عالم يخصّني وحدي يوميات الأحلام

كتب بواسطة أحمد الزناتي


جراهام جرين
في الثلث الأخير من حياته احتفظ الروائي البريطاني الشهير غراهام جرين (1904- 1991) بدفتر يوميات دوّن فيه أحلامه. في شهوره الأخيرة قبل رحيله اعتمد جراهام جرين على هذه اليوميات اعتماداً أساسياً لتأليف هذا الكتاب الذي أعدّه للنشر بعد وفاته.
يشتمل الكتاب على مقتطفات من يوميات الأحلام التي احتفظ بها جرين في السنوات من 1965 حتى سنة 1989، وتضمنت أحلام الروائي الإنجليزي حول مهمات التجسس السرية التي كُلّف بها إلى ألمانيا النازية، حينما وضع سيجارة مسمومة أمام أنف القائد النازي يوزيف جوبلز، والمهمات السرية التي أنجزها مع ضابط الاستخبارات البريطاني والعميل المزوج للاتحاد السوفيتي كيم فيلبي. وفي أحلام أخرى تحدث مع كاسترو وخروتشوف وأوليفر كرومويل وجان كوكتو والكاتب الروسي المنشق سولجينتسين، وفي حُلم آخر كتب مسرحية مع ريتشارد بيرتون وإليزابيث تايلور.
أقدم في السطور التالية مقتطفات من يوميات أحلام جرين:
(1)
ربما يكون من المريح أن يدرك المرء أحيانًا وجود عالم يخصّه وحده، وأن أحدًا لا يشاركه تجارب السفر ومجابهة الأخطار والتمتع بالسعادة في هذا العالم. إذ لا شهود ولا تـشــهــير، كما أن الشخصيات التي رأيتها هناك يتذكرون بالكاد أنهم رأونني، ومن ثم فلا صحفي أو مؤرخ سيرة ذاتية سيحاسبني في علاقتي بالغير. وسيصعب على أحد مقاضاتي تنفيذَاً لأحكام قانون الحفاظ على قواعد السرية المتصلة بأية وقائع متصلة بمهام الأمنية.
تحدّثتُ إلى خروتشوف في حفل عشاء وكُلفّت بمهمة استخباراتية سرّية لاغتيال جوبلز.
أنا لا أكذب، وبرغم الشهود كافة الذين عايشوا معي تلك المشاهد، لا يقدر أحد – معتمدًا على معرفته الشخصية- وصف ما أقوله بالكذب. من بين صفحات يوميات تناهز ثمانمئة صفحة، بدأتْ في سنة 1965 وانتهت سنة 1989 وقع اختياري على مشاهد مُختارة من العالم الذي يخصني وحدي.
هي بشكل أو بآخر سيرة ذاتية أولها السعادة وآخرا الموت، وهي حياة لا تخلو من غرابة أطوار في الثلث الأخير من القرن العشرين (الحروب المُشار إليها هنا هي حروب عقد الستينيتات، لا الأربعينيات).
فكّرت في استهلال اليوميات بلقاء هنري جيمس في مركب نهري في دولة بوليفيا في ربيع سنة 1988، لكن خّطتي في البدء بهذه الحكاية العجيبة ما لبثت أن تغيّرت حينما مررتُ بتجربة السعادة، ولأول مرّة على مدار التدوينات التي احتفظتُ بها لهذا العالم الخاص منذ عشرين سنة، رأيتُ أسماء عظيمة وقد بدَتْ عادية ومبتذلة، لكني خضتُ تجربة سعيدة، وكانت سعادتي لا معنى لها ولا تفسير.
انشغلتُ في عقد الستينيات – في أثناء تدخين الأفيون في فيتنام وجُزر الملايو- بتدوين يوميات تسجل الأحداث العنيفة في العالَم العادي، بيد أن ذاكرتي لم تحتفظ إلا بواقعة يتيمة جديرة بالالتفات في هذا العالم الخاص، وأقول جديرة بالالتفات لأنها تضرب بجذورها إلى الماضي السحيق، وتحديدًا إلى سنة 1 ميلادية.
