبر من غيرهم، على الأغلب هؤلاء سوف ينتصرون للعلم وللإنسان ومشاعره. 

في الفيلم أيضا شخصية الفنان التشكيلي “سمير، حسين فهمي” كان حبيب “نادية” لكنه أراد منها أن تكون كما يريد هو، تتحرك وتفكر بأمره وكما يفكر. لكن هذا ما رفضته “ناديه” تماما وتركته من أجله، لأنه منافيا لما تؤمن به وتحارب من أجله كل يوم في البيت والشارع والعمل، وأيضا منافي تماما لتعاليم أستاذها ومثلها الأعلى والتي ستكتشف أن كثيرا من قناعاته كانت مزيفة وحاولت مساعدته قبل انتحاره لكن دون جدوى.

هذا الفيلم كغيره من الأفلام التي مُنعت لفترة طويلة من العرض ولم يفك أسره إلا عام 2012 أي بعد حوالي 39 عام على إنتاجه، بالتأكيد كان الرقيب يرى أنه أدرى بمصلحة المشاهد من نفسه وهو حريص عليه من مشاهدة فيلم مليء بأفكار فلسفية شطّاحة لن يستطيع المشاهد التعامل معها. ورغم أن هذا الفيلم أنتج عام 1973 زمن الحرب، زمن فك أسر الجماعات الإسلامية وإخراجهم من المعتقلات، ودخول مصر بعدها بقليل عصر الانفتاح في كل شيء، التأثر بالثقافة الغربية، وأيضا عصر الانفتاح على العلم والاختراعات الحديثة، والثورات الثقافية التي كانت تموج بها أمريكا وأوروبا والتي وصلنا بعضا من صداها.  كل هذه الأجواء نعيش فيها نحن الآن كما لو أن التاريخ يعيد نفسه، أو نحن من لا نتعلم. فنحن الآن في أعتى عصور التطرف الديني وتوحش الجماعات الدينية المتطرفة. ونشهد العجيب من الفتاوى الدينية التي تطيح برأس العاقل من شدة غرابتها. في الوقت الذي توصّل العلماء إلى تحقيق الجملة التي جاءت في أول مشاهد الفيلم. فقد توصل العلماء الآن إلى إمكانية تعديل الجينات البشرية واقتصاص الجينات المسؤولة عن الأمراض بها. وسوف يأتي على البشر أجيالا، ليس في وقت بعيد، لا يعرفون الأمراض. كما توصل العلماء من قبل إلى الاستنساخ، وعلاج أمراض لم يكن لها علاجات. أيضا خلق العلماء أعضاء بشرية تعويضية، بل واقتربنا من تخليق إنسان كاملا في المعامل، فقط تنقصه نفخة الروح.

فيلم غرباء 1973 

بطولة: سعاد حسنى عزت العلايلى، شكرى سرحان، حسين فهمي

قصة وسيناريو وحوار: رأفت الميهى وسعد عرفة

إخراج: سعد عرفة

العدد الأخير العدد الرابع والعشرين بعد المائة سينما وأفلام

عن الكاتب

سماح ممدوح حسن