هناك وراء البدر

كتب بواسطة محمد الجداوي

عرفت مروان قبل سنة واحدة، وأول مرّة رأيته كانت عندما صادفت شابا يرتاض في شارع النخيل في ساعة متأخرة من الليل، يسير دقيقة ويقف أخرى، كأنما تترامى إليه أفكار كثيرة، فيلزمه أن يعيد نظامها في كل حين. كانت الرياح تهب هبوبا خفيفا، وتحمل شذى ليلًا باردًا في غاية الطيب، كأنها تهب بأرواح الأشجار. ألحّ علي خاطرٌ أن أمد إليه يدًا فنتصافح ونتعارف. ولقد راقني هذا الشاب لمّا حادثته، وسرعان ما أسررتُ في نفسي أنني أرغبه صديقًا.
ومكثت أتعمّل الصُدَف في الشارع نفسه مرارًا وفي أوقات مشابهة، قاصدا لقاءه لا غير، حتى سقطت الكُلفة بيننا، وتوثّقت معاقد الصداقة. كان لطيف المعشر، رصينًا في ألفاظه، يتكلّم فتلوح في نظراته معانٍ كالبحر زُرقةً واتساعا، وله حاجبان مقوّسان مرتفعان كما لو كانا منبهرين أبدًا، وفي صوته نبرةٌ تشبه المقطوعات الحزينة تظهر أكثر ما تظهر، حينما يحكي عن المستقبل. كان يقول:
-لي آمالٌ كبيرة أعرف أنني لن أحقق أكثرها، ومن أجل ذلك فإن ما أطمح إليه في حياتي هو ما يطمح إليه كل إنسان. عملٌ بسيط، وزوجةٌ طيبة، وبيتٌ دافئ، وأبناء. هي حياةٌ متواضعة مكررة عاشها ويعيشها أممٌ من الناس، ورغم ذلك فما أجملها!
ذات ليلة وقد ابتعدنا عن شارعنا ذاك، وجدنا لنفسينا موضعًا على الشاطئ حيث لا نسمع إلا ترادف الأمواج. كان البدر قد رسم مَعْبرًا فضيًّا متلألِئًا يرتعش على سطح البحر، بدا أنه يقود إلى حيث يخلق الليل الأحلام ويدفعها طافية إلى المنامات. ولأن صداقتنا هي في مقياس الزمن قصيرة، فقد كان لدينا المزيد لنحكيه ونتشارك به تجاربنا عن تلك المغامرة المتقلّبة التي تُدعى الحياة.
وبعدما تحادثنا بما يتحادث به المتسامرون حينما يكونون تحت الأقمار وأسفل النجوم، سألته عن أمرٍ كان قد أشغل نفسي مدّة، فقد علمت أن مروان يقوم بأهله، وينهض بحوائجهم، فيروح أكثر ماله على ذلك، والذي –حسب ما جمعته من فلتات حديثه- لم يكن بذاك الذي يسد ما يرنو إليه من آمالٍ في حياته.
قلت بشيء من الجرأة وقد غرّني مزاج الليل السحري الغامض الذي يوحي إلى المتسامرين أنهم في لحظةٍ من تلك اللحظات المتحررة من القيود والاعتبارات، حيث يقدر المرء أن يقول أي شيء مرتاحًا، كأنه في زمنٍ خاصٍ منفصل عن زمن الناس والعالم، فما سيقوله سيبقى رهين هذا الزمن، وما إن تطلع الشمس حتى يتبدد الكلام كالحلم.
قلت: إن للأهل حق وإنك لعظيم النفس، ولكنك يا صديقي لن تتزوج زوجة طيبة ولن يكون لك بيت، إن ظلت يد أهلك أسرع إلى جيبك منك.
وأذكر أنني قلت أيضا: ها أنت تكد في عملك منذ خمس سنوات، وما ادخرت شيئا بعد. يا للخسارة! ويا للعمر الضائع!
ولأول مرّة منذ أن عرفت مروان، اضطربت نفسه اضطرابا كبيرا، بأن أثره على ملامحه وحركاته، وقد بدا لي كأن في صدره أحجارا متراكمة، كان مستريحا إذ تناسى أمرها ساعة جلوسنا، حتى أعدت إليه ذكراها.
تنفّس عميقا، ثم تنهّد مرسلا إلى الأمواج أشجان ذات نفسه. وارتخى حاجباه المنبهران كثيرا حتى باتا راقدين فوق جفنيه كأنهما متعبان. قال:
-إن شئتَ رويت لك قصة، لا أشك البتّة أنك تعرف بعدها كيف أنني إنسان ميت، ولكنه يتكلّف الحياة، فيتحرك حتى يحاكي الأحياء.
قال: عشتُ وستّة من إخوتي، في بيت منكفئ صغير كان والدانا يدبّران فيه شؤون حياتنا، فتمر أعوام نشأتنا لا ينقصها شيء من ضرورات الحياة. على أننا لم نكن في سعة من العيش. كنا نتوارث الثياب تباعًا، فيرتدي الصغير ما ارتداه أخوه الكبير، حتى يبلى ولا يعود يقبل الارتداء. وربّما قصر ثوب أحدنا، فتفـتق أمنا طيّاته السفلى حتى يصير أطول، وتبقى هناك خيوطٌ متدلّية من الجانب المفتوق تتأرجح، ويلاحظها أقراننا من الأطفال، فيضحكون منّا لرثاثة مظهرنا.