في الحُلم كنتُ أعيش بالقرب من مدينة “بيت لحم”، وقررتُ الذهاب إلى بلدة صغيرة لزيارة الماخور الذي أتردد إليه هناك، حاملًا قطعة عملة ذهبية لأدفع إلى الفتاة التي سيقع اختياري عليها.
وحالما اقتربتُ من المدينة رأيتُ مشهدًا عجيبًا: رأيتُ جماعة من الرجال بملابس شـرقية راكعين يقّدمون العطايا. إلى مـن؟ إلى جدارٍ مصمت. لم يكن أمامهم مـن يتلقّى عطاياهم أو يـردّ سلامهم.
توقفتُ لبرهـة أمام هذا المشهد المثير للفضول، لكن شيئًا ما – لا أعرف ما كنهه – دفـعني لأن ألقي بالعملة الذهبية ناحية الحائط وأن أعود أدراجي.
في عالمي الخاص في مقدور الزمن أن يمضي ببطء أو أن يمرق بسرعة بالغة. وفي مثل تلك الحالة كانت تمرّ القرون الغابرة عليَّ كومضة خاطفة وأجد نفسي راقدًا في سريري أطالع في العهد الجديد قصة ملوك الشرق الذين زاروا “الاسطبل” في بيت لحم1، فأدركتُ لحظتها مغزى ما رأيته في الحُلم.
كانت أول فكرة طرأت بذهني أن:” لقد سافرت إلى بيت لحم لإعطاء القطعة الذهبية إلى امرأة ويبدو أنني فعلتُ ذلك في الواقع ومنحتها قطعة الذهب، برغم أن ما رأيته لم يكن سوى جدار أصم.
في العالم الذي يخصني وحدي جانب خيالي يتميّز عن العالم المشترك المُعاش. قال روبرت لويس ستيفنسون إلى أحد محاوريه حول د. جيكل ومستر هايد:” في أحد المرات كنت في حاجة ماسّة إلى المال وشعرتُ بضرورة أن أفعل شيئًا. فكرت مرارًا وتكرارًا وسعيتُ جاهداً لأجل الوصول إلى موضوع للكتابة.
وفي الليل حلُمتُ بقصة كانت بمثابة منحة من نوع خاص، وكان مما زاد الأمـر غرابةً أنني كنتُ معتاداً على الحُلم بالقصص، وهكذا وقبل مدة قريبة حلُمت بقصة Olalla وها أنا ذا أمامي الآن قصّتان لم تُكتبا بعد، حلُمت بهما على نحو متشابه”.
أما قصة Olalla فهي إحدى قصص ستيفنسون التي ظلت موضع تجاهل مُـجحِـف، وثمة تشابه خفي بينها وبين قصة “د. جيكل ومستر هايد”، فهي قصة تنتمي إلى العالم الذي يخصّ ستيفنسون، لا إلى إسبانيا التي من المفترض أن تكون قد شهدت كتابة المشهد، بالضبط كما هو الحال في لندن التي وصفها في قصة د. جيكل، بحيث يبدو لنا أننا نتجول في شوارع مدينة أدنبره أو شوارع مدينة في العالم الذي يخصّ ستينفسون وحده.
الغريب أن الكاتب في العالم العادي يشعر بغربة في أثناء وجوده في عالمه الخاص. كان ستيفنسون يـشعر بالضياع والبلبلة بسبب القصة التي كان بصدد كتابتها. كتب ستيفسنون رسالة يقول فيها:” المشكلة في قصة Olalla أنها تعطي انطباعًا ما بالزيف. المعضلة التي لا تفسير لها هي:” ما الذي يجعل قصة ما حقيقية؟
قصة “ماركهايم” صادقة، وقصة Olallal زائفة، ولا أدري لماذا؟ بل أن ستيفنسون ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك في تأليف قصة د. جيكل وأضرم النار في المسوّدة الأولى للقصة.
