علمت أن الشاعر الكبير صلاح جاهين لم يمت، وأن مؤامرة لم تستكمل بعد. وحيث كنت واحدًا من المريدين والعارفين مقامه أن ذهبت لمقابلته ذات مساء لمحبته، ومن ثم التماس الطريق.
حينها استقبلني في حفاوة بالغة، وبكرم منه وافق على السير معه، هكذا بغير مقدمات ليدور نقاش مطوّل بيننا.
يا مولانا: قتلتني عشرات المرات، فهلا أخبرتني بسر الوصال؟
صلاح جاهين: لتكن بداية الطريق أن نخطو السبيل إلى الليلة الكبيرة، نسير وندور من أجل سبيلها.
أومأت بالموافقة في سعادة بالغة.
استعداد أخير
صلاح جاهين: ما سر قدومك؟
قلت: يا سيدي إن الكلمات وأصحابها ليسوا بغرائب عني، كثرة تحمل النظرات المتلونة والملامح غير البريئة، إلا أن البعض برىء وعظيم، والبعض الآخر ظلمته الظروف وأفاعيل القدر.
قال لي: لعلك خبرت الليلة الكبيرة جيدًا.
ضحكنا معًا وسرنا تحت القمر.
نحو السماء العالية
أفزعني أن مريبًا يحمل العلم، قلبه مغاير للرفاق يا مولانا، إنها الخديعة المخيفة المفجعة التي تحدث في هذا المقام الطاهر المبارك ورغم هتاف الجماهير والتفافها، فكيف يخون قداسة العلم؟
قال لي: هذا السر يدركه ناجي شاكر صانع عرائس الليلة الكبيرة، هو فنان ويعلم أبعاد النص غير المكتوب.
ثم صمت.
عذرًا.. للبائع الواضح
دمرنا وجود شخص بلا دور ولا لون ولا داعٍ، إذ الخشبة لا تحتمل الأدعياء.
فقلت لعمنا: كيف انحشر بائع الحمص في غير الغرض؟
قال لي: لكن الضحك في نهاية المشهد يفضح الغرض.
هكذا تدارك لذهني دواعي اكتمال اللوحة.
في سبيل الديمقراطية
مهابة يحملها الكبير وهو العمدة ذو المهام الجليلة، إذ في وقع كلماته وتصرفاته نبراس للجماهير.
مولانا: لماذا يسأل العمدة بجلالة قدره ذاك الأراجوز ولا يسأل غيره؟
قال: لأنها حقيقة العمة المائلة كما قال له الأطفال.
قلت: نعم نعم.. يصدق الأطفال كما المجانين.
لكن، لماذا لم يرد العمدة على استهزاء الأطفال؟
صلاح جاهين: إن غروره لا يجعله يثق في أحد، أو يوقفه أحد، أو يهتم بصراخ الصغار.
قلت: …………………
بلا جدوى
وجدنا بائعًا مجهولاً يقول بصراخ هستيري: “فتح عينك تأكل ملبن”، كانت كلماته مدوية، لكن لم يقدم علي الملبن أحد.
قلت: لماذا بائع آخر يقتحم المسرح ليبيع الــ”طراطير وطراطير”، ويكررها بلا جدوى بعد ضياع الملبن.
قال وهو حزين للغاية: إن ذاك الأمر حيّره هو أيضًا رغم أنه نادى في سبيله كثيرًا لكن بلا صدى.
محاكمة افتراضية
رجلك المهرج قالها أمام بوابة السيرك.
صلاح جاهين: لكنه المهرج.
قلت: إنه يعبّر عما يجول في خاطرنا نحن أهل السيرك ورواده.
حزن بشدة، وصمت.
من أجل العمارة
(اوعد يا رب اوعد) اهتزت خشبة المسرح لنداء المساكين، لكن لم يحدث شيء كالعادة.
