ذات ليلة صيفية

كتب بواسطة سماح ممدوح حسن

أمبروز بيرس

ترجمة: سماح ممدوح حسن
في الحقيقة لم يكن دفن “هنري أرمسترونج” دليلا كافيا ليثبت له ويقنعه بأنه مات، فقد كان دائما رجلا صعب الإقناع. لكنه بالفعل دفن، وأجبرته شهادة حواسه على الاعتراف بموته.
وُضع الجسد ممددا على ظهره، ويداه متقاطعتان على بطنه بطريقة مريحة. قسوة احتجاز كامل جسده، وحلكة الظلام من حوله، والصمت العميق، كلها أدلة جعلت من عدم تقبّله لحقيقة موته أمراً مستحيل وخضع للأمر دون اعتراض.
لكن ميت!….لا!. قبل موته كان مريضا للغاية، ومع ذلك لم يكن مباليا على الإطلاق لواقع مرضه ومداه. لم يُقلق نفسه بالتفكير بهذا المصير الاستثنائي المبتلى به.
لم يكن الرجل فيلسوفا. كان مجرد شخصا عاديا وغير موهوب حتى. والآن، وبعد عدم مبالاته بمرضه خمد الجسد المريض تماما. لذا ومع عدم خوفه على المستقبل غط في نوم أبدي، وكل شيء انتهى مع “هنري” بسلام.
لكن في السماء كان يُدبّر لشيء ما. كانت ليلة دفنه ليلة صيفية مظلمة. وأظهرت ومضات البرق المتكررة عمق ظلمتها، وأنطلقت كتلة من الغيوم على مستوى منخفض في الغرب منذرة بعاصفة وشيكة.
تلألأت ومضات البرق القصيرة الخاطفة في أرض المقابر على آثار القبور وشواهدها، فخيّلت لمن يراها أنها ترقص. لذا لم تكن الليلة تصلح لشرود أي من هذه الشواهد الموثوقة عن قبرها. وكان ذلك باعثا على الأمان، إلى حد ما. في قلوب الرجال الثلاثة ممن أتوا لنبش قبر هنري أرمسترونج.
اثنين من الثلاثة رجال كانوا طلّاب في كلية الطب التي تبعد بضعة أميال عن المقبرة. والثالث كان زنجي عملاق معروف باسم”جيس”.
لعدة سنوات، عمل جيس في المقابر. اشتغل في كل الأعمال، وكان من دواعي سروره وفخره ربما، معرفته بمكان كل روح تسكن هنا. ونظرا لطول مدة عمله وعدم اكتظاظ المكان بساكنيه كما هو واضح، فكان من الطبيعي أن يعرف مَن يرقد وأين.
خارج أسوار المقبرة، وفي الأرض الأبعد عن الطريق العام، تقف عربة مضاءة معلّقة بحصانها، تنتظر.
لم يكن نبش القبر صعبا، خاصة وأن التراب الذى أهيل لردم القبر الحديث لم يمضي عليه سوى عدة ساعات، لذا كان سهلا جدا في الحفر، لم يبدي أي مقاومة. إخراج النعش من صندوق القبر لم يكن بسهولة الحفر، لكن في النهاية استطاعوا إخراجه.
كان هذا العمل من الأعمال التي تملأ نفس “جيس” بالسرور والفرح. فك غطاء النعش بعناية كبيرة ووضعه جانبا. كُشفت جثة “هنري” مرتديا بنطال أسود وقميص أبيض. وفجأة، وفي لحظة الكشف نفسها، تحول الهواء إلى لهيب حارق وزئير رعد مدوي زلزل العالم، وبعدها جلس هنري بكل هدوء في مكانه!
هرب طالبي الطب مرتعبين مطلقين صرخات رعب غريبة غير مفهومة، وركض كلا منهم في إتجاه. ولم تكن قوة على الأرض بقادرة على إرجاعهم إلى المقبرة مرة أخرى. لكن “جيس” كان سلالة أخرى ونشأة مختلفة.
في الصباح الرمادي التالي، التقى الطالبين في كلية الطب، شاحبي الوجه من رعب وقلق مغامراتهما في الليلة الماضية، ولا تزال دماؤهم تنبض بجموح في عروقهم.
“هل رأيت ما رأيت أنا؟” صاح أحدهما بالآخر حالما تقابلا.
“يالله، نعم رأيته. ماذا سنفعل الآن؟”
أثناء تجولهما في حديقة الكلية الخلفية، رأيا عربة حصان مربوطة بجوار قاعة التشريح. بطريقة آلية دخلا المشرحة، وعلى مقعد في ركن مظلم فيها، يجلس “جيس”. وقف مبتسما فور دخولهما باتساع أسنانه وعيونه، وقال:
“كنت بانتظاركما لتدفعا لي!”
وعلى نضد التشريح يتمدد جسد “هنري أرمسترونج” عاريا وقد تلوثت رأسه بالدماء والوحل من ضربة المجرفة.

أدب العدد الأخير العدد الخامس والعشرين بعد المائة ترجمات

عن الكاتب

سماح ممدوح حسن