عدد ضئيل من قصصي مُستوحى من ذكريات عائدة إلى “العالم الذي يخصني وحدي”. ففي قصة “الحُلم ببلدٍ غريب” سجلتُ تجربتي في هذا العالَم حينما ذهبت إلى السويد في رحلة علاج من مرض البهاق، ولم أُضِفْ إلى القصة سوى صوت الطلقة التي انتهتْ بها القصة في شكلها المطبوع.
وفي قصة أصل كل الشرور التي تدور أحداثها في ألمانيا إبان القرن التاسع عشر لم أغـيّر حرفاً من القصة بعد استيقاظي من النوم، مُلقياً بابتسامة مسلية من العالم الذي يخصني على وجه عالم الحياة اليومية.
أماط كتاب دبليو جي. دون J.W.Dunne “تجربة مع الزمن” Expirement With Time وبسرد شائق اللثام عن جوانب أخرى فيما نطلق عليه “أحلاماً”. قال الكتاب إن الأحلام تشتمل على ومضات من المستقبل ومن الماضي على حد سواء. كتبتُ بالفعل ذات مرة كيف أنني لما كنت في السابعة حلُمتُ بحطام سفينة غارقة في ذات الليلة التي غرقت فيها الباخرة “تيتانيك”، وبعدها بتسع سنوات شهدتُ مجددًا حادثًا مأساويًا لغرق سفينة في بحر أيرلندا.
حينما أمعن النظر في دفاتر أحلامي أتنبه إلى وقوع أحداث في العالم الواقعي عقب رؤيتها في أحلامي ببضعة أيام وهي أحلام أتفه من أن أسوقها هنا، لكني برغم ذلك على اقتناع أن دون كان على صواب فيما ذهب إليه.
ويبدو أن مقابلتي غير المتوقعة كليةَ في عالمي الخاص مع الكاتب هنري جيمس ستتخذ الأولوية في الفصل الثاني من الكتاب عنونته بــ ” بعض من عرفتُ من الكتاب المشهورين”.
على عكس كُتاب السيرة الذاتية ليس من الضروري أن نلتزم الترتيب التاريخي، فمقابلتي في الماضي مع البابا يوحنا بولس الثاني في غرفة بأحد الفنادق ليست بأهمية مقابلتي المتأخـرة مع هنري جيمس (أنا متأكد أن أحدًا منا لم يكن سيفيد شيئًا من إيقاظه، لا أنا ولا البابا).
ربما تكون حياتي الإيروتيكية غائبة عن هذا الدفتر، لكني لا أحب إقحام عشيقاتي في “العالم الذي يخصّني”، حتى لو كنتُ عاجزًا عـن منع كُتاب السيرة الذاتية والصحفيين من الكتابة عن عشيقاتي في العالم المعتاد.
كما يخلو الدفتر من الكوابيس، لكنه لا يخلو من ذِكر الحروب والأخطار، إلا أنها ليست حالًا من ذكرَى الشريرة التي كانت تطاردني وأنا طفل في طريقي إلى الحضانة، ثم ألتفتُ في نهاية المطاف وأواجهها فتختفي إلى الأبد.
صحيح أنني عرفتُ ما يكفي من الأخطار في “عالمي الخاص” في جزر تاهيني وفيتنام، لكني لم أعرف الفزع ولا عرفتُ الكوابيس قـط. ربما لم تخلُ مخاوفي يومًا من عنصرَي المغامرة والمتعة، سواء في عالمي المعتاد أم في العالم الذي يخصني وحدي.
(2) عن السعادة
إنه العام 1965. قررتُ إجراء استطلاع رأي حـرّ في الانتخابات التكميلية المقبلة. فوقع اختياري على بلدة صغيرة تُسمى “هوردون”. يبدو أنه لا يُمكن مغادرة المحطة الرئيسية في فيكتوريا إلا عبر خطّ سكك حديد فرعي، وهو خط سكك حديد مدينة هوردون، فطنتُ إلى أنه خط سكك عتيق.
