الحكاية الشعبية منطلق الرواية نحو مسرح الأحداث وأسرارها

كتب بواسطة سريعة سليم حديد

رواية وردَّدت الجبال الصدى: خالد الحسيني


من وهج سحر الحكاية الشعبية ينطلق الروائي خالد الحسيني في روايته التي بعنوان: وردَّدت الجبال الصدى؛ ليبسط أمام المتلقي حكمة الحكاية وسحرها وعمق أثرها الذي يترك في النفس رعشة غريبة مسيطرة. عرضها الكاتب بطريقة شيِّقة، من لوعة أب على طفله، وقد وقف أمام خيار صعب، فتجاوزه بقهر تحت ضغط الظروف، وقسوة ألم الفراق.
المكان: قرية (ميدان سابز) قرية سهليَّة تحيط بها الجبال الوعرة من كل الجهات. والزمان: زمان حكاية قديمة مغلَّفة بالتخيُّل، تناقلها الناس عبر أجيال وأجيال، والمسرح: مسرح حياة بائسة، حيث أبناء القرية الذين عجنهم الفقر وخبزهم على وهج القحط والحرمان.
يجلس الأب (صبور) يحكي لولديه: (باري) و(عبد الله). حكاية عن (غيلان الديف)، و(بابا أيوب) وعائلته التي تتألَّف من خمسة أولاد.
لقد تعلَّق قلب (بابا أيوب) بأصغر أولاده (قيس) الطفل الذي كان يمشي ليلاً في نومه، ومخافة ألا يتوه بعيداً عن البيت، أو يخطفه وحش ما.. علَّق له الأب جرساً في عنقه.
تتابع الحكاية عرض رعب أبناء القرية من خبر تناقلوه عن (غيلان الديف) فإذا دخل القرية، ونقر على أحد سقوف بيوتها، فهذا يعني أن على صاحب البيت تقديم أحد أطفاله له، وبالتالي يكون قد قدَّمه للموت، وإذا لم يفعل هذا قبل بزوغ الفجر، فلن يقبل (الديف) إلا بأن يأخذ كل أطفاله.
لقد وقع الخيار على منزل (بابا أيوب) وجُنَّ جنون العائلة. فعمد (بابا أيوب) إلى كتابة أسماء أطفاله الخمسة على قطع من الحجارة، ووضعها في (شوال) وقال لزوجته: عليها أن تختار واحداً. فامتنعت الزوجة عن الاختيار، فليس بمقدورها رمي أي واحد من أطفالها (للديف).
يبرع الكاتب في تتابع سرد الأحداث، حين يمدُّ الأب يده إلى (الشوال) ويلتقط حجراً، وقد كان مكتوباً عليه اسم (قيس). بكت العائلة بحرقة، وبكى الصبي بشدَّة، عندما وضعه والده في الخارج، وأغلق الباب، وقد تركه (للديف) وهو ما يزال يبكي ويضرب الباب بقبضتيه.
يدخل الكاتب في أعماق شخصية الأب بيسر كاشفاً عن آلامها وسط سيرورة الأحداث وبلاغة الصور. الأب الذي راح يشعر بجبنه لأنه رمى بطفله المدلل إلى (الديف)، فقرَّر أن يلحق به إلى الجبل البعيد إلى القلعة التي يسكنها (الديف)، ولا بدَّ له من أن يسلك طريقاً مليئاً بالمخاطر حتى يصل إلى هناك.
جمالية الحكاية تبدأ حين يصل الأب إلى باب القلعة ويقف أمام (الديف)، وقد هدَّده الأب بالموت، فسخر منه (الديف) ودعاه للدخول ليرى ولده.
تكشف الحكاية عن سرِّها حين يرى الأب طفله يلعب مع العديد من الأطفال الآخرين، وهو في مكان جميل آمن فيه طعام وشراب ومتعة. فيضعه (الديف) تحت اختبار ثانٍ: فإن أراد أن يأخذ ابنه فعليه أن يحرمه من كل هذا النعيم، وإن تركه فسوف يعيش عيشة هانئة.
يضطر الأب المكسور القلب إلى ترك طفله حيث هو، فتكون الحكمة التي لجمت لسانه عن النطق بما حدث، هي أن (الديف) أعطاه قارورة ليشرب منها كلما سار، وما إن وصل قريته حتى نسي كل ما حدث معه.
تنتهي الحكاية لتبدأ حكاية (صبور) مع ولديه: عبد الله وباري: الطفلين المتحابين. فقد بيَّن الكاتب حالة تعلُّق الأطفال بآبائهم، وخاصة إذا أراد الأب أن يذهب إلى مكان ما، فيعمد الطفل إلى البكاء والركض خلفه.
