هل تمثل “ظاهرة الـ”بي تي اس” (BTS)” انتقالا في مركزيات البوب العالمي نحو الأطراف؟في الشروط الفنية والرقمية لثورة البوب الكوري (K-Pop) خلال عصر الأنفوسفير

كتب بواسطة محمد الإدريسي

منذ “الـديف كلارك فايف” (The Dave Clark Five)، “البيتلز” (The Beatles)، “الجاكسون فايف” (The Jackson Five)، “السبايس غولز” (The Spice Girls)، وصولا إلى الـ”وان دركشن” (One Direction)… ارتبط تاريخ البوب (وحتى موسيقا الروك (Rock Music) والهيب هوب (Hip Hop Music) والكانتري (Country Music))، خلال القرن الماضي، بدول الشمال (السويد، بريطانيا وأمريكا) حيث سطع نجم “أساطير” هذا الجنس الموسيقي وتركزت شركات الإنتاج وكذلك القاعدة الكبرى من الجمهور والمتتبعين (خاصة بالسياق الأنجلوساكسوني)، بالشكل الذي أضحت معه موسيقا البوب والروك العالمية تقترن في البنيات الذهنية بالبيض وترمز إلى المركزية الغربية. لكن خلال العشرية الأخيرة، وبفضل تحولات العصر الرقمي، أصبحنا نعيش انتقالا حقيقيا في المركزيات الفنية والموسيقية من دول الشمال نحو الأطراف، خاصة منطقة الكاريبي وكوريا الجنوبية، تحت قيادة أنماط موسيقية جديدة على رأسها “التراب” (Trap)، “الريغيتون” (Reggaeton) و”البوب اللاتيني” (Latin Pop)، بالإضافة إلى “البوب الكوري” (K-Pop)، ومجموعات موسيقية شبابية بألوان الهامش والاختلاف (BTS, Black Pink, CNCO). فما هي أهم مراحل تطور البوب الكوري خلال العقد الأخير؟ وأي دور لتحولات عصر الأنفوسفير والاقتصاد الرقمي للموسيقا في صناعة ظواهر موسيقية شبابية مثل “البي تي اس والبلاكبينك”؟ وإلى أي حد يسهم انتقال المركزيات الفنية والموسيقية نحو الأطراف في كونية موسيقا البوب وتقويض الشروط التاريخية للهيمنة الفنية الغربية؟
بالرغم من أن الجذور التاريخية لموسيقا البوب الكوري تعود إلى تحولات سياق ما بعد الحرب العالمية الثانية والحرب الكورية خلال خمسينيات وستينيات القرن الماضي، وهي الفترة نفسها التي تطورت فيها موسيقا البوب والروك بأوروبا وأمريكا عموما، إلا أن لحظة الاشعاع الحقيقي ستقترن ببدايات العشرية الثانية من القرن الحادي والعشرين بفضل الإمكانات الجديدة التي أتاحها الانفوسفير وتحولات العصر الرقمي للموسيقا. وصحيح أن التقاطعات الموسيقية والفنية التي حدثت بين الثقافة الغربية والأسيوية، منذ الحرب الكورية وصولا إلى حركة العولمة الثقافية، قد عملت على توطين موسيقا البوب محليا بوصفها منتوجا “غربيا”، بالضرورة، قائما على المزج بين أنماط موسيقية مختلفة، مركزية اللغة الإنجليزية ومعالجة القضايا العاطفية والاجتماعية بشكل رئيس، لكن الاستثمار في اللغة والثقافة الموسيقية الكورية والتركيز على المجموعات الموسيقية، منذ تسعينيات القرن الفارط، ربط البوب الكوري بالأعمال السينمائية والتلفزيونية، الانفتاح على دول العالم الثالث -بشكل أساس- واحتضان الموسيقى الشبابية، سيكسب البوب الكوري هوية خاصة ستنافس بعد سنوات البوب الغربي وتجعلنا نعيد تفكير العلاقة بين المحلي والكوني في إنتاج واستهلاك المحتوى الموسيقي خلال العصر الرقمي. نتيجة لذلك، وبالإضافة إلى الرهان على الخصوصيات الثقافية، النجومية المراهقة والتمازج الموسيقي العابر للحدود الفنية الضيقة، يبقى لثورة الذكاء الاصطناعي وتشكل الاقتصاد الرقمي للموسيقا الإسهام البالغ في تطور “موسيقا الهامش” والإعلان عن أفول المركزية الغربية لصالح الأطراف.