كان القطار الأول مؤلفاً من عربات أنيقة لا بد وأن تاريخ صنعها يعود إلى أكثر من مئة سنة، لكنه لم يكن متجهًا إلى مدينة هوردون، كان القطار الثاني مُتجهًا إلى هناك، لكنه كان مزدحماً عن آخره.
أخـذتني الدهشة من تلطّف وصخـب الرّكاب الذين أحسنوا الترحيب بي وخصّصوا لي غرفة مستقلة في إحدى العربات المزدحمة. كانوا يرتدون ملابس عجيبة، ملابس تعود إلى العصر الفيكتوري أو الإدواردي- لكني كنتُ مفتوناً بالمحطات التي مررنا بها. على إحدى الأرصفة الواسعة للقطارات أطفال يلعبون ببالونات قرمزية اللون، وكانت إحدى المحطات مشيدة على طراز معبد إغريقي متهدم.
عند إحدى النقاط ضاق مسار القضبان ودخل القطار إلى ما يشبه نفقًا مصنوعًا من “المراتب”.
لم أجرّب في حياتي قط شعورًا مماثلًا بالسعادة. بدأتْ أضواء البيوت الساحرة التي مررنا بها في الانطفاء وداهمني شوق عارم إلى العودة في صحبة المرأة التي وقعتُ في غرامها في تلك الساعة وفي تلك الليلة. أبطأ القطار ليتوقف أمام مـتـجـر عتيق وسمعتُ راكبًا يقول:” أترى..كل الرجال يشربون أو يلعبون الورق”. ثم سرعان ما صداقتُ على الفور زوجان (الفتاة جميلة لكنها غير مثيرة، والزوج رجل بسيط حسن المظهر وشعر مجعّد ووجه مستدير). قلت:” عشتُ في لندن خمسين سنة ولم أسمع يومًا بخط سكك الحديدية إلى هوردون. أستطيع القيام بهذه الرحلة بصفة يومية ولا يصيبني التعب”.
أجابتْ الفتاة:” لا تدعهم يسكوننك نزلًا إذا اضطررت إلى المبيت”.

  • ألا توجد فنادق؟
  • لكنها ليست بأحسن حالًا
    قررت ألا أفعل شيئاً إزاء استطلاع الرأي، كانت رؤية مدينة هوردين هي ما أتوق إليه. خططتُ إلى لندللعودة إلى لندن لتناول العشاء، وعندما خرجتُ استفسرت عن موعد القطار الذي يعود متأخرًا.
    داهمني شيء من القلق بسبب احتمال أن يكون القطار قد غادر بالفعل وأنني سأجد نفسي مقيماً في نُـزلٍ رديء. لكن الأمور سارت على ما يُرام. كان ثمة قطار متأخر ينطلق في العاشرة وخمس وعشرين دقيقة. أخذتْ الفتاة بيدي وقالت إنها ستريني المدينة، فقلت: لكني في البداية سأدعوكما إلى تناول الشراب معي. كنتُ أستطيع رؤية الحانات تغصّ بناس تضحك. سألت:” هل أنتما مقاطعان للخمور”؟
    قالت الفتاة: لا
  • فلتـختارا أفضل حانة
    وطَوال الوقت هناك لم يفارقني شعورٍ بسعادة عارمة لا تفسير لها.
    آه لـو أستطيع يومًا العودة إلى مدينة هوردون الصغيرة الكائنة في “العالم الذي يخصّني وحدي”، لا العالم الذي أشاركه مع الآخرين.

(3)
عن بعض من عرفت من مشاهير الكُتاب
العجيب في “العالم الذي يخصّني وحدي خـلوِّه من الكتُاب الأحياء. ويبدو أنه كان يتحتم على الكاتب الذي أشرُف بمعرفته، أن يكون في عداد الأموات قبل أن يدخل إلى عالمي.
