نمذجة الإنسان مسألة غير واقعية

كتب بواسطة شيرين ماهر

يورج فريدريش  Jörg Phil Friedrich

ترجمة عن الألمانية : شيرين ماهر  

استدعت أزمة كورونا وإجراءات التباعد، إلى الأذهان، اللوحة الشهيرة للفنان العالمي “ليوناردوا دافنشي” المعروفة باسم “الانسان الفيتروفي/Vitruvian-Man”، والتى تقوم فكرتها على صورة متراكبة تعبر عن التجانس والتناسب بين جسد الإنسان والكون، والواقع أن إجراءات كورونا، القائمة على التباعُد والتتبُع، رسمت في المقابل صورة مقيدة للإنسان على عكس ما صوره خيال “دافنشي” في لوحته الشهيرة التي قدمت الإنسان كـ “نموذج” للاكتمال، و أحرزت سبقاً في طرح مفهوم “قيمة الجسد” ووظيفته بين الانعزال والانفتاح، وفي الوقت الذي تُواصل فيه كورونا تحوراتها، راحت تخلق أيضاً أنماطاً سلوكية غير قابلة للتنبؤ بين الأفراد. هذا ما يطرحه المفكر والفيلسوف الألماني “يورج فل فريدرش” حول ما إذا كان هناك جسر يمكن، من خلاله الوصول إلى تصور إيجابي حول صورة الإنسان في ظل ما يعيشه حالياً من إجراءات إلزامية تعايشاً مع الوباء. كما يرى أن التجربة الفكرية والعصف الذهني قادران على تغيير الصورة السائدة حالياً دون السعي إلى وضع البشر بين قوسي “النمذجة”، لكونه أمراً غير قابل للتحقق على أرض الواقع.
قدم الوباء رؤى غير متوقعة عن الحياة المجتمعية والطريقة التي يرى بها الناس أنفسهم داخل هذا العالم، حيث باتت تظهر الآن، بشكل جليّ، أمور قد يراها البعض غامضة ومشكوك فيها، بطريقة أو بأخرى. وهذا يشمل التساؤل حول الصورة الذهنية عن “الرفقاء”، وكذلك الطريقة التي تُشكل رؤية الطبقة السياسية والخبراء والصحفيين والمستشارين وجماعات الضغط حول المواطنين. يمكن استنتاج ذلك بالنظر إلى إجراءات الحكومات وتوصيات المستشارين وأحكام الصحفييين وتوقعات الخبراء في ظل الجائحة، كل هذا يعكس الطريقة التي يَنظُر بها هؤلاء إلى المجتمع.
تعود الصورة الذهنية السالفة عن الإنسان إلى ما عززته المراحل المبكرة منذ انبثاق نظرية الاقتصاد الحديث، والتي طرحت مصطلح الإنسان الاقتصادي “homo oeconomicus” (1) الذي يُعتقَد أنه من الصعب التغلب عليه أو هزيمته. هذا “النموذج البرجماتي” البدائي يتصرف وفق تعظيم منفعته الفردية؛ يوازن بين التكاليف وتبعات خياراته، يفعل ما يعود عليه بأقصى ربحية. ومن ثم، يجب دفعه نحو التصرف بطريقة صحيحة من خلال اتباع قواعد واضحة، كما يتم معاقبته جراء انتهاك القواعد، و يجوز أيضاً أن تتم إثابته حال امتثاله للقواعد. هكذا يتوجب عليه الموازنة، بشكل صحيح، بين التكليفات والمزايا، العقوبات والإثابات. لا تزال هذه الصورة وذلك النموذج يفترضان امتثال الأفراد للقواعد التي حددتها الحكومات مسبقاً في إطار ما هو صحيح ومطلوب في الوقت نفسه. فعلى مدار عقود من تدريس علوم إدارة الأعمال و الاقتصاد، تشكلت هذه الصورة للإنسان، طارحة تفسيرات لكثير من الأمور. ولكن بالطبع لكل نموذج عملي قوته وقسوته، على حد سواء.
“نمذجة” الإنسان ليست واقعية.
تبنى المستشارون والأكاديميون والمؤسسات السياسية هذا النموذج للمواطن. كذلك نجده سائداً بقوة داخل الشركات، وفي صالات تحرير الصحف والمحطات الإذاعية. لقد كان من السهل أن نتناسى حقيقة أن “الإنسان النموذج” هو محض خيال وليس واقعياً، ولكن سرعان ما ارتطم هذا “الإنسان النموذجي” بالواقع وبات حائراً وسط الجموع؛ في الشوارع والمدارس والمصانع والمتاجر والمساكن، وغيرها من الأماكن. لقد أخذت القيود تزداد شيئاً فشيء، مُنذِرة بتحطيم هذا النموذج، كاشفة عن عدم واقعيته فعلياً.