يمكن التمييز بين مرحلتين اثنتين ضمن مسار تطور البوب الكوري خلال القرن الحالي. أولا، مرحلة ما قبل 2012. ثانيا، مرحلة ما بعد 2012. في المرحلة الأولى، انحصر نطاق الموسيقى الكورية لسنوات في القارة الأسيوية وبعض المجتمعات الثالثية (بما فيها البلدان العربية) واقترن أساسا بالدراما الكورية التي ظلت تنافس نظيرتها اللاتينية في نقل الثقافة والفن والموسيقا المحلية نحو المجتمعات المستهدفة. بطبيعة الحال، ومنذ تسعينيات القرن الماضي، كنا أمام اقتصاد محلي للموسيقا قائم الذات تدعمه العديد من المؤسسات الموسيقية المحلية التي راهنت على المراهقين والمجموعات الشبابية لرفع رقم معاملات الصناعات الموسيقية الإقليمية والبحث عن موقع قدم ضمن اقتصاد الموسيقا العالمية. وبالفعل، ستنجح العديد من الأصوات والمجموعات الشبابية (“وندر غيرلز” (Wonder Girls)، “البيغ بانغ” (BigBang)، ” 2إن إي1″ (2NE1)…) في ولوج قوائم “البيلبورد” (U.S. Billboard) منذ نهاية العشرية الأولى من القرن الحالي ولفت انتباه المنتجين، شركات الإنتاج والجمهور الغربي. مع ذلك، ظل النظر إلى البوب الكوري على أنه محاكاة للبوب الغربي أو على الأقل امتدادًا له، خاصة في ظل غياب “تصور” خاص ومميز لهذا النمط الموسيقي قادر على المنافسة والتأثير الكوني. كان علينا انتظار سنة 2012 لنتحدث عن مرحلة جديدة أو ميلاد جديد لموسيقا البوب الكوري بعد النجاح والتأثير العالمي الذي أعقب إطلاق أغنية “غانغام ستايل” (Gangnam Style) للمغني الكوري “ساي” (Psy). يتعلق الأمر بمغنى ينتمي إلى الجيل الثاني من المغنين الكوريين، إلا أنه كان السبب الرئيس في ثورة الموسيقا الشبابية الكورية بفعل امتلاكه لـ”تصور موسيقي” جديد سيدفع بالبوب الكوري نحو “الكونية”. يمكن إدراج الـ”غانغام ستايل” ضمن خانة الأغاني ذات النجاح الفوري فقط (The one hit wonder)، لكن لا يجب أن نغفل فكرة كونها قد فتحت المجال أمام تصور جديد للنجومية والشهرة انطلاقا من إمكانات موقع يوتوب وبعض منصات الستريمنج الموسيقي (Music Streaming) (Spotify, Deezer, Apple Music…) [الانتقال من ثقافة الموسيقا الاستهلاكية نحو الستريمنج الموسيقي]. من خلال المزج بين الخصوصيات الثقافية واللغوية الكورية، الإيقاعات الغربية والشبابية، التصوير والألوان السينمائية… بلغة أخرى ما يريده المتلقي كمستهلك للمحتوى الموسيقي، استطاعت الأغنية أن تحصد أزيد من 200 مليون مشاهدة خلال أسبوعين، ومليار مشاهدة في أقل من خمسة أشهر كأعلى مقطع مشاهدة خلال تلك الأيام، وترسم الطريق ضمن مسار انتقال المركزيات الفنية نحو الأطراف، بالشكل الذي يمكن معه مقارنتها بأغنية “ديسباسيتو” (despacito)، للمغنيان البورتوريكيان “لويس فونسي” (Luis Fonsi) و”دادي يانكي” (Daddy Yankee) التي مهدت هي الأخرى الطريق لميلاد ثورة البوب الكاريبي واللاتيني سنة 2017؛ كامتداد بطبيعة الحال لحركة التراب والريغيتون الشبابية (El Nueva Religión).