هنري جيمس
في 28 إبريل 1988 رأيتي في رحـلة نهرية ثقيلة على نفسي إلى مدينة بوجوتا في صحبة هنري جيمس.
غادر القارب بعد منتصف الليل، وكنا قد اضطررنا إلى أن نقطع طريقنا عبر رصيف الميناء وسط ظلام دامس، حاملين حقائبنا اليدوية.
كنتُ سأعود أدارجي لولا إيماني الراسخ بالكاتب العظيم ولولا إعجابي بإنتاجه الأدبي. وكان مما زاد الأمور سوءًا ارتفاع صوت أحد الموظفين – لم يكن واضحًا وسط الظلام- بالتهديد صائحًا:” كل من يحاول التسلل إلى متن القارب بدون تذكرة ستوقَّـع عليه غرامة قدرها ألف دولار”. وكان من المستحيل على أحد إبراز تذكرة السفر وسط تدافع الناس للوصول إلى متن القارب.
لم يكن ثمة مكان للجلوس. استطعنا بالكاد أن نحشر أنفسنا في ممر مكتظٍ بالنساء، ولم أسمع هنري جيمس ينطق بشكوى واحدة. في موضع ما وسط النهر توقّف القارب لبضع دقائق وهبط بعض الرُكاب. رحتُ أحثّ هنري جبمس على اغتنام الفرصة واللوذ بالفرار أيضًا، إلا أن هنري لم يلق بالًا لكلامي. أخبرني جيمس: “ينبغي أن نمضي في طريقنا حتى النهاية المريرة، لأسباب علمية”

روبرت جريفز2
ذات ليلة أسعدني الحظ بمقابلة مع روبرت جريفز، وكان محتفظًا بشبابه مثلما قابلته في عالمنا العادي حينما كان يعيش في أكسفورد سنة 1923. كان سعيدًا برؤيتي مجددًا واستحضر ذكرى لقاءٍ جمعنا بالصدفة في أحد المرات على الحدود الإيطالية، لم أكن أتذكر شيئًا. أخبرته أنني طالما كنتُ معجبًا بقصائده الشعرية، حتى في سنّ العشرينيات، وأنني ما زلتُ محتفظًا بنسخة من قصائده الأولى Over the Brazier.
سألته: “هل تذكر دفتر الأشعار البشع الذي ألفته بعنوان Babbling April، لكنّك أبديتَ لطفًا في إحدى قصائده؟ صار سعر كتابي اليوم أعلى في المزادات من كتابكَ أنت الأول”.
جان كوكتو
في نوفمبر 1983 قابلتُ جان كوكتو في إحدى الحفلات وكنت في غاية السعادة.
عندما صارحته بأنني توقعتُ منه مقابلة فاترة، لكني فوجئت بتفهمه وتعاطفه. ثمّ ظهر صديقه الحميم ميتًا من أثر الشراب.
فورد مادوكس فورد1
في حديث مع فورد مادوكس فورد أردتُ الإعراب عن إعجابي العميق بأحد كتبه التي تناولت الحرب الأهلية الإسبانية. أجاب أنه لم يكتب كتابًا عن هذا الموضوع قطّ.
قصدتُ رفّ الكتب باحثًا من دون طائل عن عنوان أحد الكتب عسي أن يقود إلى شيء آخر، فلم أعثر إلا على مجلديْن في طبعة دار Boldey Head ، كان المجلد الأول مجموعة مقالات مجهولة كليًا بالنسبة إلي، أما عناوين أعماله الأخـرى فلم أعثر عليها. وفجأةً (كنتُ على وشك أن أقول لمن تقرع …. ولكني أمسكتُ لساني) قفز العنوان إلى ذهني: Some Do Not.
