حوار مع فيريجيا وولف
بقلم: إيلينا جيورجيو
ترجمة: فاطمة بنت ناصر
دعوني أخبركم لماذا أخترت بعث فيرجينا وولف من موتها لأتحاور معها في هذا المقال.
أنا بريطانية ومن طبقة العمال الكادحة، وأنتمي لأصول قبرصية، بهذه المواصفات تستطيعون أن تخمنوا في أيّة طبقة اجتماعية أندرج! ولا أخفيكم بأن قلبي يصاب بوخزات كلما تذكرت أن فيرجينا وولف كانت تعيش بفضل إرث عائلي يكفل لها ٥٠٠ جنيه إسترليني سنوياً، يريحها من أرق التفكير في البحث عن وظيفة توفر لها سقفاً يحميها وطعاماً لتضعه على مائدتها.
أما أنا فقد قضيت ٢٢ عاماً في تعليم الكتابة الإبداعية في الولايات المتحدة الأمريكية، سبعة عشر عاماً منها كنت أمارسها بجانب عملي بدوام كامل. وحالياً أمارسها كعمل أساسي يتطلب مني في أحسن أيامه قراءة ما يفوق ٢٨٠ صفحة من الكتابات، يتلوها كتابة ٣٨ صفحة من الردود لأصحاب هذه الكتابات، أما في أسوأ الحالات، وهي عادة تلك التي أقرأ فيها كتابات مشاريع التخرج، فأنا أقرأ ما يقارب ١٤٠٠ صفحة وأكتب ٤٤ رداً عليها. بهذا العمل وفرت لي غرفة تضمني وما يعادل ٥٠٠ باوند غير موروثة كجنيهات فيريجينا وولف.
نعم لقد تغير الزمن اليوم، فمعظم الكاتبات اللاتي أعرفهن يعملن بدوام كامل ويصرفن على أنفسهم مما يجنينه، بل أن بعضهن المعيل الوحيد في العائلة. وسأصدمكم بالمزيد، فمعظم زميلاتي في العمل يعملن عملاً إضافيا بالإضافة إلى عملهن الأساسي.
إن همّ الكاتبات الأول اليوم ليس توفير مكاناَ للعيش، وإنما توفير الوقت الكافي للكتابة. فنحن نعيش في القرن ٢١ بالولايات المتحدة الأمريكية، لا نملك رعاية صحية مجانية ولا حتى تعليم عالٍ مجاني، وهذا يعني ببساطة إننا نقضي معظم حياتنا في العمل لسداد القروض الدراسية ودفع المصاريف العلاجية لعوائلنا والرسوم الباهضة لمعالجة الأسنان، ودفع الإيجار وثمن الغاز والكهرباء، وما سيتبقى من رواتبنا هو ما نخصصه لتوفير مأكلنا ومشربنا.
مرة أخرى سأذكر لكم بالتفصيل سبب كتابتي لهذا المقال. فطوال مرحلة دراستي الجامعية وما قبلها، كنت طالبة تعمل بدوام كامل في النهار وفي المساء تذهب للدراسة. في تلك المرحلة من حياتي وبوجودي في كنف أمي وأبي اللذان لم يحصلا على نعمة التعليم، كنت بحاجة ماسة لأن أجد مثالاً للمرأة من الطبقة العاملة الكادحة تلهمني وأقتدي بها.
كنت أتضور من شدة حاجتي لقدوة من هذا النوع، لأنني لم أعثر عليها، ولهذا ترسخت لدي فكرة بأن الكتابة حكر على نساء الطبقة العليا والمتوسطة، اللاتي لا يحملن عبء المصاريف المالية بسبب أموالهن الموروثة.
لذلك بعثت فيرجينيا وولف من جديد في هذا الحوار المتخيل، لأشجع الكاتبات العاملات من أمثالي أن يتساءلن ما الذي تعنيه الغرفة التي يعشن فيها والتي تقابل مبلغ الخمسمائة جنيه إسترليني التي كانت تحصل عليها فيرجينيا وولف في السنة من إرث عائلي. ولكن السؤال الأهم بالنسبة لي: ما الذي تحتاجه المرأة الجادة التي لا ترى نفسها إلا في الكتابة في القرن ٢١؟
- نص الحوار:
المحاور: في البدء أشكرك على إتاحة هذه الفرصة لي للتحاور معك في اليوم الوحيد التي ُبعثتِ فيه للحياة. لقد أعددت مجموعة من الأسئلة مسبقاً كي لا أهدر دقيقة واحدة من دقائق عودتك الثمينة لعالمنا.