قدمت الـ”غانغام ستايل” تصورا جديد للبوب الهامشي الذي يستثمر في الخصوصيات المحلية أفقا للكونية وفتحت الباب أمام مفهوم جديد للنجومية المراهقة القائم على “ثقافة الكلاوت” (The Clout Culture) (يتجاوز التصور الكلاسيكي لصناعة النجوم الذي تحدث عنه إدغار موران خلال خمسينات القرن الماضي) حيث تصبح الموسيقا سلعة مرتبطة ب”نماذج وهمية للنجاح” وخاضعة لقوانين السوق، البوز واللعب على اللاشعور الجمعي للشباب. بالإضافة إلى ذلك، قطعت الباب أمام مخاوف صناع المحتوى الموسيقي من خطر القرصنة وتراجع قطاعات التسجيلات المادية من خلال فتح عيون المنتجين والفنانين أمام الإمكانات الجديدة للاقتصاد الرقمي للموسيقا حيث منصات ومواقع الاستماع الموسيقا الرقمي صوت المستقبل.
لم يكن تأثير الـ”غانغام ستايل” على البوب الكوري مباشرا، بحيث تطلب الأمر أزيد من خمس سنوات كي نتحدث عن بدايات ثورة حقيقية لموسيقا المجموعات الشبابية الكورية مع “البي تي اس والبلاكبينك”. في الواقع، خضع التطور التاريخ لموسيقا الروك والبوب لمنطق الموازنة والتكامل بين الأداء الفردي وموسيقا المجموعات المختلفة، بالشكل الذي يضمن تشبيب الأنماط والتصورات الفنية من جهة، والانفتاح على شرائح اجتماعية وثقافية مختلفة من جهة أخرى. ونظرا للفراغ النسبي الذي عرفه بوب المجموعات خلال بديات القرن الحالي، فتح الاقتصاد الرقمي الجديد للموسيقا الباب أمام تطور البوب الشبابي وبوب المجموعات البريطاني مع مجموعة الـ”وان دركشن” (One Direction). أعادت هذه المجموعة تحديد المقومات الفنية والجمالية لموسيقا البوب وربط مركزيتها ببريطانيا، بالموازاة مع فتح أفق جديد للبوب الشبابي والمراهق القادر على استمالة أذواق المراهقين (خارج دائرة الهيب هوب)، باللعب على اللاشعور العاطفي والنفسي الجمعي، وتحقيق رقم معاملات عالي سيدفع صناع المحتوى الموسيقي نحو الاستثمار في هذا النمط الفني الشبابي بألوان موسيقية هجينة. لكن، ومع بدايات سنة 2016، سيأفل بريق المجموعة، نظرا لكون مقومات النجومية المراهقة تحدد عمرا افتراضيا للشهرة لا يتجاوز الخمس سنوات (أو سنتان اليوم مع ثقافة الكلاوت) لتعلن عن ميلاد فجر جديد لبوب الهامش منذ سنة 2017.
خلال سنة 2017، سيسهم حدثان اثنان في جعل السوق الكوري واحدا من أهم 10 أسواق لإنتاج واستهلاك الموسيقا العالمية. أولا، صدور أغنية “ديسباسيتو” التي ستقود انتقال المركزيات الموسيقية العالمية للبوب نحو أمريكيا اللاتينية ودول الأطراف. ثانيا، بريق صدى مجموعة “البي تي اس” عالميا وتحقيقها لرقم معاملات قياسي بالسوق الأمريكي والأوروبي. صحيح أن العائدات التي حققتها أغنية “شيب أوف يو” (Shape Of You) لمغني البوب البريطاني “إد شيران” (Ed Sheeran)، لوحدها، ما يزيد عن 26 مليون دولار سنة 2017، قد تبين أن البوب الأوروبي والأمريكي ما زال يعيش عقده الذهبي خلال عصر الاقتصاد الرقمي للموسيقا، إلا أن الشعبية التي أصبحت تحظى بها الموسيقى اللاتينية والكورية خلال السنوات الثلاث الأخيرة، انفتاح صناع الموسيقا والمنتجين على “نجوم الهامش” وهيمنتهم على قطاع الستريمنج، دليل قوي على أن الأمر لا يتعلق بانتقال في المركزيات الفنية والموسيقية فقط، وإنما في مركزيات الصناعات الموسيقية خلال العصر الرقمي تقوده أرقام وإحصاءات منصة يوتوب وسبوتيفاي، حيث تراجعت مركزية اللغة الإنجليزية لصالح الاسبانية والكورية في إطار “كونية الإبداع الموسيقي” العابر للحدوث الثقافية واللسنية.