خرجنا معًا للتمشية في نزهة ريفية ممتعة. أخبرني عن أسطورة تقول إن العذراء المقدّسة في أثناء وقوفها على أحد التلال، انحنَت لتنتشل رجلًا يصارع الغرق في النهر الذي مررنا به على بعد سبعة أميال من هنا.
أجبته: لكن الأرض مسطّحة للغاية.
فقال: لكنها ليست كذلك إذا ألقيتَ نظرة فاحصة. كان الناس يتحثون إليَّ عن المرأة التي تختفظ بالخزانة، طاهية عظيمة لديها اهتمام عميق بالتاريخ المحلي حاولت نقل هذا الاهتمام إلى أولادها.
بدأنا في المرور عبر أحد الحقول من ناحيتي كنت متوترًا بسبب وجود ثور هائل الحجم في الحقل ووجود شاب يراقب خطواتنا. عدتُ للمشي على الطريق، وبينما أنظـر حولي رأيتُ الثور متربعًا أعلى كتفي فورد، الذي لم يبدِ أي انزعاج.
واصلتُ المشي ناحية هويس الماء لأكون في انتظاره. كانت ثمة رائحة طعام شهيّة تفوح في المكان وكانت المرأة واقفة تتحدث إلى أحد الجيران. كان هويس الماء واقعاً عن مدخل بلدة صغيرة. لحق فورد بي. قالت المرأة إنها ترشّح لنا تناول الحساء والسمك. قلنا إننا سنذهب إلى المدينة لشراء زجاجة نبيذ، فعرضتْ علينا أن تبعث بابنها الذي كان يرتدي شيئًا أقرب إلى جلباب مزاع ينتمي إلى عهد غابر، إلا أننا أصررنا على الذهاب بأنفسنا.
حينما غادرنا سألني فورد:” هل لاحظتَ أن الرجال لا يفضلّون ارتداء ملابس أسفل الركبة؟”
ت. إس. إليوت
في أحد الأيام وبينما كنت أعمل لصالح أحد المسابقات الشعرية كتبتُ سطرًا واحدًا:” الـجمال يجعل الجرائم نبيلة”، فما كان من ت. إس. إليوت إلا أن قاطعني بوخـزة نقدية من ورائي قائلًا:
” ماذا يعني ذلك؟ كيف يمكن للجريمة أن تكون نبيلة؟ لاحظتُ أن شارب إليوت قد صار كثًا.”
دبليو إتش أودن وإيفيلين ووه
ظـروف غريبة نوعًا ما هي التي جمعت هذين الكاتبين معًا. كنتُ عضوًا في فرقة استطاعت هزيمة مجموعة من حيوانات الغوريلا، لكن رأس الفرقة وايتين أودن لاذ بالفرار. نجح في الاختباء داخل الأجمة التي كنا نفتشها بعناية، كنتُ مُسلحًا بسكين مطبخ لأن أودن كان الأكثر خطورة من بين كل أعدائنا. لكنه خرجَ من مكمنه مقتحمًا أحد المنازل المجاورة. لكن إيفيلين ووه أطلق عليه النيران وأخذتْ جراحه تنزف.
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:

  1. المقصود هم المجوس أو ملوك الفُرس الذين جائوا وسجدوا أمام يسوع المسيح في “الإسطبل” الذي وُلد فيه (المترجم).
  2. روبرت جريفس: (1895-1985): شاعر وروائي وناقد أدبي بريطاني غزير الإنتاج، اشتهر بكتابة الروايات التاريخية الشعبية، كما كان مترجمًا بارزًا للأدب الإغريقي القديم (المترجم).
  3. فورد مادوكس فورد (1873-1939): روائي وشاعر وناقد بريطاني، اشتهر برواية “رباعية نهاية الموكب” ورواية “الجندي الصالح” التي صنفتها جريدة الجارديان من بين أهم ألف رواية في تاريخ الأدب (المترجم)
أدب العدد الأخير العدد الخامس والعشرين بعد المائة

عن الكاتب

أحمد الزناتي