دعيني أبدأ بسؤال: هل ترين وقتنا الحاضر يختلف كثيرًا عن العالم الذي تركتيه في ١٩٤١؟
فيرجينا وولف: قبل أن أشرع بالحديث عن شعوري حيال بداية القرن ٢٠ الذي عشت فيه والقرن ٢١ الذي تعيشون فيه، فإنني أتشرف بهذه العودة الخاطفة لنتناقش في بعض هموم النساء الكاتبات في عصركم. لن أضيع الكثير من الوقت فالوقت ثمين في هذا اللقاء. بالتأكيد زمنكم يختلف عن الزمان الذي كتبت فيه كتابي “غرفة تخص المرء وحده”، ولكن هناك في المقابل الكثير من المشتركات، ولعل من المفيد أن تقوم النساء في عصركم بتأمل كلماتي التي يمكن فهمها على أوجه كثيرة من ضمنها تشجيعها وحثها للنساء على حرية الكتابة.
المحاورة: لعل قرّائي يا سيدة وولف يودون معرفة كيف تعيدين أنت قراءة أعمالك التي قمت بكتابتها في ذلك الحين؟ لو تفصلين لنا هذه النقطة لو سمحتِ؟
فيرجينيا: ما يخطر في بالي الآن، وحين أرى هذه المسألة عن بعد، أجد أن النسوية منذ وفاتي منحت النساء إيجابيات كثيرة، ولكن هذه الحركة لن تنعم أبدا بدرب معبّد خالٍ من المعوقات. وحين كتبت في كتابي (غرفة تخص المرء وحده): “٥٠٠ جنية إسترليني في السنة كافية أن تمنحك تلك القوة لتتأمل ذلك القفل الذي سيغلق بابك عليك ويجعلك تفكر بنفسك ولنفسك”. لم أختبر في زماني ما تعيشه المرأة بينكم اليوم، كأن تكون المعيلة الوحيدة لعائلتها، أو أن تذهب للجامعة وتدرس بجانب أخاها الرجل. وبالعودة لحديثك عن المرأة وأحوالها في الأيام التي تعيشونها اليوم، سوف أنصح هذه المرأة بأن تكون حكيمةً جداً في استغلال الخمسمائة ٥٠٠ جنية إسترليني في السنة (والتي تعادل في حتى ٢٠١٣ حسب علمي ما يقارب ٥٠ ألف دولار ربما). أما عن السؤال الأهم الذي يتوجب على المرأة في زمانكم أن تطرحه على نفسها هو: ما نوع قفل الباب التي تنوي شراءه؟
المحاورة: إن كنت تسمحين لي، لدي تجربة أود أن أشاركك بها، وأظنها ستختصر الكثير وستساعدك على تكوين صورة أشمل عن جوانب التغيير التي حدثت في حياتنا منذ وفاتك.
فيرجينيا: تفضلي أرجوك. أنا أرحب بكل معلومة قد تساعدني في فهم حياة المرأة الكاتبة اليوم.
المحاورة: في عام 1991 شاهدت لقاءً تلفزيونيًا يستضيف كاتبين رجل وامرأة صدر لكل منهما كتاب مؤخراً، قام المذيع بسؤال كل منهما: كيف كانت تجربتك في كتابة هذا الكتاب. فرد الكاتب أولاً وقال: “أغلقت باب مكتبي على نفسي ومكثت أكتب ولم أرَ أطفالي لمدة 5 سنوات”. ثم أجابت الكاتبة على السؤال نفسه بقولها: ” أنا أم عازبة لطفلين، وأعمل بدوام كامل، لهذا تمر علي بعض اللحظات التي أكتب فيها على الآلة الكاتبة بينما أحد الأطفال في حجري يلعب ويشد أقراط أذني”.
لا أذكر اسم الكاتب ولكني أذكر اسم الكاتبة هي: توني موريسون وهي كما تعلمون (كاتبة معاصرة معروفة وذات مكانة كبيره)، وما ذكرته بخصوص الطفل الذي يلعب في حجرها، فذلك الطفل هو رمزية (للوقت الشحيح) التي تحظى به المرأة لنفسها في زمننا الحاضر. وكما هو معروف فإن المرأة عليها على الدوام التوفيق بين كافة مسؤولياتها.