يعود تأسيس فرقة “البي تي اس” إلى سنة 2013، من قبل شركة (Big Hit Entertainment)، وتضم سبعة أعضاء من ألوان موسيقية مختلفة (البوب، الهيب هوب والآر أند بي) توحدت لتقدم هوية المجموعة من خلال الاحتفاء بالخصوصية الثقافية والفنية الكورية والانفتاح على العالمية من جهة، التركيز على الايقاعات الحيوية، الرقص، الألوان الاستعارات والتخييل الموسيقي من ثانية، الخروج من دائرة الموسيقا العاطفية (المهيمنة على أزيد من ثلثي أغاني البوب خلال العقود الثلاثة الأخيرة) نحو ما يمكن أن نطلق عليه “البوب النفسي” (psychological Pop) الذي يطلق العنان للقلق، الخوف، التفكير في النهاية والمجهولية ومختلف المشاعر النفسية التي تهيمن على تفكير المراهقين والشباب في سياق “وجود يسير نحو الموت” [بلغة الفلسفة الوجودية] من ثالثة (نفس الأمر انخرطت فيه مغنية البوب الأمريكية “بيلي ايليش” (Billie Eilish) على سبيل المثال).
مع ذلك، لم يبدأ المسار الفعلي للمجموعة إلا سنة 2016، أي مباشرة بعد انفصال أعضاء مجموعة الـ”وان دركشن”، مستغلة الفراغ النسبي في بوب المجموعات والبوب الشبابي من جهة، والتنميط الفني والموسيقي [الألحان، الإيقاعات، الكلمات، القضايا والموضوعات] الذي يعرفه حقل الموسيقا عموما في السنوات الأخيرة من جهة أخرى. يدل هذا الأمر على أن امتلاك تصور جديد وقدرة على المنافسة العالمية من شأنه أن يضمن عمرا فنيا طويلا وخروجا من دائرة النجاح الفوري، وهو ما نجحت فيه المجموعة. للتذكير، فالأمر لا يتعلق هنا بالموهبة أو فكرة النجاح الفوري (الكلاوت)، كما هو عليه الحال في عالم الهيب هوب عموما (lil pump, 6ix9ine, lil nas x)، وإنما بصناعة رأسمالية للنجومية بكل ما تحمله الكلمة من معنى. تفرض شركات الإنتاج المحتضنة شروطا خاصة فيما يتعلق بالمظهر، الأناقة، التشبيب، الرشاقة، تجديد أعضاء الفرقة [عرف خاص في عالم البوب لتفادي موت المجموعة]، الكلمات والقضايا المعالجة، المزاوجة بين المسار الغنائي الجماعي والفردي، القرب من الجهور والمتتبعين (وحتى دعم وتوسيع القاعدة الجماهيرية لـ”The BTS A.R.M.Y”) الجولات الفنية والتعاونات الموسيقية المتعددة (intermusic featuring)… لأننا أمام مجموعة تحقق عشرات الملايين من الدولارات كعائدات سنوية من الإعلانات، التسجيلات الموسيقية المادية والرقمية والعروض الموسيقية الدولية. وعلى هذ الأساس، نشهد تطورا خطيا في رقم معاملات وموقع المجموعة في السوق الموسيقية الدولية بالشكل الذي جعلها تحطم العديد من الأرقام القياسية للعصر.