وها هو الأب (صبور) يزجر عبدالله، ويصفعه، بل ويؤدي به الأمر إلى رميه بالحجارة، ومع ذلك لم ينثن الطفل عن فكرته في اللحاق به، فيذعن إليه الأب ويأخذه، وقد كانت معه (باري) تجلس في عربة أطفال، وهي تحاول مدَّ يديها إلى أخيها، وتترجى والدها أن يأخذه معهما.
لكن الأب ترك الصبي يمشي بمحاذاة العربة فترة طويلة، حتى استبدَّ به التعب، فسمح له بركوبها إلى جانب (باري).
راح الصبي يتذكَّر أمه التي توفيت، بعدما أنجبت باري، وقد تزوَّج والده بامرأة تدعى (بروانة) وتذكَّر كيف كان يجمع الأرياش الملوَّنة في علبة صدئة، ويقدِّمها إلى أخته (باري)، نقتطف:
“مشى عبد الله إلى تلك القرية الأخرى، وعثر على الصبي، وطلب منه ريشة من الطائر. أعقب ذلك مفاوضات، في نهايتها وافق عبدالله على أن يقايض الريشة بحذائه. ولدى عودته إلى قريته (شدياغ) وريشة الطاووس مدسوسة في خصر (بنطلونه) أسفل قميصه، كان عقباه، قد انفلقا، وصارا يلطِّخان الأرض بالدماء” ص35
وهنا تظهر حساسية الحالة النفسية التي رصدها الكاتب، حيث يلتقط شذرات الحب والفرح من وراء تلك الحادثة، نتابع ما قاله: في ص 36
“ولكن، عندما جثا إلى جانب باري، وهزَّها بلطف ليوقظها من قيلولتها، أخرج الريشة من خلف ظهره مثل ساحر. وجد أن الأمر يستحق، يستحق لوجهها الذي انبسط دهشة في البداية ثم فرحة، وكيف غمرت خديه بالقبلات، وكيف قهقهت، وهو يدغدغ ذقنها بطرف الريشة الناعم. وفجأة اختفى من قدميه كل ألم.”
إن الحكاية التي سردها الأب لطفليه (حكاية الأب أيوب) ما هي إلا تبرير لموقف سيقوم به لاحقاً تجاههما، تبريراً للقهر وصعوبة الاختيار التي يخضع لها الأب الآن.
عندما تصل العربة إلى كابول، ستكون المفاجأة التي لم يستطع عبد الله أن يفكَّ شيفرتها إلا لاحقاً.
المفاجأة هي أن يفقد أخته (باري)، ويعودا دونها إلى القرية وأين وكيف؟ هذا ما ستكشفه الأحداث القادمة.
يتميَّز الكاتب بمهارته في رصد معالم الطفولة بما تحمل من عفوية وهواجس وجمال، وهذا الأمر كان واضحاً أيضاً في روايته: عدَّاء الطائرة الورقيَّة. حيث يكون البطل طفلاً أيضاً. هنا يتلوّىَ الطفل عبد الله حرقة على غياب أخته (باري)، فيقرِّر هجر البيت دون عودة.
تبدو ظاهرة اختيار العناوين مجرَّد ذكر للتواريخ فقط ومنهجاً اعتمده الكاتب في التنقُّل بين مفاصل أحداث الرواية، هذا مما يميِّزها عما كتب من روايات سابقة. مثل عدَّاء الطائرة الورقيَّة، ورواية ألف شمس مشرقة، وقد أبدى رأيه في كتابة القصة بشكل غير مباشر وبتشبيه متمكِّن في مكانه الذي يخدم موطن الحدث، نقتطف:
“لقد فكَّرت طويلاً كيف أبدأ هذه القصة، لم تكن بالمهمَّة اليسيرة على رجل قد تخطَّى العقد السابع من العمر.. وأفترض أنني أستطيع أن أبدأ من هناك أو من أي نقطة أخرى. فالقصَّة مثل قطار متحرِّك، أياً كان المكان الذي ستركب منه، فإنك ستصل إلى وجهتك عاجلاً أم أجلاً..”ص104
تتصدَّر كابول مركز الأحداث فهي المكان الذي من الواضح أن الكاتب لا يمكن له تجاهله، وإن دلَّ هذا على شيء، فقد يدلُّ على ولعه بها، فهو يتغنَّى بجمال شوارعها وقصورها، ويستمتع جدَّاً بذكر تفاصيلها من أسواق وبضائع ومبان، وشوارع، وألوان، وروائح. هذا النفس الصاعد الهابط يتكرَّر في كل رواية يكتبها (الحسيني) معتمداً على حبِّه وإعجابه وعينه التي لا يمكن أن تغفل عن ذلك الجمال الباهر.