لذا يا مولانا فقد التقيت بالسيد مسعد المسكين أحد أبطال عرضك، إذ خرج من التلفاز وشكا لي عدم قدرته الاستمتاع بالحياة وكأنها محرمة عليه رغم توسلاته للسماء بالدعاء منذ زمن.
قال لي: نحن نشرب المُرّ من أجله، ولابد أن نقول، إن إرادة الله ستغلب تصاريف البشر، وتنتصر.
قلت: ما الدليل؟
قال: إنه الأمل.
توجست خيفة من دقات قلب الوقت القاتلة.
صاحب المقهى
رفض أصحاب المقاهي منح الأسطى عمارة وصديقه مسعد كرسي مجاني لأجل المشاهدة والتعلم.
أليس أمرًا قاسيًا يا مولانا؟
قال: هكذا أصحاب المقاهي لا يدركون أن لعمارة ومسعد أدنى مشاعر.
قلت: لكنهم لم يفهموا الرسالة.
قال: نعم، إن جمع المال أذهب عنهم حسن الخلق.
قلت: والوطنية أيضًا.
ابتسم وشكرني مجددًا.
صناعة
مولانا دعني أخبرك بسر كان قد أخبرني به بطلك عمارة، إذ التقيته خلسة بعيدًا عن خشبة المسرح.
حينها سألت عمارة عن سبب أكذوبته في أوبريت الليلة الكبيرة وادعائه قوة الجسد وقدرة ضرب المدفع.
قال لي عمارة: كنت مجبرًا على الكذب لأني لا أملك غيره.
صلاح جاهين: صدق، وهو مجبر على أشياء أخرى يندى لها الجبين وتجعله موصومًا للأبد.
قلت: ضحية وصانع ضحايا، أدائرة هي لن تنتهي؟
رفض مولاي أن يقول “للأسف الشديد” كما تجاهل التعليق.
الأخوة والقرابة
لقاء رائع يجمع أقارب اللغة والدم على اختلاف ألوانهم وأشكالهم.
قال لي: هل لحظت السبب الذى جمعهم معًا؟
قلت: يا مولانا أنت الآن الذى تسألني على عكس المفترض.
قال لي: لأننا اقتربنا من النهاية.
قلت: لماذا كان اقتراب الخاتمة هكذا بكاء وعويلا.
ابتسامة صفراء بدت لعمنا صلاح جاهين ونظرة عين غائرة، لا أعلم هي اتهام بالغباء أم ماذا؟، ثم قال: أتمنى ألا يحدث ذلك مجددًا.
قلت: لماذا لا تجعله رجاء؟
قال: أنت تعلمت الكثير الآن.
قلت: لماذا اختفت المؤثرات الموسيقية في هذه اللحظة؟
قال لي: إن النهاية لا تحتاج لتجميل أو إخفاء أو تظليل، إنها نهاية، نتلقاها فجأة ودون مسرة.
ختام العرض دون محقق
اهتز ابني على يدي، حيث فزعت مجددًا في نهاية الليلة الكبيرة.
سألت العم صلاح جاهين عن مصير الطفلة التائهة.
قال: لكي تدرك ذلك لابد أن تعلم، لماذا تاهت؟
قلت له: هذا الكلام مخيف يا سيدي!
قال: لكن عرض الليلة الكبيرة ما زال سنوات بلا جدوى.
همست في نفسي عن شعور الاعتياد الذي يطمس الألوان والكلمات.
من أجل اللقاء
بعد إسدال الستار.
سألته: هل سنلتقي مجددًا؟
صلاح جاهين: يسعدني عندما تبحث عني وعنهم.
شكرته كثيرًا، ثم حمدت الله على الوقت الذى منحني إياه مع عظيم مثل مولانا صاحب المقام الطاهر، خصوصًا أن تقابلنا ولم نختلف الخلاف المر ولو لمرة واحدة، هذا لأن كلينا ينشد سبيل الليلة الكبيرة في إخلاص وتجرد.