ما معنى فلسطين في مرآة الثقافة؟
سؤال يثير الحيرة والإرباك، ويجعل الذات في مواجهة نفسها، والأفق مفتوحاً على احتمالات وتساؤلات حول مكانة هذا الاسم الحامل تجذّره ورسوخه في الذاكرة كونها الأرض والتاريخ والحضارة، أرض ممتدة في جغرافيا الشام الثابتة على الأصل لا الفرع، التي تكتب وجودها بحبر حضارة لا شبيه لها، وتاريخ يفصح عن مراياه المتعدّدة والمختلفة، التي تبرز صوراً كثيرة لآثاره في شبه الجزيرة العربية، هذه الأقانيم الثلاثة تشكل هوية فلسطين وكينونته، فالقلق والخوف يظلّان هاجساً معرفياً ووجودياً متعلّقا بها ومتحصّنا بكتابها المليء بالأحداث والتقلّبات والانعطافات ، مما كان له أثر على الممارسة الثقافية، التي ستشهد مع ستينيات القرن العشرين منعطفا يتمثل في كون القضية الفلسطينية غدت محور الثقافة والتفكير والتأمل والتحليل والتأويل، ومن الانشغالات الأساس لدى المثقف، من خلال المقاربات لتشريح معضلة الاحتلال الصهيوني، ومن ثمّ الدعوة إلى إعادة النظر فيها من زوايا سياسية وحقوقية وثقافية باستحضار تاريخ وحضارة هذه الأرض المغتصَبة، لهذا بقيت القضية الفلسطينية من القضايا الشائكة والملتبسة في ذاكرة الثقافة الإنسانية، ومن الهموم الحارقة والمتّقدة عند الغالبية العظمى من المثقفين، بل يمكن التأكيد على أن القضية ارتبطت بالسؤال الثقافي البعيد عن الرؤى والتصورات التي تستند إلى الإيديولوجيا، والذي جاء بإشكالات جديدة نابعة من صميم التحولات العميقة على الصُّعُد كافّة، خصوصا بعد هزيمة 67، أو ما يسمّى بالنكسة، والتي وضعت الذات أمام مصيرها المؤلم والقاسي، وقوّضت كلّ السرديات الكبرى التي شكّلت إطارا مرجعيا لمثقفي القومية والوحدة والهوية النهضة والحداثة، لتلج الذات مسارا مختلفا يكمن في الشعور بالارتكاسة الوجودية. لتتخذ القضية مقاماً رئيسياً في الثقافة الإنسانية، حيث كانت، بداية مرتبطة بالسؤال الشعري، سؤال المغايرة والمخالفة. هذا السؤال الذي يفرض على المثقف الانخراط الفعلي، برؤية جديدة، في تناول القضية في تعالق مع سؤال الثقافة العربية النقدي، إذ لم تعد ثقافة منحصرة في سؤال الذات بل منفتحة على الكوني، وقد تمثّل هذا المنعطف في الأجناس الأدبية التي تجاوزت الأشكال التقليدية بخلق أشكال تستجيب لنداء النكسة وما تلاها من خيارات مأساوية كانت وراء تراجيديا عربية ما زالت فصولها مستمرة إلى هذه اللحظة، والتي اكتملت صورها البشعة فيما تشهده بلدان عربية من حروب وخراب وتدمير وتشويه لوجودها التاريخي والحضاري. فإذا كانت، ما سميّ ضحكا على الذقون، باتفاقيات السلام التي دشنتها مصر بكامب ديفيد مع السادات، واتفاقيات أوسلو ومدريد وصولا إلى صفقة القرن من تجليات ونتائج النكسة، فقد عرّت حقيقة خنوع وخضوع الحكام العرب للإملاءات الغربية، وبدّدت الأمل في بزوغ صحوة عربية جديدة، وقد كان هذا المصير صلب سؤال الثقافة لتبرز القضية الفلسطينية بأسئلتها وجراحاتها العميقة لتحاصر المثقف والعالَم.
إن الأمر يدعو إلى ضرورة الحديث عن فلسطين إبداعيا لا من حيث كونها قضية شعب متشبث بأرضه، بوجوده، بأصله وجذوره، وإنما كقضية قيم جمالية على أساس أن قضية فلسطين كانت شرارة متّقدة للخلق وصناعة متخيّل موسوم بالوهج والحضور والاستمرارية ماضيا وحاضرا ومستقبلا، لهذا تشكل القضية ملمحا من ملامح الثقافة وتشكّلا من تشكلات الوعي الإبداعي، وهمّا ملتصق بالكينونة كسؤال وتوتر، وإشكالية معرفية تدور رحاها حول الذات وموقعها في سيرورة الزمن وصيرورة الواقع، فجاءت ثقافة القضية براهنيتها بوساطة التعريف بالقضية وتشكيلها جماليا وفنيا بمختلف التعبيرات الأدبية من شعر ومسرح ورواية وتشكيل وكاريكاتير وغيرها، فصارت القضية بفضل الثقافة قضية العدل والمساواة، الحق ضد الأباطيل، الحق في الحياة، ومقياسا للمنتظم الدولي الذي يكيل بمكيالين للقضية، إنها قضية القيم الإنسانية. ولعلّ وقفة متأنية أمام ما تحفل به القضية الفلسطينية من أسئلة الراهن في تفاعل مع الماضي واستشراف الآتي تأكيد على الانشغال العميق بهذه القيم التي تُذْبَ باسم الأسطورة الصهيونية، غير أن الحق لا يُغلَب أبداً، بالرّغم من التكالب الغربي والتخاذل “العربي” فقد استطاعت الثقافة أن تعيد القضية إلى المربع الأول، وتفضح حقيقة الصهاينة والوجه القبيح لسياسة الغرب تجاه قضايا العرب.