بالنسبة للاحتضان الرأسمالي، لا يجب أن نغفل دور وسائل التواصل الاجتماعي ومنصات الاستماع الموسيقي في التعريف بالمجموعة، والتي لما كان لها وجود بدونها، بتعبير أعضاء المجموعة أنفسهم. إن فكرة الفنان والموسيقي الذي يسكن في البرج العاجي وغير القريب من جمهوره ومتتبعين، باتت مصدر رئيس لقصر العمر الافتراضي للنجاح؛ وحتى القضايا والكلمات والإيقاعات الكلاسيكية لم تعد تحقق النجاح المرجو في عصر تسليع الترفيه، لما تخلقه من ضجر وملل مرادف بشكل دائم لاستهلاك المحتوى الموسيقي النمطي، وانتشار ثقافة الستريمنج المتكرر. تبعا لذلك، اختارت “البي تي اس” الاستثمار أكثر في الحضور بوسائل التواصل الاجتماعي والقرب من الحياة اليومية للمتتبعين، المراهقين أساسا، وهو ما يتجلى في طبيعة المواضيع والإيقاعات المستخدمة والدمج بين أنماط موسيقية مختلفة، والتي تعكس هموم المراهق اليومية وما تكتنفه من صراع نفسي مع الوجود القائم على اللايقين. يتعلق الأمر من جديد باستثمار تحولات الذكاء الاصطناعي وتطور رأسمالية المراقبة ليس لمعرفة ما يريد المتلقي وإنما للتحكم في سلوكاته وميولاته الفنية. وخير دليل على ذلك قوة المتتبعين على منصات الاستماع المختلفة وحجم الإعجابات، التعليقات والمشاركات والمشاهدات الفورية لمختلف ألبومات المجموعة. إننا لسنا أمام مجموعة كلاسيكية للبوب المحلي، بقدر ما نحن أمام “مجموعة مصنوعة” بحرفية ومهنية عالية في أفق تعددية موسيقية ومنحى فني كوني.
لم تقتصر حركة البوب الكوري على المجموعات الشبابية فقط. فبقدر الرهان على التعدد في المجموعات الذكورية، سطع بريق مجموعات البوب الأنثوي خلال السنوات الأخيرة كذلك؛ يمكن القول بأن المجموعات الأنثوية كان لها الفضل الكبير في التعريف بالبوب الكوري على الصعيد العالمي منذ نهاية العقد الماضي، خاصة بالولايات المتحدة الأمريكية. في صيف سنة 2016، ستطلق شركة (YG Entertainment) واحدة من أقوى وأسرع الحملات الدعائية المحلية لمجموعة “بلاكبينك” (BlackPink) للبوب الشبابي الأنثوي التي تحقق اليوم، وبالأرقام، نجاحا يقارب ويتجاوز نظيرتها الذكورية (البي تي اس). يتعلق الأمر بمجموعة مصنوعة وفقا لموصفات ومعايير رأسمالية خالصة تتوافق مع قوانين سوق الاستهلاك الموسيقي العالمي لسد الفراغ العالمي فيما يتعلق بمجموعات البوب الأنثوي من جهة، وتطوير مسار البوب الكوري التعددي الموجه نحو مختلف الشرائح الاجتماعية والثقافية من جهة أخرى. ووفقا للأرقام دائما، يظهر التفوق الكبير للـ”بلاكبينك” على مواقع التواصل الاجتماعي، منصات الاستماع الموسيقي وأرقام معاملات التسجيلات والعروض الموسيقية، ليس فقط بكوريا ولكن على المستوى العالمي كذلك: 23 مليون متابع على موقع إنستغرام، 5 على موقع فيسبوك، 11 على منصة سبوتيفاي و34 على منصة يوتوب (كواحدة من أكثر المجموعات متابعة بالموقع بما يقرب 10 مليار مشاهدة)، مع عائدات تتجاوز عشرات الملايين من الدولات سنويا، مقارنة ب 24 متتبع على موقع إنستغرام، 10 على فيسبوك، 17 على منصة سبوتيفاي و27 على يوتوب (مع ما يقرب من 8 مليار مشاهدة) بالنسبة للـ”البي تي اس”.