كابول المكان الذي سحر (معصومة) أخت (بروانة) زوجة (صبور) وأخت (نبي) الشاب الذي كان يعمل سائقاً عند أسرة آل وحدتي الغنية.
ضمن التفاصيل الصغيرة يغرز الكاتب أحداثاً مشوِّقة تجعل المتلقي يتابع القراءة بمتعة وشغف. لماذا أخذ (صبور) ابنته باري إلى بيت آل وحدتي؟ ولماذا ندم (نبي) على اقتراحه ذلك؟ ولماذا سافرت نيلا إلى باريس؟ كل تلك الأسئلة وغيرها كانت أجوبتها تنساق بسلاسة ضمن أحداث الرواية.
(نبي) هو صاحب الفكرة التي جعلته في نظر (صبور) وابنه عبد الله رجلاً غير مستحب لهما، لأنه اقترح على (نيلا) زوجة سليمان صاحب بيت آل وحدتي الجميل أن يتبنيا (باري) لأنهما لم ينجبا أطفالاً.
والأن هو يخدم سليمان المريض لأن زوجة سليمان (نيلا) قد تركته وأخذت (باري) إلى باريس. وقد تفتَّقت الأحداث عن حب دفين كانت تكنُّه (نيلا) لنبي دون أن يتيقَّن منه.
تتجلى البراعة في السرد حين يلجأ الكاتب إلى عرض الشخصيَّة فيدبُّ فيها الحياة ويجعلها مؤثِّرة فاعلة تتحرَّك بأسلوب مشوِّق، ومن ثم يميتها لينشئ شخصيَّة أخرى تتابع الأحداث من جديد مضيفاً إليها مهمَّات جديدة تضفي على الرواية رونقاً من نوع آخر، فيلجأ الكاتب أيضاً إلى إزالتها من الأحداث عن طريق الموت ليبدأ من جديد بإظهار شخصيَّة أخرى. هذا بالإضافة إلى اللعب في تواريخ الأحداث التي يجعلها السلَّم المتين في تصاعدها نحو الهدف المرجو. وهذا ما لاحظناه في شخصية صبور ونيلا وسليمان..
وكما نوَّهنا سابقاً إلى براعة الكاتب حين يدخل معالم الطفولة ويتحدَّث عن (باري) الطفلة ابنة عبد الله هذا الطفل الذي أصبح رجلاً، وتزوَّج فأنجب طفلة وحيدة أسماها (باري) على اسم أخته التي فقدها في أفغانستان، وهو صغير.
والأجمل من هذا، طريقة الأب عبد الله في انتشال الأحلام المزعجة من رأس ابنته الطفلة (باري)، هذه الطريقة قد مارستها (باري) عندما دخل والدها دار الرعاية، نقتطف:
“انحنيت، وأدَّيت طقس الوداع المعتاد، وأنا أمسح بأناملي على خدِّه صعوداً إلى جبينه المجعَّد وصدغيه وعلى شعره الرمادي.. منتشلة كل الأحلام السيئة من رأسه. فتحت الكيس الخفي لأجله، ورميت فيه الكوابيس، وسحبت رباط الكيس بإحكام.” ص532
إرث واحد تركه عبد الله لأخته، حين بدأت (باري) الابنة بجمع الأشياء الخاصة بأبيها وأمها للتبرُّع بها إلى جهات معينة، عندها وجدت علبة صدئة أعطتها لعمتها (باري)، وقد كان فيها مجموعة من الأرياش الملوَّنة، وأجمل ريشة كانت ريشة الطاووس التي تشبه العين.
تنساق الترجمة إلى إبراز الأحداث في كثير من المواقف بطريقة مثيرة رائعة وخاصة في بداية الرواية مظهرة تأجج العوالم النفسية بشكل مدهش، لكن هذا الأوار يضعف رويداً رويداً نتيجة خبو وهج الرواية وخاصة في القسم الذي يتناول فيه الكاتب الحديث عن تفاصيل حياة الطبيب ماركوس دون أي ارتباط مؤثِّر بجسد الرواية.
من الملاحظ على غلاف الرواية أن مقاطع الكلمات التي كُتبت عليه قد كشفت سرَّها، مما أفقدتها بريقها، هذا الشيء الذي جاهد الكاتب كثيراً كي يضمن متابعة المتلقي له. وهذا ما نجده على العديد من أغلفة الروايات.

الرواية: وردَّدت الجبال الصدى.
المؤلِّف: خالد حسيني.
الترجمة: إيهاب عبد الحميد.
دار النشر: دار بلوموزيري

أدب العدد الأخير العدد الرابع والعشرين بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

سريعة سليم حديد