لقد أصبح الشغل الشاغل لدى النُخَب الخروج بمجموعة من القواعد والإجراءات الإلزامية أثناء أزمة كورونا، لتوضح للناس ما المسموح لهم وما المحظور عليهم: أين يتوجب عليهم ارتداء الأقنعة الواقية؟ وإلى أى مدى يجب أن تكون المسافة الأمنة بينهم؟ ما عدد الأشخاص المسموح الالتقاء بهم، كحد أقصى؟ وغيرها من قوائم التعليمات والتحذيرات. لكن الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أن محاولة “نمذجة” الإنسان لم تعد فقط قاعدة معمول بها داخل عالم السياسة، بل امتدت إلى ممارسات الحياة اليومية، و طالت المجتمع بشكل عام.

إذا قرأنا المنشورات والتعليقات للأفراد على شبكات التواصل الاجتماعية وكذلك تعليقات القراء أسفل المقالات المنشورة على المواقع الالكترونية، لاحظنا أنه رغم الانتقادات الموجهة للعديد من الإجراءات والقواعد واللوائح الإلزامية، إلا أن النقد ليس موجهاً، بصورة مباشرة، إلى فرضية انفراد السلطات التنفيذية بتنظيم سير كل شيء، بصورة مطلقة وبدون مرونة أو مشاركة من جانب أطياف أخرى فى المجتمع، كل ما يَهُم هو التشديد على ضرورة تطبيق الإجراءات بنفس الكيفية المحددة بها سلفاً.

كذلك تنحصر هذه الانتقادات في الشكل أكثر من المضمون؛ مثل اعتبار هذه القواعد خاطئة، أو جاءت متأخرة بعد فوات الأوان، أو يتم تنفيذها ببطء شديد أو أنها لا تتناسب مع واقع الحياة اليومية، أحيانًا يتم الاستهزاء بعبثية التدابير واللوائح عن طريق الدفع بأمثلة تُظهر مدى التنافر بين هذه القواعد والفطرة البشرية. كل هذا يسلط الضوء على الأمور التي تفشل هذه الإجراءات في التعامل معها وتحقيق الأهداف المرجوة منها. ما يمكن ملاحظته أيضاً، أن هذه الانتقادات والتباطؤ وعدم الفعالية تعد نتاجاً طبيعياً للمبدأ السائد استخدامه، ألا وهو، الرغبة فى تضمين كل شيء داخل إطار القواعد واللوائح ليتبعها الناس بدافع أن ذلك من شأنه أن يصلح الوضع أو الأزمة.
الأمر ليس بهذا السوء، طبقاً لما يعرفه كل فرد بشأن الجائز والممنوع، وما تطبقه الحكومات حال مخالفة القواعد، سواء بتحذير المواطنين أو إخضاعهم للمُساءلة حال عدم الالتزام، يتضح أن الأمر برمته مجرد دفاع عن العملية نفسها وامتداداً منطقياً لخطواتها الأولى. وفي سياق الاعتذار الافتراضي، فإنه لا يمكن صياغة وبلورة القواعد بصورة تضمن منطقيتها في كل الأحوال والمواقف، مع مراعاة أن هناك أزمات تفرض تصميم قواعد طارئة يتم بلورتها بصورة فورية، ربما هذا ليس سيئاً في مجمله، ربما كان من الأفضل القيام بأشياء قد تكون جدواها غير مؤكدة بدلاً من عدم وجود قواعد تنظيمية على الإطلاق، والتي بموجبها نتعرف بصورة ملموسة على ما هو صحيح وما هو خاطىء؟
على ما يبدو، أننا نفتقر إلى الخيال الذي يجعلنا نتصور العالم بصورة أقل تنظيمية مما هو عليه، ومع ذلك، لا نزال نتحلى بقدر من الحكمة في التعاطي مع تحديات الوباء. وهذا يرجع في المقام الأول إلى حقيقة أننا نتمسك بفكرة أن الأشخاص لن يفعلوا الأشياء المنطقية أبدًا، إلا إذا كانوا مجبرين على فعل ذلك وفق القواعد. دعونا إذن نختبر أفعالنا، إذا ما تخيلنا أننا نحيا في عالم يُخبرنا فيه القادة، ذوي الكاريزما والتأثير الجماهيري، عن الوضع الدرامي الذي نواجهه في ظل الوباء، وفي الوقت نفسه يستميلون شعورنا بالمسؤولية تجاه ما يحدث ويستنفرون قدراتنا التضامنية.
كصورة متخيلة، لا تبدو هذه الأفكار غريبة علينا، على الإطلاق. فكل الأزمات الأكثر درامية التى مر بها التاريخ، تم عرضها كأحد أكثر الأفلام رواجاً في دور السينما خلال السنوات الأخيرة. دائماً ما كانت هناك هذه المشاهد التي يتم فيها التذرع بالمسؤولية المشتركة للمزايدة على الوضع التعجيزي في سياق الخطابات الدرامية على أية حال، نرى هذه المشاهد دوماً في أفلام الخيال العلمي. لا أحد يعدّ هذه المشاهد الحماسية في الأفلام “سخيفة” أو ما شابه، وإنما تشعر الجماهير في جميع أنحاء العالم بالاستثتارة والانبهار بمثل هذه اللقطات. فعلى ما يبدو أننا نحمل في أعماقنا قناعة بأن البقاء معًا في الأزمات يمكنه أن يحفز طاقات الإبداع ويستنفر مكامن القوة ويولد الأفكار ويحث على المثابرة لدى كل فرد، ومن ثم يسهم في تكييف القدرات المتاحة للتعامل مع الموقف مهما كانت صعوبته.
“أفعالنا”.. مجرد مُقدمات للنتائج
إذا تخيلنا أيضًا أن العقول الساطعة بيننا، لا تخبرنا فقط بما يجب علينا فعله، بل تسوق أيضًا الأمثلة اليومية لخلق روابط منطقية بين الأفعال والنتائج والمقدمات والمخرجات، الأمر الذى يتولد عنه عملية فهم عميقة لعواقب أفعالنا. لقد تم تقديم العديد من التفسيرات حول دور الأقنعة ومراعاة إجراءات التباعد. ولكن كان يتم ذلك دائمًا دون النفاذ لجوهر الرسالة، ليقتصر الأمر على تبرير هذه الإجراءات وإيضاح وجاهتها لضمان الامتثال لها، وليس لدعم رؤى الأفراد وتصوراتهم الإضافية حول إمكانية تعديل ممارساتهم اليومية وتكييفها مع ما طرأ عليها من تغييرات في ظل الوباء، النبرة التي نوجه بها رسائلنا، حتماً كانت ستجعل النتائج مختلفة.