فقد استطاع الإبداع تحويل فلسطين إلى أسطورة رمزية للنضال والكفاح، والأكثر مما ذُكِر أنها أيقونة تحمل معاني التضحية والاستشهاد والإيثار من أجل استعادة الأرض التاريخية والحضارية والدينية، كما أن المبدعين احتفوا بهذه القضية أيّما احتفاء، وذلك عبْر، جعلها ذات بعد إنساني بأساليب جمالية وفنية وفي أشكال تستجيب لنداء القضية، إضافة إلى أن فلسطين حملت ومازالت تحمل دلالات متعدّدة فهي الأم والحبيبة والأرض والتاريخ والأسطورة والحضارة، هذه الأبعاد طبعت مسار تشكل فلسطين نصيا بل خطابا إبداعيا، وفي هذا تأكيد على القيمة الإنسانية لها، ودون أن ننسى أنها من الحوافز ليغدو الإبداع في أسمى وأرقى تشكلاته وتشعباته واكتسبت بعداً كونيا.
ولا غرابة في الأمر مادام تأريخ التحولات الإبداعية والثقافية التي عرفها الإبداع العربي، مقترنة بفلسطين كسؤال ثقافي غير مطمئن للعاطفة والمرجعيات الإيديولوجيا، ومحدثا القطيعة مع التصورات السابقة بإنتاج معرفة جديدة تتماشى مع المعطيات والأوضاع العربية والعالمية، فأصبحت فلسطين الكتاب الذي ينبغي قراءته قراءة مختلفة بعد هذه الانتكاسات السالفة، كتاب متجدّد بمعرفة متحولة ومتغيّرة، والذي كتبت حروفه انتفاضة الأقصى سنة 2000، وقبلها الانتفاضة الأولى 1987،مما حتّم على تغيير البوصلة إلى خلق معرفة لبناء الذات وتحصينها من كل من شأنه أن يسهم في إبادتها وطمس معالمها، هذه الذات التي تعرضت ومازالت تتعرض لأبشع الممارسات اللاإنسانية من لدن الاحتلال الصهيوني، هي اليوم تستعيد هيبتها في انتفاضة مايو 2021، والتي أبانت المقاومة الفلسطينية عن شراستها وتطورها عسكريا واستراتيجيا وشعبيا، إذ تمكّنت من ردع الكيان الغاشم بتخييب أفق توهماته واعتقاداته بكون القضية الفلسطينية تمّ وأدها بعد اتفاقيات العار بين دول عربية اختارت التطبيع والاصطفاف إلى جانب العدو، لكن الانتفاضة الجديدة التي طالت كل الأراضي الفلسطينية بهبة شعبية لم تكن في حسبان الصهاينة والمطبعين وغير المطبعين من العرب، لتنبعث القضية من رمادها كالعنقاء معلنة عن مرحلة جديدة في إطار الصراع الصهيوني والمقاومة الفلسطينية التي آمنت بإمكاناتها الذاتية وتجاربها مع هذا الورم الذي تم زرعه في جسد الشرق العربي، كما كان لهذه الصحوة أثر في الثقافة العربية بعودة الهم الجمعي وإحياء الصلة مع القضية بعد فترة من الفتور والخمود، بفعل التراجع البارز لدور المثقف الذي استسلم للأمر الواقع، وشراء ذمم البعض منهم بالمال الخليجي إما عن طريق المجلات أو الجوائز التي انتشرت كالفطر في هذه الدول البترودولارية. إلا أنّ المثقف المؤمن بالقضايا الإنسانية ظلّ مرتبطا بالقضية، مدافعا عنها، ومنافحا عن حق الشعب الفلسطيني في استرداد أرضه ومقاومة المحتل، سواء بالشعرا أو الرواية أو المسرح أو التشكيل أو فن الكاريكاتير وغيرها من الأجناس الأدبية.
هكذا تمكّن المثقف من تملّك فلسطين أخرى، فلسطين الحلم، فلسطين سؤال التحوّل، فلسطين التحرّر، فلسطين الهوية التي كسّرت اختزال الهوية بتأسيس ثقافة تبني الذات في كلّيتها بعيدا عن التفكير الفرداني، لذا تشكّل فلسطين بالنسبة لي شخصيا الزاد الذي يستحيل على كل من يحمل ذرة الانتماء التخلّي عنه، والسير في طريق مخالف لإرادة التاريخ والهوية والنهضة والحداثة، فبدون فلسطين لا يمكن الحديث عن ذات جماعية موحدة ومتّحدة.