أنا أتساءل على الدوام كيف ترى فيرجينيا وولف هذه اللقطة العالقة بصورة المرأة الكاتبة بمن فيهم أنا. هل تعتقدين بأن هذه الصورة قد تساهم في تحديث ما كتبته عن القفل، ويا ترى أي نوع من الأقفال صالح للمرآة الكاتبة في عصرنا؟
فيرجينيا: أشكرك على هذه الحكاية. أنا من المعجبين بأعمال السيدة موريسون. (ونعم، أنا على إطلاع بكتاباتها، فحياتي التي أعيشها الآن بعد موتي وذهابي عنكم، توفر لي مكتبة هائلة و ممتدة على مد البصر). حكايتك توضح بشكل كبير كيف تغير الزمان منذ أن رحلت، ونعم ، ما عرفته منك اليوم ساعدني في تعديل وتجويد نصيحتي حول الأقفال. كما أنني أستطيع أن أرى السر وراء تشبث الكاتبات بهذه الصورة الملهمة لامرأة تقوم بأدوارها كلها في وقت واحد. هذه الصورة تستخدمها المرأة للدلالة عن قوة عزيمتها وتصميمها الذي لا يوقفه شيء، ولكن ما هو واضح بالنسبة لي هو أن المال في زمنكم الحاضر قادر على شراء قدر من الحرية، و أيضًا قادر على شراء الأقفال والقيود، غير أن ما أجده العقبة الرئيسية أمامكن تتمثل في العزيمة المطلوبة لإدارة المفتاح لفتح هذا القفل. و إن كنت سأراجع نصيحتي التي كتبتها في زمني لتخاطب الكاتبات في القرن الحادي والعشرين، فسأضيف إلى ما كتبته مشاعري سابقاً مايلي:
“خمسمائة جنية استرليني في السنة هي كناية عن القوة التي تمكن المرأة من الحصول على وقت للتفكير والتأمل، أما رمزية القفل على الباب فتعني أنها تملك وقتاً خاصاً بها يمكنها من التفكير بعزلة والتوحد بذاتها، وأما الخطوة التي تجعلها ترغب في إدارة مفتاح ذلك القفل، فتعني أنها قررت أن تجعل من عملها هذا أولوية من أولويات حياتها”.
المحاورة: هل أفهم أنك تحاولين القول للمرأة الكاتبة اليوم أن عليها التفكير بطريقة تؤمن لها الحياة لتستطيع جعل الأولوية لعملها في الكتابة؟
فيرجينا: تماماً هذا ما قصدته. فما فائدة قفل لم يغلقه مفتاحه؟ فنصيحتي للكاتبات تتركز حول نقطة واحدة وهي إيجاد الوقت للانغماس والتوحد مع فعل الكتابة بعيداً عن تدخلات الآخرين وأفكارهم واحتياجاتهم الخاصة ومتطلباتهم التي تخصهم وحدهم. ومن الغريب أن طيلة هذه السنين لم يتغير شيء وما زالت المرأة مطالبة بأن تكون كل شيء لكل الناس في محيطها، وأن تلعب كل الأدوار لترضي الجميع، وهذا ما يجعل الكاتبة في صراع دائم في اتخاذ قرار عمل الكتابة كأولوية. فالكتابة فعل يتطلب الجدية، وهو ما لن يتحقق بالجلوس على الأريكة بحضور الأطفال والزوج، وقطع حبل الأفكار للإجابة عن أسئلة من قبيل: في أي خزانة أجد البسكويت؟ أو أين مفاتيح السيارة؟ أو تلتزم بعمل آخر قد يباغتك فيه مسؤول باتصال في المساء ليسأل أين فواتير حسابات العام الماضي؟
أنا متأكدة بأن وقتكم الحاضر به أمثلة كثيرة لمثل هذه التدخلات الخارجية التي تعيق كتابة المرأة، و أشعر بفضول لأعرف منك بعض الأمثلة عنها، فهلا شاركتني بشيء منها؟
المحاورة: باغتني بسؤالك هذ، فلم أكن أتوقع أن توجهين أسئلة تخص تجربتي في الكتابة، وعلى العموم فأنا في هذه اللحظة بين أمرين الأول إنني محظوظة لأكون في حضرة فيرجينيا وولف وأحظى بأذنها تصغي إليّ، والثاني أنني أشعر بأنني مكشوفة للعلن، لهذا سأكون صريحة وصادقة فيما سأقوله الآن: قبل بضعة سنين حظيت بهدية مميزة ومختلفة جداً لن أنساها أبداً، فقد منحت شهرين من البطالة، وقد كانت تلك هي المرة الوحيدة في حياتي التي لم أعمل فيها بدوام كامل. قضيت وقتي بالإضافة إلى البحث عن عمل في ممارسة الكتابة. كانت تلك الأيام المستقطعة من الزمن بمثابة الكشف المدهش، فقرأت بنهم وكتبت بشغف، كما لو كنت طيلة عمري