لو تصورنا أنه لن يتم سن لوائح أو قواعد تفصل بين ما هو مسموح وما هو محظور، أو تنص على عقوبات أو تفرض ضوابط لكيفية إدارة العواقب الوخيمة أو مشكلات ممارسات الحياة االيومية. وبديلاً لذلك، ستكون الرسالة هي: “استخدم ثروتك من الأفكار، وإبداعك المشترك، ورغبتك في المساعدة والتضامن لتنفيذ ما قمت باستيعاب أهميته، للتحكم فى نمط حياتك اليومية، للحفاظ على أكبر قدر ممكن من الحرية”.. هذه الرسالة ستجعل الأفراد والمواطنين “شُركاء” وليسوا “مٌتلقين” للتعليمات. يمكن للحكومات أن تدعم هذا المسار من التفكير الإبداعي لتطوير إمكانات الوصول إلى حلول نموذجية وكذلك لتوفير إجراءات قياسية للتعامل مع المواقف الطارئة وإتاحة فرص التواصل المتبادل حتى يسود مفهوم “الحلول الابتكارية” للمشاكل المتأزمة.
كذلك ينبغي تقدير ورعاية كل مبادرة تحافظ على نشاطات لا تزال على قيد الحياة في مثل هذه الأوقات الصعبة، والأفضل ألا يتم رصدها فقط من منطلق التحقق من مدى التزامها بالقواعد، وإنما لدعمها بشكل يتوافق مع ظروف الوباء، ومن ثم تعميم كيفية التعاطي معها في كل مكان لضمان مشاركة الأشياء الإيجابية. لو صار لدينا مزيداً من الثقة فى بعضنا البعض، سيشكل ذلك ضمانة لبذل أقصى جهد للتغلب على الأزمة، وفي الوقت نفسه لن نضطر إلى إيقاف الحياة الاجتماعية تماماً.
في النهاية، سيفكر بعضنا قائلاً: “كل هذا جيد للغاية، ولكن الناس ليست كذلك.. الغالبية تخدم مصالحها وتخضع لمحاولات الاستئناس والترويض، ثم الامتثال للقواعد”.. هنا يطرح التساؤل نفسه بصورة منطقية: هل أنا شخصياً كذلك؟ هل أصدقائي ومعارفي كذلك؟ ربما يطرح ذلك سؤالاً أكثر إلحاحاً يتعلق بالطريقة التى ننظر بها لبعضنا البعض. على أية حال، الجائحة لم تنته بعد، والطبيعة تؤكد أن الأزمات لن تختفي. لذلك، على الجميع أن يعيد حساباته فى نمط حياته اليومية، بدءًا من النُخَب و الخبراء والعلماء والصحفيين، وانتهاءً بكل فرد منّا.. علينا التفكير في الصورة الذهنية التي يختزنها إدراكنا عن “البشرية” والبدء في مُراكمة الثقة فى بعضنا البعض والتشبث بطوقي النجاة، وهما: “التضامن والإبداع”.

الهوامش:
homo oeconomicus (1) : مصطلح مالي يستخدمه بعض الاقتصاديين لوصف الإنسان العقلاني.

المصدر: موقع دى فيلت/ Die Welt (الألماني)
رابط المقال :
https://www.welt.de/kultur/plus226004865/Corona-Regeln-Der-Modellmensch.html

العدد الأخير العدد الرابع والعشرين بعد المائة ترجمات ثقافة وفكر

عن الكاتب

شيرين ماهر