تلك الخيوط كانت عندهم تدل على فقرنا، أمّا عندي فهي دليلُ حنان أمنا. كان بيتنا لا يجد أجود الطعام، ولكننا كنا نقوم من سماطنا مُكتفين متنعّمين، وكنا لا نجد ما يجده الآخرون من رفاه، ولكن في بيتنا كان الصغار والكبار يضحكون، وفي الأيام اللطيفة عندما تجيء النسمات حاملةً الحبور إلى الناس، فيخرجون في رحلات إلى أماكن بعيدة لا نستطيعها، كنا نجدنا ملتئمين تحت ظل شجرةٍ وارفة أمام البيت نبتسم كما يبتسم السعداء. ما يحكيه أبي من حكايات كان يخلب قلوبنا، وما تأتي به أمي من طعام، وتدعونا لنأكل في هواء الشجرة وحفيفها، كان أطيب ما ذقناه. ولقد عرفت أننا لسنا أغنياء، ولكني كنت لا أشعر أننا فقراء.
ثم تصرّمت السنوات، وتداعت صحّة أبي إذ تفاقم عنده مرض قديمٌ في الرئة، فخرج من عمله، وعاد منهكا يرهقه حتى الكلام. انقطع أبي عن قول الحكايات وأصبح ساكتا وعابس الوجه في أغلب أوقاته كأن الحياة قد فرغت منه أو ربما هو الذي فرغ من الحياة.
ورحنا نشعر بتبعات ذلك، فما إن أنهى أكبر إخوتي المدرسة حتى التحق بما اتفق له من عمل أتاحته شهادته. أمّا أخي الثاني، فلم يكن يطيق الدراسة، وتركها وعمل بالمياومة. كنت الثالث بين إخوتي، والوحيد الذي تهيّأت له الأسباب ليدرس ويتخرج في الجامعة. كان ذلك منذ خمس سنوات كما علِمت، ثم أخذت أدفع قسطا من رعاية البيت.
وفي يوم من تلك الأيام التي ينام الناس قبلها بقلوب ويستيقظون فيها بقلوب أخرى، بدأ أخواي الأولان يرفعان أيديهما عن البيت قليلا، ثم أصبحَا في شكوى وتذمّرٍ دائمين. وكان تذمرهما قد اشتدّ إلى أن انطبع على خلقهما الجفاء والبرود، كأنْ قد قر في نفسيهما أن الحياة ظلمتهما عندما كُلِّفا القيام بالبيت، ولا يمكن أن يستردّا حقهما منها إلا عنوة.
وكما ترى، فإن أول الأمر يدل على آخره. تزوّج أخي الأكبر، وابتنا له غرفةً منعزلة. ثم استلحقه الآخر وفعل فعله، وراحا يلتمّسا الأعذار حتى انسلخا من المسؤولية، وبقيت أنا أنهض بوالديّ، وأربعة إخوة صغار.
لمح مروان انفعالا قد علا وجهي، فقال:
ماذا تعني الأخلاق أو الشهامة أو المروءة حينما يشعر الإنسان أنه مظلوم من الحياة؟ أن تأخذ حقك من الحياة عنوة، يعني أن تلقي هذه المُثل وراء ظهرك من غير أن تكترث أو تشعر بمقدار ذرةٍ من ندم.
وخبا بريق نظراته، وكان أن تفادى النظر إلى كأنه ما عاد يدري ما يقول، فبقي صوت الأمواج يُزجي فراغ الصمت.
ثم أردف كأنما يناجي نفسه:
-ما أكبر حزني على أهلي! إن قلبي ليموت وهم في عوزٍ يقف دون مطلبٍ يطلبونه. وما أكبر حزني على نفسي! فإني بقدر ما بعثت فيها من الآمال، أتعذب الآن عذابا يتجدد مع الأيام. أنا إنسان ميت، ذلك لأن الإنسان الميت، هو الذي لا آمال له يحققها.
كان مروان يتمزق بين منازعة نفسه إلى آماله، ومنازعة مروءته إلى رعاية أهله. ففي حاله كان لا بد أن يختار واحدا ويغيب عنه آخر. ولم أجد عندي ما يشفي حزنه آنذاك، وساورني إحساس أنه لا يلوم أخويه، ولعله سأل نفسه مرارا إذا ما كان اختيارهما نفسيهما، اختيارهما حياتهما يجعلهما حقيران أم لا.
قلت ما يقوله معدوم الحيلة حينما يريد أن يهوّن المصائب العظام:
-مكَّنك الله الصبرَ يا أخي، فأنت شريفٌ وعظيمٌ من عظماء الإنسانية. وما عسى أن أقول في أخويك اللذين فضّلا حظ نفسيهما على أهلهما.
قال: -كوأين في الحياة يُكرّم الشرفاء؟ إنهم أولئك الذين لا ينالون حينما ينال بقية الناس. إنهم أولئك الذين يموتون وما تزال رغباتهم الأولى تلح في نفوسهم، لم يحققوها لأنهم شرفاء.
وظل مروان يعيد على تساؤله في إصرار، غير أني لذت بالصمت. حينئذ لَفَتنـا تجلّي البدر، وازدياد لمعان ذلك المعبر الفضي على سطح البحر. نهض مروان، وأنشأ ينظر إلى المعبر كأنما وجد فيه سحرًا، وخُيّل إليّ من فرط انبهاره أنني سأراه يسير فوق الماء المتلألئ قاطعا هذا الدرب الفضي ليجد هناك أسرار الحياة.
التفتَ إليَّ التفاتةً سريعة، ثم عاد يتابع امتداد المعبر إلى حيث ينتهي، حتى ترقّى ببصره إلى السماء.

أدب العدد الأخير العدد الرابع والعشرين بعد المائة

عن الكاتب

محمد الجداوي