في إنتظار هذه اللحظة من الحرية. ومما زاد دهشتي في تلك الأيام أنني حين كنت أجلس لكتابة الشعر (وقد كنت حينها لا أكتب سوى القصائد)، وجدت حروف النثر تتناثر مني وتملأ حيز خمسة عشرة صفحة، وبعد مرور شهرين تزايدت لتصبح ثلاثون صفحة من النثر، وحين حصلت على عمل -أخيراً– لم ينقطع النثر ولكنه استمر في الحضور ولكن بشكل متقطع لا يخلو من المراوغة والخديعة، وكنت مأخوذة بذلك السحر الذي جعلني أعترف بأنني كنت في الواقع أقوم بكتابة رواية، وليست أي رواية، ولكنها رواية تاريخية، تطلبت مني البحث في تاريخ امرأتين من القرن التاسع عشر، إحداهن كان والدها يمنحها 50 جنيهاً في السنة وبذلك فهي مثلك تماما يا فيرجينيا، لم تكن لتقلق بشأن المال، وهذا ما سهّل تكريس وقتها بالكامل لكتابتها. أما الثانية –وهي بطلة روايتي- فقد كانت لأبوين من العبيد، نشأت في أسرة عاملة، لم ترزق بأي ميراث يعينها، ولكنها لم تدع كل ذلك يردعها عن تحقيق حلمها في ممارسة الكتابة. إن العمل في هذه الرواية يعلمني كل يوم كيف تكون قوة التصميم والإرادة، وكيف يمكن للمفاتيح وأقفالها أن تغلق الباب علينا ونحن بداخلها أو أن تغلق الباب عنا تاركةً أيانا في الخارج. سيدتي فيرجينيا علي أن أعترف أمامك، أن بابي انغلق ورائي وأنا في الخارج الآن، بينما المفتاح عالق بداخل الغرفة.
فيرجينيا وولف: يا عزيزتي هذا ليس بالأمر المستعصي عن الحل، فالقفل يمكن استبداله في أي لحظة، ولكن ما يقلقني هو: لماذا لم تستبدلي القفل؟ وماذا كنت تفعلين طيلة هذه المدة التي كنت فيها خارج غرفة الكتابة؟
المحاورة: لقد كنت أكتب أينما وجدت سنحة من الوقت، كتبت في مترو الأنفاق، كتبت في قاعات المطارات، كتبت على طاولة الطعام في مطبخي وأنا في انتظار أن يجهز العشاء، كتبت وأنا أجفف غسيل الملابس. كنت أكتب طيلة الوقت، ومتى ما استطعت، وفي أي فراغ أجده. كتبت.
أشعر بالخجل الشديد منك سيدة فيرجينا، فقد أضعت وقتاً كبيراً وأنا أسرد عليك بما يشغلني، ولكني أعتقد أن الكثير مما أعاني منه تعاني منه غيري من النساء الكاتبات، لذا فإن سمحت لي بطلب أخير، أرجو منك أن تقبلي أن أضع بين يديك كلمات تشرح الأمر عينه، ولكن بلسان كاتبة غيري.
فيرجينيا وولف: بالطبع أسمح، فأنا ما زلت أبحث عن مصادر للإلهام، فلا تعتقدي أن الموت منعني من الحلم.
المحاورة: أتذكر مقولة للكاتبة الفرنسية هيلين سيكسوس- Hélène Cixous : “قد يموت المرء إن لم يستطع كتابة وإخراج ذلك الكتاب الذي اكتمل نموه في أحشائه ويريد الخروج من جسده. هذا الكتاب يتطلب شجاعة خيالية، فابحث عنها. فقد كنت أستدعي الشجاعة والمساعدة حتى من نفسي لمساعدتي في إخراجه مني”. ما قالته هيلين شعور يمثلني تماماً وبلا شك يشعر به الكثير من قرائي، لهذا اسمحلي لي أن اسألك هذا السؤال الأخير قبل عودتك لحياتك في العالم الآخر: على ضوء هذه المقولة التي ذكرتها قبل قليل، بمَ تنصحين كل النساء اللاتي أغُلق عنهن الباب وما زلن غير قادرات الدخول لغرفهن”.
فيرجينيا: نعم لدي نصيحة واحدة، لينسوا أمر البحث عن المفتاح وليقمن بتغيير القفل، وإن كان قفل الباب مكلفاً، فيكفي أن يشترين قفل رخيص بمفتاح كاف لإغلاق الباب عليهن”.
• هذا النص درس عملي ونموذج للكتابة الإبداعية كتبته متخصصة تقوم بتدريسه كمقرر لسنوات.
• عن كاتبة النص:
إلينا جيورجيو Elena Georgiou
كاتبة إنجليزية من أصول قبرصية، عاشت ٢٧ سنة من حياتها في المملكة المتحدة قبل أن تنتقل للعيش في أمريكيا. قامت بتدريس الكتابة الإبداعية، وحازت على عدة جوائز منها جائزة Lambda Literary ، عن كتابها mercy mercy me