صحيح أن الأرقام وحدها غير كافية لتحديد نجاح المسارات الفنية في عالم البوب، حيث التنافسية، تجديد التصورات الإبداعية والاستمرارية عناصر أساس في بناء الشهرة، لكن لا يجب تغافل بعض الشروط الموضوعية المتحكمة في إنتاج المشهد الموسيقي العالمي طيلة عقود. تمتلك “البي تي اس” قاعدة جماهيرية من الأقوى عالميا، ما يجعلها تحظى بأعلى المشاهدات والإعجابات على المنصات الرقمية على امتداد السنوات الثلاث الأخيرة، وتمتلك تصورا فرديا وجديدا للبوب الشبابي التعددي والمنفتح على أنماط موسيقية وشرائح اجتماعية مختلفة، مقارنة بالـ”بلاكبينك” التي تظل “استنساخا” مباشرا لـ”البي تي اس” في ثوب أنثوي، إلا أنها تعكس مسار عقود من إعادة إنتاج البنيات الذهنية الذكورية والمركزية التي تجعل البوب موسيقا الذكور والبيض. إن الأمر لا يتعلق بتنميطات ذهنية لصيقة باللاشعور البطريركي فقط، وإنما باستراتيجيات تسويقية في عالم الموسيقا تمكن الذكور من عقود عمل مريحة، تعويضات كبيرة وتصورهم كنماذج للنجاح الشبابي خلال العصر، مقارنة بالإناث حيث “جسد الاستهلاك”، العقود المرنة والشروط المجحفة لبناء نماذج نجاح مصطنعة من درجة ثانية. نتيجة لذلك، يجب أن نعي جيدا أننا أمام تمازج جديد بين ثقافة البوز، الكلاوت وصناعة النجومية يستثمر إمكانات العصر الرقمي لإنتاج “نماذج” (Idols) وهمية للنجاح تستغل سيرورة اللايقين، القلق وانعدام الأمان الاجتماعي والمهني لدى المستهلك وتلعب على اللاشعور الجمعي والعاطفي لتجعل من استهلاك المحتوى ومتابعة هؤلاء “النجوم” والتعلق الوهي بحيواتهم الفنية تعويضا رمزيا عن حلم الثروة والنجاح السهل لملايير السكان.
ختاما، تعيش موسيقا البوب والهيب هوب عصرا ذهبيا خلال السنوات الأخيرة يعيد إلى الأذهان ما حدث خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، تترجمه أرقام معاملات الاقتصاد الرقمي للموسيقا من جهة، وثورة موسيقا الهامش (اللاتيني والكوري أساسا) من جهة أخرى. لذلك، سنة عن أخرى، نشهد مزيدا من المأسسة الاقتصادية لانتقال المركزيات الموسيقية العالمية نحو بلدان ومجتمعات الأطراف، وهو الأمر الذي ينعكس إيجابا على مسارات تنمية هذه البلدان على أصعدة مختلفة. مع ذلك، لا يجب أن نغفل القدرة الفريدة للمنظومة الرأسمالية على التكيف مع التحولات المختلفة وسياق الأزمات الدورية لتضبيطها مع قوانين السوق. مازالت شركات إنتاج معينة ومنصات ستريمنج محددة تحتكر مدخلات ومخرجات اقتصاد الموسيقي خلال العصر الرقمي، بدول الشمال كما الجنوب، مع مزيد من الضغوط والعقود المجحفة على “نجوم” صنعوا لكي يكونوا “نماذج عرائس خشبية” ضمن نسق صناعات ترفيهية آخذة في التوسع والهيمنة على حساب تنميط الإبداع، الأذواق والفن الإنساني. إننا أمام انتقال تقنوي في المركزيات الفنية مع تطور خطي في شروط إنتاج الاقتصاد الرقمي للموسيقي.
المراجع:
Global music report 2019 : state of the industry, international federation of the phonographic industry (ifpi), UK, 2019.
Global Music Report 2018 : state of the industry, international federation of the phonographic industry (ifpi), UK, 2018.

العدد الأخير العدد الرابع والعشرين بعد المائة ثقافة وفكر

عن الكاتب

محمد الإدريسي